الأعياد الدينية تفجر صراعات مذهبية طائفية في المجتمع الجزائري
الانقسام المذهبي في الجزائر يطغى على المناسبات الدينية، ويحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات للتراشق الكلامي والاتهامات العقائدية، وحتى الإعلان الواضح والصريح عن الولاء لما بات يعرف بـ”الجاليات الدينية”، المرتبطة بأقطاب وعواصم إقليمية ودولية لم يعد خافيا لدرجة أن الكثير من الجزائريين، باتوا لا يميزون بين ما توارثوه في هذا المجال، بسبب ما لحقه من خطاب يصنف أعيادهم وتقاليدهم في خانة المحظور الديني، أو يفرغها من محتواها في أحسن الأحوال، كما هو الشأن بالنسبة لاحتفاليات المولد النبوي وقبلها موسم عاشوراء.
تحوّلت المناسبات والأعياد الدينية في الجزائر، إلى فرص سانحة لإخراج مكنون الولاءات المذهبية والطائفية الدخيلة إلى السطح، متخذة من شبكات التواصل الاجتماعي منصات للتعريف والترويج لنفسها، مما يطرح بإلحاح مسألة دور المؤسسات المختصة في توفير الأمن الديني والأيديولوجي للبلاد، خاصة وأن الضوابط التشريعية المتاحة يبدو أنها لم تعد كافية للجم تمدد مختلف التيارات والتوجهات الدينية الغريبة.
وسجلت الجزائر في الآونة الأخيرة تفاقما لافتا للخطابات المذهبية والطائفية، رغم الضوابط التي وضعها قانون الشعائر الدينية، ويبدو أن المعركة قد تسللت من قيود القبضة المحكمة على المساجد والمؤسسات الدينية، إلى الفضاءات الافتراضية التي تحولت إلى ساحة صراع متجدد بين مختلف التيارات والتوجهات.
ورغم انصهار الطابع الديني والاجتماعي لكافة المناسبات والأعياد الدينية في البلاد منذ عقود متتالية، إلا أنها أخذت مؤخرا طابعا مذهبيا وطائفيا صريحا، ففي كل مناسبة أو عيد تسجل معارك ضارية على شبكات التواصل الاجتماعي، لتعلن بذلك عما بات يعرف بـ”الجاليات الدينية”، المرتبطة بأقطاب وعواصم إقليمية ودولية.
ولم يعد في الغالب الكثير من الجزائريين، يميزون بين ما توارثوه في هذا المجال، بسبب ما لحقه من خطاب يصنف أعيادهم وتقاليدهم في خانة المحظور الديني، أو يفرغ من محتواها في أحسن الأحوال، كما هو الشأن بالنسبة لاحتفاليات المولد النبوي وقبله موسم عاشوراء.
وإذ تمكنت المؤسسات الرسمية من حسم موقف الخطاب الرسمي في هذه المناسبات بعدما سجلت عدة انحرافات خلال السنوات الأخيرة، فإن السجال احتدم على شبكات التواصل الاجتماعي بين مختلف التيارات المتنافرة حول الأبعاد والدلالات الروحية والاجتماعية لتلك الأعياد والمناسبات.
وبين تحريم إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، وبين الاستمرار في العمل بالطقوس المتوارثة أو تعديلها، تفاجأ المتابعون للمشهد الديني في البلاد، بالظهور البارز للأبعاد الشيعية والمناحب التي تقام بمناسبة ذكرى عاشوراء أسوة بما يقام في العواصم والمدن الشيعية الإسلامية والعربية، رغم أن الأمر كان يتعلق في المخيال الجزائري بموسم الزكاة وبموازين القوة ونصرة الضعفاء على الأقوياء.
وعجت مختلف المنتديات والكثير من المواقع على شبكة الإنترنت بما وصفته بـ”كشف الحقيقة عن موسم عاشوارء”، في إشارة لذرائع ميلاد المذهب الشيعي، والمظالم التي تعرضت لها أسرة النبي محمد منذ مقتل الإمام الحسين في كربلاء، وملاحقة أحفاده وذريته، ما أجّج الصراعات الدموية بين قطبي أتباع الدين الإسلامي.
ويبدو أن المناسبات والأعياد الدينية، التي كانت عامل توحيد الجزائريين بمختلف توجهاتهم وخلفياتهم الأيديولوجية والسياسية والفكرية، تحولت إلى فرص لتأجيج الصراعات في ظل غفلة غير مبررة من طرف المؤسسات المختصة. ومع أنه تم تشديد المعالجة الإدارية للمساجد والمؤسسات الدينية بشكل شبه كامل، فإن المجتمع الافتراضي بات أكثر خطرا على الاستقرار الاجتماعي والديني في البلاد.
ورغم إظهار السلطات المذكورة جدارة كبرى وإمكانيات متطورة في تطويق الجبهة الافتراضية في ما يتعلق بالشأن السياسي، حيث تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى مصيدة لإسقاط الناشطين المعارضين، فإن التغافل يبقى مستمرا مع الناشطين المذهبيين وأنصار الطوائف الدينية، رغم الخطر المتفاقم الذي يشكلونه على وحدة وتماسك المجتمع.
ويبدو أن مساعي تأطير النشاط الديني في البلاد، بداية من دسترة الحريات الدينية في الدستور الجديد المقرر عرضه على الاستفتاء الشعبي في الفاتح نوفمبر الداخل، وتنظيم عمل الجمعيات والهيئات والمؤسسات الدينية، لم يحصنا الأمن الديني والأيديولوجي في البلاد، بدليل تفاقم السجال المذهبي والطائفي في الآونة الأخيرة خاصة بين المداخلة والشيعة، وهما اللذان يتوجه اهتمامهما للأفكار والمعتقدات عكس التيار الإخواني المتفرغ للشأن السياسي.
وامتزجت في الغالب الأبعاد الروحية للأعياد المذكورة مع عادات وتقاليد اجتماعية توارثتها الأجيال، قبل أن تصطدم بحملة ذم وتشكيك وطعن في شرعيتها، على غرار ما يجري في المولد النبوي وفي موسم عاشوراء، وهو ما ولّد حالة من التشنج الاجتماعي بين مختلف التوجهات والتيارات.
واذا حرّم التيار المدخلي الاحتفالات التي دأبت العائلات على إقامتها، مستندا إلى مبالغات تسجل هنا وهناك، أو نصوص لمشيخة التيار، فإن أنصار المذهب الشيعي لم يخفوا استغرابهم من إرث عاشوراء المتداول في المجتمع الجزائري، مقابل نسيان المظلمة التاريخية التي استنسخوها من خطاب المذهب.
ورغم أن التقاليد الدينية المعروفة في تلك المواسم تتسم بتكريس أواصر التضامن والتلاحم بين طبقات المجتمع حيث تقام الولائم الجماعية والذبائح خاصة في منطقة القبائل من أجل الاهتمام بالفقراء والمساكين، كما تستغل في التكافل بين الأغنياء والفقراء، حيث يتم توزيع أموال شعيرة الزكاة، إلا أن ذلك لم يكفل لها النجاة من الطعن والتشكيك خاصة بشأن الأفكار المستجدة على شبكات التواصل الاجتماعي.
ولم تعد الولاءات المذهبية والطائفية للأقطاب والعواصم الإقليمية خفية على الرأي العام في الجزائر أو على السلطات المختصة، إذ لا يخلو أي خطاب رسمي حول الأمن الديني والأيديولوجي، من الحديث بخصوص ضرورة إرساء مرجعية دينية محلية للوقوف في وجه ما يوصف بـ”التيارات الدخيلة”، رغم أن الوتيرة الميدانية تشير غير ذلك تماما.
وكما صارت حماسة الإخوان المحليين معلنة في “الاحتفاء بما كل ما هو تركي، وبزعامة رجب طيب أردوغان للعالم الإسلامي”، وباتت القوى والأذرع الإخوانية أدوات تركية في الجزائر، فإن وفاء أنصار التيار المدخلي لم يتحرك قيد أنملة رغم الانتكاسات المتلاحقة للتيار، وصار التغلغل الشيعي لافتا ومثيرا من خلال حملة أدارها جنوده الافتراضيون خلال موسم عاشوراء الفارط.
وإذا كان تنظيم طقوس الشيعة يتم في سرية خلال أوقات سابقة في بعض المدن كوهران والشلف وقسنطينة، فإن نخبة شيعية بصدد التشكل في غفلة من المختصين، جسدتها منشورات وقصائد رثائية وبعض النصوص النقدية للمنهاج السني تصدرت العديد من الصفحات والمنتديات الافتراضية خلال الموسم المذكور.
ويبدو أن تكليف رئاسة الجمهورية المستشار عيسى بلخضر، بمهمة الجمعيات الدينية، بقدر ما عكس اهتمام سلطات البلاد بالحراك الديني وبالخطاب المسجدي، إلا أنه يبقى بعيدا عن تحقيق أهداف الأمن الديني والأيديولوجي، فالرهان على التيار الصوفي كمرجعية محلية وبديلا
ناجعا للتيارات المتدافعة تكتنفه عدة اختلالات، أبرزها الصدقية والاستقلالية، فارتباطه الوثيق بالسلطة جعل منه ذراعا دينية أكثر منه علاجا روحيا لتحصين المجتمع من تغلغل المذاهب الغريبة.