هل يتمكن المجتمع المدني من توجيه دفة الجزائر الجديدة
العمل السياسي بمفهومه الاحترافي المباشر، سواء كان منضويا تحت حزب يحكم أو آخر يعارض، ربما لم يعد المحدد في تحقيق العدالة والمساواة التي يطمح إليها الجزائريون، ومن هذا المنطلق بات الباحثون يسلطون الضوء أكثر على دور المجتمع المدني عبر العمل الجمعياتي من نشاط نقابي وتحرك حقوقي وغيرهما، في توجيه دفة بناء الجزائر الجديدة.
تثبت العديد من التجارب في الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة العربية، وتونس أحد النماذج الناجحة في ذلك، أن لمنظمات المجتمع المدني دورا فعالا في توجيه بوصلة الدولة عبر التأثير على الطبقة السياسية، التي تنفرد في الكثير من الأحيان بقيادة السلطة، والجزائر أحد الأمثلة اليوم.
ولترجمة طموحات الشعب في إحداث تحولات اجتماعية وسياسية عميقة تعيش الجزائر مخاضا عسيرا من أجل بناء دولة جديدة، طالب بها سلميا الحراك الشعبي، ولكن هذه الطموحات تواجهها مطبات بسبب تباين الرؤى والقناعات بين السلطة الحاكمة وعدد من الفعاليات سواء كانت أحزابا أو قوى أخرى، حول طريقة تحقيق هذه الآمال.
وفي خضم ذلك، يتمسك رئيس البلاد عبدالمجيد تبون، بخطة الطريق التي كان أعدها وهو في طريقه لقيادة البلاد، فبدأ بتنفيذ أولى الالتزامات التي قطعها أمام الجزائريين خلال حملته الانتخابية للاستحقاق الرئاسي رغم الوضع الاستثنائي الذي تعيشه الجزائر جراء تفشي جائحة كورونا، وتراجع الإيرادات من مبيعات النفط والغاز إلى النصف.
ويعول تبون، الذي سيكون أمام اختبار حقيقي لقياس مدى شعبيته بمناسبة الاستفتاء الشعبي على الدستور المقرر في نوفمبر المقبل، الذي يصادف ذكرى اندلاع الحرب التحريرية ضد المستعمر الفرنسي، على المجتمع المدني في تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها من شأنها أن تقود إلى تأسيس جمهورية جديدة.
وتولي السلطات أهمية بالغة لبناء مجتمع مدني حر ونشيط وقادر على تحمل مسؤوليته كسلطة مضادة وأداة تقييم للنشاط الحكومي والعام في خدمة المواطن والوطن، فيما بدا متحفظا حتى الآن في علاقته مع الأحزاب السياسية التي باتت تثير نفور الناس بسبب فشلها في التكفل بانشغالاتهم وانغماسها بالأمور الشخصية.
لكن مراقبين يعتقدون أنه لا يمكن للمجتمع المدني مهما كانت كفاءاته وتضحياته أن يضطلع وحده بالدور الرئيسي في بناء الجزائر الجديدة.
ويعتقد مهدي براشد، وهو باحث في الثقافة الشعبية لوكالة الأنباء الألمانية، أن فكرة الرئيس تبون، في اللجوء إلى جمعيات المجتمع المدني أملاها الواقع الذي أفرزه الحراك الشعبي، إذ تعرت الطبقة السياسية المعهود ولاؤها للسلطة ممثلة في أحزاب جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي بالأساس وأحزاب أخرى مثل الحركة الشعبية الجزائرية، وتجمع أمل الجزائر- تاج، وهي أحزاب يوجد قادتها السابقون في السجن بتهم عديدة.
ويقول براشد، مدير تحرير صحيفة “الحرية” المحلية لوكالة الأنباء الألمانية، إن تبون لا يمكنه أن يجعل من هذه الأحزاب مظلة سياسية لعهدة الرئاسية التي بدأها منذ 9 أشهر، ولعهدة رئاسية ثانية لم ينف نيته فيها وبالمقابل هناك أحزاب سياسية معارضة له التي تكتلت في ما يسمى بـ”قوى البديل الديمقراطي”.
وأشار إلى أن التجربة أثبتت أن محاولة تعويض الأحزاب السياسية بجمعيات المجتمع المدني عملية محفوفة بالمخاطر وقد تقود إلى نفق مسدود. أولا لأنها عملية تعتمد على الولاء لمن بيده السلطة وليس على قناعات سياسية وبرامج حزبية مدروسة، وثانيا تكرس زبونية في توزيع الريع مقابل الولاء، ما أدى إلى ثوران الشارع الجزائري في حراك فبراير.
وأمام هذا الوضع لا مناص من أن يبحث تبون، عن مظلة أخرى ليست بالضرورة حزبية يمكنها أن تحقق له وعاء للتعبئة الجماهيرية يكون بمثابة مظلة لتسيير العهدة الرئاسية ومواجهة المعارضة وإضفاء الشرعية على الرئاسية “المهزوزة”.
ومن هذا المنطلق، يحاول تبون الذي قال في أول لقاءاته الدورية مع الإعلام المحلي، إنه “يفضل العمل مع المجتمع المدني على أن يعمل مع الأحزاب السياسية”، أن يدفع بأعضاء هذه الجمعيات إلى البرلمان لتشكيل أغلبية برلمانية موالية للرئيس، بدليل مقترحه “تكفل الدولة بالحملة الانتخابية للشباب” بذريعة إبعادهم عن المال.
غير أن براشد نوّه إلى أن هذا المقترح قد تشتم منه رائحة شراء السلطة لذمم نواب مقبلين، وكما يقول المثل “من يدفع ثمن الجوق يختار الموسيقى”.
وبات المجتمع المدني أكثر فاعلية من الأحزاب في الكثير من الدول الديمقراطية في ممارسة العمل الديمقراطي والمساهمة في بناء دولة الحق والقانون، لأن منظمات المجتمع المدني تمارس السياسة وليس العمل الحزبي، وهذا ما يجعل عملها وحركتها أكثر فاعلية، لأنها لا تستهدف إحداث التغيير وتطوير العمل السياسي والجمعياتي دون أن تسعى إلى تحقيق أهداف ضيقة، مثلما هو الحال بالنسبة للأحزاب السياسية التي تعمل على الوصول إلى السلطة بالدرجة الأولى، وهذه غاية وجود أي حزب سياسي.
لكن الإشكال بالنسبة للدول المتخلفة ديمقراطيا، بحسب الإعلامي كمال زايت، هي أن منظمات المجتمع المدني حادت عن هدفها الأساسي، وأصبحت عبارة عن أجهزة، وعن أذرع للسلطة، وأحيانا روافد لأحزاب سياسية، وانخرطت في العمل السياسي بالمنطق الضيق، وبمنطق تحقيق مصالح شخصية.
والحال أن السلطة تستخدم هذه المنظمات والجمعيات وهذه الأخيرة أضحت تؤسس وتظهر للوجود من أجل الاستفادة من الريع، واستغلال قربها من السلطة وحاجتها إليها، وهو ما جعل وجودها غير ذات أهمية، وتسبب في وجود قطيعة بين السلطة وبين الشارع، في حين أن هذه المنظمات والمجتمعات يفترض أن تلعب دور الوسيط بين الحاكم والمحكوم.
وفكرة اعتماد السلطة على جمعيات المجتمع المدني محفوفة بالمخاطر، فقد لجأ إليها النظام السياسي في السابق، مثلما فعلت في بداية التسعينات من القرن الماضي، حين حل البرلمان وأوقف المسار الانتخابي للانتخابات التشريعية، وأفلست الواجهة السياسية.
وفي ذلك الوقت لجأت السلطة إلى جمعيات المجتمع المدني وأخرجتها إلى الواجهة للتجنيد وتعويض الأحزاب السياسية وأنشأت من عناصرها ما عرف بـ”المجلس الوطني الانتقالي” وهو برلمان غير منتخب، لتوفير مظلة سياسية غير حزبية لرئيس الدولة آنذاك.
ومثلما كان المجلس الوطني الانتقالي مكونا من وجوه أصلا كانت في أحزاب سياسية موالية للسلطة ودخلت المجلس بقبعة المجتمع المدني، يبدو هذه المرة أن السلطة تريد تكرار السيناريو نفسه.
وكدليل على ذلك ظهور مبادرات حزبية لتجمعات تضم جمعيات من المجتمع المدني وشخصيات فكرية، على غرار المبادرة التي أطلقها حزب حركة البناء الوطني، التي يقودها عبدالقادر بن قرينة، المرشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تحت مسمى “مبادرة قوى الإصلاح الوطني” في مواجهة قوى البديل الديمقراطي المعارضة.
وبرزت أيضا مبادرة “المسار الجديد”، التي تضم وجوها حزبية في جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي المحسوبين على الموالاة في عهد الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة، ولكن بقبعة جمعيات المجتمع المدني.