فرنسا بين الإرهاب وداعميه من وراء الستار

لم يكن ذبح المدرس الفرنسي صامويل باتي (47 عاما) بتلك الطريقة البشعة على يد الطالب عبدالله أنزوروف (18 عاما) بالأمر المفاجئ، في ظل اتساع دائرة الكراهية التي سبق للرئيس إيمانويل ماكرون أن نبّه إليها منذ أيام في خطابه المثير للجدل، بمناسبة الإعداد لقانون “الانفصال الشعوري”، بهدف “مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية”.

القاتل نما وترعرع وتشكل وعيه في فرنسا، التي وصلت إليها أسرته ذات الأصول الشيشانية لطلب اللجوء، وهو لا يزال في السادسة من عمره، وفي هذا العام حصل على بطاقة الإقامة الفرنسية، وعندما ارتكب جريمته كان واقعا تحت تأثير حملة قادها عدد من أولياء الطلبة المسلمين عبر الإنترنت ضد مدرس التاريخ والجغرافيا، متهمين إياه بالعداء للإسلام.

يقول أحد الأولياء إن ابنته، وعمرها 13 عاما، روت له كيف طلب المدرس من الطلبة المسلمين رفع أصابعهم، ولما فعلوا دعاهم إلى مغادرة الفصل، لأنه كان سيعرض على بقية الطلبة رسما في إطار حصة حرية التعبير، يذكّر برسوم صحيفة “شارلي إيبدو” المسيئة للنبي محمد، يقول الولي إن ابنته رفضت الخروج، ونقلت له ما حدث فنشر شريط فيديو عبر الإنترنت، وسرعان ما انتشر بين الجاليات المسلمة في فرنسا.

أثبتت محاضر التحقيق أن المدرس تعرض إلى تهديدات جدية بالقتل، قبل أن يغتاله الطالب أنزوروف، أمام إحدى المدارس الإعدادية بضاحية كونفلانس سانت أونورين، شمال باريس، وأن القاتل لم يكن طالبا لدى القتيل ولكنه تأثر بالحملة التي استهدفت المدرس.

أثارت الحادثة جدلا واسعا في فرنسا، المصدومة بواقعها المنذر بما هو أسوأ، في ظل ارتفاع منسوب العمليات الإرهابية على أراضيها، وبعجزها عن دمج فئات من المسلمين في مشروعها الثقافي والحضاري المبني على مبدأ الحرية، ومن ذلك حرية التعبير غير القابلة للحد من سقفها تحت أي مبرّر.

وبالمقابل، أثبتت أن لها الكثير من المشيدين بها في البلاد العربية والإسلامية، فثقافة الإرهاب منتشرة بشكل غير مسبوق، وهي تتجاوز بكثير نسبة الممارسات الإرهابية، وزادت الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في تعميمها على نطاق واسع، وقربت المسافات بين من يتبنونها.

الإرهاب تحول إلى صناعة تدار من قبل جماعات الإسلام السياسي الطامحة إلى حكم العالم، والتي لا تزال تفكر بمنطق الفتوحات والغنائم والسبي وتقسم العالم إلى ديار إسلام وديار كفر، وهي تشتغل في ذلك على الفئات الهشة من المجتمعات، وتعتمد على مظلومية كاذبة في الترويج لمشروعها، وتدرك أن الخطاب المتطرف أكثر جذبا من الخطاب المعتدل، خاصة لدى الشباب والفقراء وفاقدي الوعي النقدي والمصدومين حضاريا والمهزومين من الداخل، ممن يعكسون خيباتهم الشخصية على المجتمع، بزعم أن أزمة الأمة في عدم تطبيق الشريعة.

كما أن دعم الإرهاب أصبح أداة لاكتساب شرعية شعبية لدى الراغبين في الوصول إلى السلطة في الدول التائهة تحت الانفلات بسبب الديمقراطيات الزائفة التي يدعمها الغرب، وتحول المتشددون إلى رصيد انتخابي لبعض القوى السياسية، يوصلها إلى البرلمانات والتغلغل في مفاصل الدول والحكومات.

ولعل ما يجمع بين المتشددين هو كرههم لفرنسا، وهذا أمر يتفقون عليه من قوى الإسلام السياسي التي تحاول تقديم نفسها على أنها معتدلة، وبنظرة بسيطة إلى إسلاميي شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، يمكن أن ندرك أن فرنسا باتت العدو الأول لدى الإسلاميين الذين يحاولون الثأر من التاريخ والثقافة الموروثة عن فترة الاستعمار الفرنسي، ومن الدولة الوطنية المتهمة من قبلهم بأنها عميلة لباريس ومتأثرة بنموذجها الفكري، لكن الأخطر من ذلك أن أطماع تركيا زادت من رفع منسوب الكراهية ضد فرنسا التي بات الرئيس أردوغان يعتبرها عقبة أمام مشروعه العثماني الجديد.

والتأثير التركي في هذا الاتجاه أصبح عابرا للقارات، يستفيد من تمويلات قطر السخية للأحزاب والحركات والميليشيات والجماعات والجمعيات ووسائل الإعلام الإسلامية، سواء كانت إخوانية أو جهادية، وكذلك من وجود قوى غربية أخرى تستعمل هذا الصراع في إطار سعيها لتغيير التوازنات في الجغرافيا السياسية.

في تونس، عندما عبر أحد أعضاء نواب البرلمان عن مساندته الضمنية لجريمة ذبح المدرس الفرنسي، تدخلت السلطة القضائية للتحقيق معه. الأخطر في الموضوع ندركه عند النظر في التعليقات الداعمة لموقفه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والساخرة أو الرافضة لمواقف من اعتبروا الجريمة إساءة للإسلام والمسلمين.

لقد أصبحنا أمام نذر موجة جديدة من الإرهاب قد تكون أعنف من سابقاتها، وستكون ضمن مشروع التمكين لأردوغان في أطماعه التوسعية، وقد نرى بعد عام أو عامين من الآن حالة من الفوضى في دول عدة تغلغل فيها الإرهاب بشكل غير مسبوق، وأصبحت له حاضنة سياسية تدعم ارتباطه بوهم الخلافة، وليس خافيا أن فرنسا ستكون الأكثر استهدافا بعد اتساع حملات الكراهية ضدها.

عندما وصلت عائلة أنزوروف إلى فرنسا في العام 2008 لطلب اللجوء تم منحها وثيقة إقامة مطولة باعتبارها معارضة للنظام الروسي، وكان عبدالله في السادسة من عمره، لكن حادثة الجمعة الماضي، أثبتت أن من فرّ من بلاده حاملا فكرة الإسلام السياسي لن يتخلى عنها، وحتى إن لم يفعّلها بنفسه، فقد يأتي من ذريته من يفعّلها، وهذا ما حدث.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: