مازلت أتذكر إلى اليوم، ما قاله لي في بداية التسعينيات أحد مجاهدي حرب التحرير، لم يتركونا نفرح بالاستقلال. لم يتركونا نتعرف على هذا البلد الذي ناضلنا من أجل استرجاع استقلاله، من دون أن نعرف كل مناطقه، لم أكن أعرف وهران، أنا ابن أقصى الشرق الجزائري. كنت أريد شراء سيارة، أزور بها كل مناطق البلاد التي لا أعرفها مثل وهران التي سمعت عن جمالها كثيرا، كنت أنوي القيام بهذه الرحلة مع زوجتي، التي كنت أنوي الارتباط بها. كل هذا لم يحصل، لأنني وجدت نفسي في السجن مباشرة، بعد الاستقلال. بعد سبع سنوات في الجبل ضد الاستعمار الفرنسي، بعد اتهامي بالاتصال مع وجوه من المعارضة، منهم من كان مسؤولي السياسي والعسكري المباشر أثناء الثورة.
كان هذا مصير الكثير من المجاهدين، والقيادات السياسية والعسكرية المعروفة، مباشرة بعد الاستقلال، مثل محمد بوضياف، الذي وجد نفسه منفيا بعد خروجه من السجن هو وبعض الوجوه التاريخية، مثل كريم بلقاسم ورابح بيطاط ومصطفى لشرف وغيرهم، كانوا أحسن حالا في نهاية الأمر، من أيت أحمد الذي وجد نفسه في السجن، أو محمد شعباني الذي حكم عليه بالإعدام، بعد محاكمة شكلية من رفاق السلاح.
فترة ما بعد الاستقلال مباشرة، التي وجد فيها الشعب الجزائري نفسه على أبواب ما يشبه الحرب الأهلية – أزمة صيف 62 – وصراعات سياسية بين النخب المتكالبة على السلطة، أبعدت المواطنين نهائيا عن العمل السياسي. بعد أن بادر نظام بن بلدة – بومدين، بفرض حكم الحزب الواحد، تم فيه حل كل الأحزاب السياسية، على قلتها وغلق كل أشكال التعبير الإعلامي والسياسي المستقل أو شبه المستقل. من صحافة وإعلام. كانت مازالت تتمتع بالحد الأدنى من التنوع، لغاية السنوات الأولى للاستقلال. حصل كل هذا في وقت كان فيه الشعب الجزائري في قمة التفاؤل باستقلال بلده، بعد حرب تحرير طويلة خرج فيها منتصرا، ضد الاستعمار، عانى فيها الويلات، ليجد نفسه أمام حسابات نخب عسكرية وسياسية، كان همها الوحيد الوصول إلى مراكز السلطة، بكل الوسائل، حتى إن تم كسر عنفوان هذا الشعب والقضاء على تفاؤله، الذي عبّر عنه بقوة في الأيام الأولى للاستقلال، في الشوارع والطرقات، وهو يصرخ ضد الفوضى السياسية ومشروع الحرب الأهلية «سبع سنين بركات».
ما حصل في سنوات الاستقلال الأولى، يشبه إلى حد كبير ما يحصل هذه الأيام، بعد أكثر من سنة من الحراك الشعبي، الذي عاد فيه للشعب الجزائري الكثير من الأمل والتفاؤل، بمستقبل سياسي مختلف، يبني فيه دولته الوطنية على أسس جديدة.. بعد معاناة مع التهميش بكل أشكاله، والكثير من أشكال الفساد المالي والسياسي، الذي أهدر قدرات البلد، وهدد الدولة الوطنية ذاتها، التي نجح الشعب الجزائري في استعادتها بعد أكثر من قرن وربع القرن من النضال السياسي والعسكري، بعد أن تسلط على البلاد بعد الاستقلال مباشرة نظام حكم، بني على توازن سياسي هش، وصل بموجبه الرئيس أحمد بن بلة إلى الحكم، على ظهر دبابة جيش الحدود، ليتم الانقلاب عليه بعد أقل من ثلاث سنوات 62/65. من قبل الرفاق أنفسهم، الذين جاؤوا به إلى الحكم وفضلوه على وجوه تاريخية أكثر شرعية، رفضت أن تكون لعبة بأيدي ضباط جيش الحدود. فترة حكم طبّق بن بلة خلالها كل أنواع التسيير الاقتصادي والاجتماعي، بدءا من التسيير الذاتي على الطريقة اليوغسلافية إلى الاشتراكية الناصرية. نظام حكم استنجد بكل ما كان موجود على مستوى الساحة الفكرية، من بينهم كان العروبي والتروتسكي والوطني ضيق الأفق. بن بلة الذي كان، على الرغم من أعداد مستشاريه وتنوعهم، لا يسمع إلا نفسه، يتخذ قراراته وهو يلقي خطابا على المواطنين.. رفض بناء مؤسسات حكم تتمتع بالحد الأدنى من الشرعية والتمثيل، لكي يبقى هو الحاكم الفعلي الوحيد كشخص، وجد نفسه في نهاية مسيرته كرئيس وحيد، وجها لوجه مع طاهر زبيري وجماعة الجيش، الذين جاؤوا لإلقاء القبض عليه في ليلة صيف جميلة في «فيلا جولي». لأنه لم يعرف كيف يبني على تفاؤل الجزائريين وتجندهم الذي عبروا عنه بقوة، بعد الاستقلال.
التعديل الدستوري على «جزائر جديدة» تقول كل المؤشرات إنه يريد بناءها بوجوه قديمة وعقليات سياسية أقدم
ما يحصل في الجزائر هذه الأيام قد لا يصل بالضرورة إلى هذه النهاية العنيفة والحزينة، لكنه يشبهه إلى حد كبير، إذا نظرنا إلى مستوى التخبط العالي الذي يعاني منه نظام الحكم، بعد أكثر من سنة ونصف السنة من الحراك، تفاءل خلاله الجزائريين كثيرا، وهم يطالبون بسلمية، بتغيير نمط تسيير دولتهم الوطنية، وبناء مؤسسات شرعية، وضمان حرياتهم الفردية والجماعية، بدل هذا وجدوا أنفسهم في السجن، لأنهم كتبوا منشورا على الفيسبوك، يعبرون من خلاله، بعد غلق شبه كلي لكل وسائل الإعلام في وجوههم، وصلت إلى حد سجن الصحافيين بأحكام ثقيلة، كما حصل مع الإعلامي خالد درارني. في الوقت الذي يتكلم فيه التعديل الدستوري على «جزائر جديدة» تقول كل المؤشرات إنه يريد بناءها بوجوه قديمة. وعقليات سياسية أقدم، ترى في حالة الاضطراب التي يعيشها النظام السياسي، فرصة لا تعوض للقفز إلى مناصب الريع والسلطة، مهما كانت شكلية، تماما كما كان الحال في بداية الاستقلال في سنوات حكم بن بلة الأولى. نظام سياسي ونخب حاكمة ترفض البناء على لحظة التفاؤل والتجنيد الشعبي الكبير في 2019- 2020 تماما كما رفضت ذلك في 1962 بعد الاستقلال، تفضل بدل ذلك الصراع الشللي بين الأشخاص والجماعات الضيقة، بعيدا عن المؤسسات التي تفضل الكلام عنها وليس بناءها على أرض الواقع. نخب تفضل على الدوام حسم صراعاتها بعيدا عن الشعب، لأنها تريد أن يبقى الشعب على الهامش، من دون تنظيم سياسي، ولا نخب يعبر من خلالها، ولا صوت يستمع له، حتى بعد ثورة تحرير رائدة وحراك شعبي أبهر العالم.
تجربة تاريخية هي التي قد تفسر لنا لماذا طالب الجزائريون بالاستقلال.. نعم الاستقلال في 2019 خلال مسيرات الحراك، هم الذين كان يفترض أنهم مستقلون منذ 1962. شعار استهجنته السلطة وحتى جزء من النخب السياسية وبعض المعارضة، لأنها لم تفهم الشعور الشعبي العميق.