جليلة السباعي مفكّرة حفرت في ثنائية فرنسا والإسلام

كان لشهر أكتوبر الجاري وقع خاص في النقاش العام داخل فرنسا من خلال وقائع عنوانها الأول “الإسلام”، بعدما أعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحديث حول ما يمكن اعتباره الموقف الرسمي والنخبوي من الإسلام والمسلمين، حين صرح قبل أيام بأن “الإسلام يمر بأزمة”.

وستكون هذه السطور متزامنة مع الجدل الدائر حول علاقة فرنسا بالإسلام من البعد الفكري، بالتركيز على تحليل ذلك وتأثير متغيرات متنوعة حول الإسلام في فرنسا كما قاربته المغربية المولودة بمدينة فاس المغربية والمقيمة بفرنسا، جليلة السباعي التي عملت كباحثة مشاركة بكرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي بكوليج دو فرانس، والتي وافتها المنية بفرنسا وتمت مواراتها الثرى قبل أيام، باعتبارها مفكرة ومؤرخة رسمت بحنكة المسافات الفاصلة والمتداخلة في سياسة فرنسا مع الإسلام والمسلمين، رغم مرضها وإرهاقها.

آخر الانشغالات العلمية للسباعي كانت تحضير ملف للنشر حول “مسألة الخلافة”، عملت فيه إلى جانب الباحث الأستاذ في الكوليج دو فرانس، هانري لورانس، الذي حضرت معه الورقة حول الإشكال الذي يجسّده الموضوع.

فرنسيون ومسلمون

آخر كتب السباعي “السياسة الإسلامية في فرنسا”، سيبقى، حسب كثيرين، مرجعا رئيسيا لأجيال المستقبل في فهم السياسة الفرنسية للإسلام، وقد حصل على الجائزة الكبرى لـ”ملتقيات التاريخ العربي”، التي يقدّمها معهد العالم العربيّ بباريس

موقف ماكرون تأسس على اعتبارات سياسية وأيديولوجية وانتخابية، نظرا للكتلة المهمة والمؤثرة المكونة من ملايين المسلمين داخل فرنسا. زد عليه إعلان الرهينة صوفي بيترونين، إسلامها بعد 4 سنوات قضتها مختطفة في مالي من طرف جماعات جهادية تنشط بالساحل والصحراء، حيث صدمت الكل بأن اسمها لم يعد صوفي، وإنما مريم بحمولتها العقائدية والتاريخية عند المسيحيين والمسلمين على حد سواء.

في هذا الخضم المتلاطم الذي يختلط فيه الأيديولوجي مع تكتيكات السياسي والحسابات الانتخابية والعوامل النفسية والاجتماعية المشكِّلة للتاريخ الفرنسي فكريا وثقافيا وعسكريا ودبلوماسيا، في هذا الخضم، تغيب السباعي التي عالجت علاقة الدولة بالإسلام والمسلمين من قلب فرنسا، ويرى أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغربي، أن السباعي كانت تتحدث بحماسة عن اكتشافاتها النظرية بخصوص الخلفيات الأيديولوجية لجهابذة البحث الفرنسي حول الإسلام، ممن كان يُقام لهم ويُقعد خارج فرنسا، على عهد الاستعمار وبعده.

لأهميته وراهنيته قيل عن آخر كتب السباعي “السياسة الإسلامية في فرنسا”، إنه سيبقى مرجعا رئيسيا لأجيال المستقبل في فهم السياسة الفرنسية للإسلام، وقد حصل على الجائزة الكبرى لـ”ملتقيات التاريخ العربي”، التي يقدّمها معهد العالَم العربيّ بباريس، كتابتها الأكاديمية لم تحل دون مشاركتها النهمة في كل ما يرتبط بالإسلام والمسلمين في فرنسا وخارجا، ويكشف الوزير التوفيق أنها طلبت منه في أوائل هذا العام، أن يشارك ببحث حول “إمارة المؤمنين” وخصوصية النظام المغربي في الحفاظ على هذه المؤسسة التي ضاعت في كل البلدان، وتريد بعض التيارات استرجاعها عن طريق الإكراه باسم “الخلافة”، وكانت تقول له، حسبما قال “أنا متأكدة أن قراءة أكاديمية للنظام المغربي ستلقي كثيرا من الضوء على هذا الإشكال، إشكال الخلافة”.

بعض الأكاديميين يجمعون على ضرورة تغيير فرنسا الرسمية لسياساتها تجاه الإسلام الذي يعتنقه أكثر من عشرة ملايين فرنسي، لكن السباعي لم تقف عند هذا الحد، بل أكدت أن العلاقة بين الدولة الفرنسية والإسلام، لطالما كانت غامضة

وتركيزا على هذه النقطة في السياسة الفرنسية منذ زمن طويل كانت إدارة عبادة المسلمين من طرف الفرنسيين، مختلفة في كل من الجزائر وتونس والجزائر، حسبما توصلت إليه السباعي، حيث أدى تدمير الهياكل الدينية بالجزائر وهجرة قادتها إلى سوريا إلى خلق فراغ ملأته الحكومة بجعل أفراد الطائفة رسميين، وهو ما لم يحدث في البلدين الآخرين حيث، على العكس من ذلك، تم إبقاء الأخيرين يلعبان على قيادتهما؛ الداي في تونس وأمير المؤمنين في المغرب.

تعتبر الجهادية والإسلام السياسي والهجرة المغاربية محددات مهمة لمعرفة السياسة الفرنسية بخصوص الإسلام والمسلمين داخل وخارج الجمهورية، كان ذلك قبل وبعد ثورة الملالي الإيرانية عام 1979، وفي ظل هذه المحددات والخبرات كيف تم فهم التناقض بين توقعات واحتياجات المسلمين الفرنسيين والتوجهات السياسية الحكومية عبر تاريخ الجمهوريات المتوالية؟ سؤال عملت جليلة السباعي للإجابة عليه انطلاقا من ترسانة مفاهيمية ووثائقية جد قوية، بتأكيها أن إدارة فرنسا للإسلام والعبادة الإسلامية خلال الفترة الاستعمارية تجعل من الممكن تقديم إجابة وقياس مدى صياغة رؤية باريس من خلال القراءة الكاثوليكية للحقيقة الدينية.

ويبدو أن السباعي قد تفاعلت في أبحاثها مع تساؤلات الفيلسوف عبدالنور بيدار، التي لخصها في السؤال؛ متى يتوقف الفرنسيون عن استفزاز الرأي العام بشماعة الإسلام، وهل هذا الإسلام هو العدو؟ وهل إعادة أسلمة الشباب المسلمين هي التي يجب أن تثير قلقنا أكثر أم الحالة المتدهورة عموما للمجتمع الفرنسي، حيث إن الشباب عموما والشباب المسلمين المهاجرين خاصة لا يجدون لأنفسهم مكانا؟ ولماذا يعزل دائما موضوع الإسلام من بين هذه الأسباب الاجتماعية الخارجة عن الإسلام؟

بينما يجمع أكاديميون بأن على فرنسا الرسمية تغيير سياساتها تجاه الإسلام الدين، الذي يعتنقه أكثر من عشرة ملايين من مواطنيها، لكن السباعي لم تقف عند هذا الحد، بل أكدت بأنه لطالما كانت العلاقة بين الدولة الفرنسية والإسلام، منذ الجمهورية الثالثة، غامضة خصوصا في ما يتعلق بالعبادات، ما جعل التفكير يتمحور حول هل من الممكن السيطرة على السكان الذين يُنظر إليهم على أنهم خطرون، ومتمردون، وغير قابلين للاندماج، وأكثر أهمية من الناحية العددية، وعلى استعداد للانتفاض في أي وقت.

إدماج أم احتواء

دراساتها في اللغة العربية والعلاقات الدولية وعلم الاجتماع، أدوات أهّلت السباعي، لدراسة الترابط التاريخي ما بين المسيحية والسياسة الاستعمارية الفرنسية

لا تزال تجربة الماضي الاستعماري الفرنسي تغذي العلاقة مع الإسلام والمسلمين في فرنسا اليوم، وهناك نقاش طويل حول التعارض المفترض بين الإسلام مع الجمهورية، وفي رأي السباعي، أن عدم توافق الإسلام مع الجمهورية ليس سوى ذريعة لعدم معالجة مسألة تعدد العرقيات والهويات الدينية والثقافية بشكل مباشر أو بشكل أدق مسألة “إضفاء الصبغة” على الهوية الفرنسية، والتي تتجاوز بالطبع، إلى حد كبير مسألة المسلمين أو أحفاد المسلمين من الإمبراطورية القديمة.

تجربتها في البحث والتدريس في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، مكنتها من نشر مجموعة من الأبحاث التي تقدم قراءة جديدة للمفاهيم ذات العلاقة بهياكل النظام السياسي للدولة الإسلامية مثل “الخلافة” أو “الشورى”، وكذا الرؤية الفرنسية لهذا الدين ومعتنقيه، إلى جانب أن حصولها على إجازة في اللغة العربية وتخصصها في العلاقات الدولية وعلم الاجتماع، أهّلاها منذ بداية مسيرتها العلمية، لدراسة الترابط التاريخي ما بين المسيحية والسياسة الاستعمارية الفرنسية في البلاد الإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث انكبت الباحثة المغربية بالديار الفرنسية على البحث في إشكاليات اندماج المهاجرين المغاربيين في علاقتها بالانتماء الديني، في فرنسا على وجه الخصوص.

ولفهم الوضع الحالي يتوجب إجراء فحص دقيق للخطاب المستمر منذ القرن السابع عشر الذي يقول إن الإسلام يشكل عقبة في حد ذاته، ومن هنا تأتي الحاجة إلى إصلاحه، لأن ما توصل إليه المستشرقون الفرنسيون والدوائر الاستخبارية والعلمية هناك، أن ولاء المسلمين للأمة “مجتمع المؤمنين” سيكون عقبة أمام العلمانية وتكامل القيم الجمهورية بالتالي لن يكون من الممكن تصور “العيش معا” بسبب التهديد بالعنف المتأصل في الإسلام، على أساس مفهوم الجهاد.

وفي تقييمها لذلك، تقول السباعي، إن اهتمام الاستشراق قبل الثورة الفرنسية في العام 1789، انصب على إصلاح العلاقة بين السياسة والدين في فرنسا ووضع الأساس لمناقشات حول الإسلام والدين واللغة، ومن خلال ترجمات القرآن تم النظر إلى الدين الإسلامي على أنه طبيعي أكثر من الدين الكاثوليكي، ومنذ ذلك الحين، نشأت صلة مباشرة بين الإسلام والدراسات اللاهوتية ودراسات اللغات. ومع ذلك، ترى السباعي، أنه  قد بدأ بناء هذا النموذج العلماني العالمي

في فرنسا من خلال تقديم الإسلام أولا كنموذج للإلهام، قبل وضعه كنموذج مضاد يجب بالضرورة إصلاحه، أو حتى تدميره، ففي عصر التنوير، على سبيل المثال، لأجل مهاجمة فولتير للكاثوليكية بشكل أفضل، قدم الإسلام كدين متسامح تأسس على الإرادة الحرة، ورسوله محمد كمشرع متوازن ومحارب للخرافات، ثم تم تقديم النساء المسلمات على أنهن يستفدن من المساواة التي يمنحها القرآن وبالتالي على أنهن أكثر حرية من النساء الغربيات.

يتم طرح مسألة الإسلام والمسلمين في فرنسا من طرف النخبة السياسية والثقافية والإعلامية بعبارات متطابقة من نوع تطرف بعض الشباب، وإصلاح للإسلام باستحضار الكليشيهات والرؤى التي حكمت الجمهورية الفرنسية في العصر الاستعماري، وهنا يقول الفيلسوف بيدار “إن الشباب من أصل مهاجر يصعب عليهم ترسيخ احترام الذات والثقة بالنفس ‘تحقيق الذات’ في مجتمع يحكم عليه مسبقا بعدم الأهلية للثقة ويعتبره غريبا عنه”.

العنصرية والإسلام العلماني

السباعي ترى أن عدم توافق الإسلام مع الجمهورية الفرنسية ليس سوى ذريعة لعدم معالجة مسألة تعدد العرقيات والهويات الدينية والثقافية بشكل مباشر

عندما اندلعت الحرب العظمى، كانت هناك هجرة قوية لأبناء شمال أفريقيا إلى فرنسا، الذين قاتلوا في الجبهة أو حلوا محل العمال الفرنسيين،  نظرا لأن هؤلاء كانوا رعايا وليسوا مواطنين فرنسيين كاملين، وتعلق السباعي على ذلك بالقول إن المجتمع الفرنسي، غير القادر على التعرف على عنصريته ومواجهتها، يفضل تمثيل مجتمع مسلم متجانس لتبرير ذلك، بينما يثير مرة أخرى مسألة الإسلام الذي يجب إصلاحه ليكون قادرا على الاندماج، وجدوا أنفسهم مجبرين على التعريف كمسلمين عندما يتم الاعتراف بمطلبهم كجزء من التنوع أو الانتماءات المتعددة.

مع المطالب المتكررة بتجديد الخطاب الديني وقراءة جديدة للإسلام ليتوافق مع فلسفة فرنسا ونظرته إلى الدين والمسلمين، تعتقد الباحثة المغربية، أن الإنتاج العلمي والفكري حول مكانة الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ

نهاية الثمانينات، سواء أكان مع أم ضد مأسسة الإسلام في فرنسا، يمثل التحول في النموذج. لكن بالعودة إلى رؤى الباحثة المغربية نجدها تقول بأن تأسيس وممارسة السياسة الإسلامية لدى الفرنسيين العلمانيين لهما وظيفة أساسية؛ إما تعزيز التوسع الاستعماري وإما الحفاظ على الاستقرار السياسي في شمال أفريقيا، وهو حجر الأساس للإمبراطورية الفرنسية إبان الاستعمار، وتقول بأنها سياسة مفترضة لإدارة الدين، يُنظر إليها على أنها حقيقة اجتماعية كاملة: الإسلام أيديولوجيا للتعبئة والاحتجاج وحقيقة اجتماعية ومن المدهش أن نلاحظ اليوم أن هذا المفهوم لم يتغير.

وعليه تكشف السباعي، أن كل هذه الإسقاطات في الواقع هي القراءة الكاثوليكية للحقيقة الدينية الإسلامية من قبل صانعي القرار الفرنسيين وتعكس الخلافات داخل الكاثوليكية الفرنسية حول مسائل لاهوتية بحتة مثل المساواة بين العقائد التوحيدية أو السياسية، وترى أنه يتم اليوم إعادة تنشيط وتحديث هذه الرؤية التي دمجها صناع القرار الفرنسيون والشخصيات العامة السياسية والدينية والعلمانية وبعض المسلمين الفرنسيين أيضا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: