الوباء يؤسس لنواة علاقة عسكرية مدنية جديدة في المغرب

يشير تعامل المغرب مع أزمة كورونا، رغم أن دولا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال تكافح لإدارة الوضع بحدود إمكانياتها، إلى تطور مهمّ في العلاقات العسكرية المدنية بشكل سرّع من السيطرة على الوضع الوبائي. وهذه المسؤولية التشاركية اعتبرها باحثون ومراقبون سياسيون تؤسس لنواة جديدة بالنظر إلى ما كانت عليه هذه العلاقة منذ عقود.

تختلف درجة نجاح كل دولة في مواجهة أزمة كورونا، فثمة محددات كثيرة تعتبر مهمة لتطويق الوباء تتمثل في استنفار الأطباء والمستشفيات والمجتمع المدني، ولكن حتى المؤسسات العسكرية كان لها دور ريادي في معاضدة جهود السلطات المدنية.

وكغيرها من دول العالم، تشكلت صورة لدى المتابعين بعد أكثر من ستة أشهر من بدء محاربة الوباء في المغرب، أن دور المؤسسة العسكرية كان فعالا في مساندته للمؤسسات الصحية المدنية على الرغم من أن دعمه كان محدودا نسبيا ولاسيما في الرعاية الطبية والدعم اللوجيستي والطمأنينة العامة.

ولمس المحلل السياسي محمد مصباح في ورقة بحثية نشرها مركز كارينغي للشرق الأوسط كيف أن التقسيم الواضح للعمل والتعاون المؤسساتي بين الحكومة والقوات المسلحة كانا عاملين أساسيين في هذا الجهد، وهو ما يدل على تطور جوهري في العلاقات العسكرية المدنية المغربية منذ سبعينات القرن الماضي.

سرعة الاستجابة

تقدّم المغرب في تصنيف مجلة “غلوبال فاير باور” الأميركية لأقوى جيوش العالم، للعام الجاري 2020، حيث تقدمت القوات المسلحة الملكية بثلاثة مراكز عن العام الماضي ليصبح في المرتبة الـ57 عالميا من أصل 138 جيشا. ويصل تعداد هذه القوات إلى حوالي 180 ألف جندي.

وبحسب نفس التقرير، لدى القوات المسلحة الملكية 1443 دبابة و2901 مدرعة قتالية و505 مدفعيات ذاتية الدفع و200 مدفعية بالمقطورة و144 منصة لإطلاق الصواريخ و121 مقاتلة بحرية وثلاث فرقاطات عسكرية و105 دوريات حربية بحرية. أما الميزانية فتصل إلى عشرة مليارات دولار.

وقد جعل القصر الملكي المغربي التعاون في الاستجابة للوباء ممكنا من خلال إنشاء آليات تنسيق لتكليف القوات المسلحة بدعم الحكومة المدنية بحسب الحاجة. فقد عقد العاهل المغربي الملك محمد السادس خلال منتصف مارس الماضي، اجتماعا مع كبار المسؤولين لمناقشة الجهود المبذولة لاحتواء الوباء.

محمد مصباح: نلحظ تطورا جوهريا بين الجيش والقطاعات المدنية

وضم الاجتماع مسؤولين عسكريين في مقدمتهم المفتش العام للقوات المسلحة الملكية الجنرال دوكور عبدالفتاح الوراق وقائد الدرك الجنرال دوكور دارمي محمد حرمو والمدير العام للأمن الوطني عبداللطيف الحموشي، فضلا عن مسؤولين مدنيين، بمن فيهم رئيس الحكومة سعدالدين العثماني ووزيرا الصحة خالد آيت الطالب والداخلية عبدالوافي لفتيت.

وعقب الاجتماع أصدر القصر الملكي بيانا يعلن فيه أن الملك محمد السادس، بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، وجّه السلطات الصحية العسكرية والمدنية للعمل بشكل مشترك لمكافحة الجائحة.

ونتيجة لذلك، شاركت القوات المسلحة بشكل نشط في الجهود المبذولة لدعم نظام الرعاية الصحية المدنية، ليس فقط عبر وضع المستشفيات العسكرية القائمة في خدمة مكافحة الوباء، ولكن أيضا من خلال بناء العديد من المستشفيات الميدانية والتدخل الطبي في حالة الطوارئ.

ولم تكتف القوات المسلحة الملكية بذلك، بل قدمت المساعدة لقطاع البحث والتصنيع الطبي للرفع من درجة الاستقلال الطبي في المغرب، وقد ساعد تعاونها على ابتكار جهاز تنفس ذكي.

وعلاوة على ذلك، ساعد الدرك الملكي في تسريع إنتاج المغرب لأدوات الحماية الشخصية، مثل أقنعة الوجه، فمنذ منتصف مايو الماضي، أنتجت وحدة تصنيع أقنعة الوجه التابعة للدرك الملكي أكثر من 17 مليون قناع، بمتوسط أسبوعي يبلغ مليون قناع واق ومئتي ألف قناع جراح.

ولم يكن دعم قطاع الصحة الحكومي المساهمة الوحيدة للقوات المسلحة الملكية في احتواء الوباء، فقد قامت كذلك بنشر مدرعات في مناطق حضرية مثل الدار البيضاء ومراكش والرباط وطنجة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية في العشرين من مارس الماضي.

ولاحظ مصباح، وهو مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، أن خطوة الملك محمد السادس حظيت بمساندة شعبية على غير العادة والسبب الراجح هو أن وجود القوات المسلحة في الشوارع كان مجرد بادرة رمزية من الدولة من دون التعامل المباشر مع المواطنين.

وكان الهدف من هذا الوجود الرمزي، وفق مصباح، وهو زميل مشارك في معهد تشاتام هاوس في لندن، طمأنة السكان وتعزيز وجود الدولة وقدرتها على تنفيذ توجيهات الدولة أثناء حالة الطوارئ الصحية.

سياسة الحياد

لا يعني البروز المتزايد للقوات المسلحة منذ اندلاع الوباء بالضرورة دورا سياسيا أكبر، ولكن يبدو أنه على الأرجح علامة على قدرة القوات المسلحة على تحمل مسؤوليات إضافية، ودعم استجابة الحكومة المدنية للوباء من دون التدخل في إدارتها اليومية.

ويقدم نصف قرن من العلاقات العسكرية المدنية المغربية سياقا مهما للدور السياسي المحدود للقوات المسلحة الملكية منذ ظهور الوباء، فمنذ مطلع سبعينات القرن الماضي، أدت العلاقة بين الدولة والقوات المسلحة إلى تقييد قدرة الجيش على التدخل في الشؤون المدنية.

ويقول إبراهيم سعيدي، الباحث بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، إن النظام الملكي المغربي انتهج استراتيجية منع الانقلاب وإضفاء الطابع المؤسساتي عليه وتضمنت هذه الاستراتيجية استعادة شرعية النظام السياسي الحاكم، وبناء مؤسسات أمنية موازية، وإعادة توزيع الحوافز المادية والامتيازات الاقتصادية.

وبالإضافة إلى ذلك، تمت مأسسة القوات المسلحة الملكية من خلال مجموعة من القواعد والمبادئ والإجراءات الدستورية والقانونية بنظام قائم على الجدارة، وهو ما جعلها تبقى على الحياد بعيدة عن المجال السياسي، ولكن مع تحديث أجهزتها متى ما استدعت الحاجة إلى ذلك.

والأهم من ذلك، أن هذه العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني لم تتغير خلال الجائحة، حيث يتم التدقيق على القوات المسلحة بشكل مباشر من قبل الملك محمد السادس، الذي يظل رأس الدولة وقائد القوات المسلحة، وكمثال على ذلك أقال العاهل المغربي في مطلع مايو الماضي قائد الحرس الملكي الجنرال ميمون المنصوري بعد تفشي فايروس كورونا في قاعدته في الرباط.

ومع ذلك، لم يبد استقرار النظام السياسي موضع شك، ومن هنا كلّف القصر الملكي الحكومة المدنية بإدارة الأزمة وكان من الواضح منذ بداية الوباء أن دور المؤسسة العسكرية سيكون مؤقتا وأن وظيفتها محددة بشكل دقيق ومحدودة. كما أشار بيان القصر بوضوح إلى أن الدور الوحيد للقوات المسلحة هو دعم قطاع الرعاية الصحية المدنية.

ودفع ازدياد عدد الحالات منذ يوليو الماضي النظام الصحي المثقل بالأعباء إلى طلب المزيد من الدعم العسكري بعد أن جهز قرابة ثلاثة آلاف سرير للعناية المركزة لاستقبال الحالات الحرجة والتعامل معها على وجه السرعة.

ولكن عندما زاد عدد المرضى الذين يحتاجون إلى العناية المركزة، لجأ قطاع الرعاية الصحية المدنية إلى القوات المسلحة لبناء العديد من المستشفيات الميدانية وتقديم الدعم الطبي على الميدان.

ولم تفرض القوات المسلحة نفسها بطرق أخرى، حيث لم ينص قانون الطوارئ الصحية على دور للقوات المسلحة، لكنه أشار إلى أن إدارة الأزمة يجب أن تتم بشكل مشترك وحصري بين وزارتي الداخلية والصحة. ومن المرجح أن يستمر الحضور الخفيف للجيش وتركيزه على دعم السلطات الصحية المدنية حتى نهاية الوباء.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: