رحيل محمود ياسين يطوي آخر صفحة في جيل العمالقة
غيّب الموت، فجر الأربعاء، الفنان المصري محمود ياسين، الذي يعدّ أحد عمالقة السينما المصرية، وهو الذي أثرى خزينة الفن المصري بالعديد من الأعمال الخالدة على الشاشتين الصغيرة والكبيرة.
توفي، الأربعاء، الفنان المصري محمود ياسين عن عمر يقارب الثمانين عاما، بعد صراع طويل مع المرض، طال لمدة ثماني سنوات، فرض عليه عزلة إجبارية عن الوسط الفني.
ويُعتبر ياسين أحد آخر عمالقة فناني الستينات البارزين، الذين عبّروا عن مرحلة هامة في تاريخ السينما المصرية، مثلت ارتباطا للفن بالقيم العامة للمجتمع، وسعيا إلى التقارب مع الواقع السياسي، والتعبير عن هموم الوطن.
كان النجم الراحل من أكثر الممثلين العرب مشاركة في أعمال تخصّ الحرب مع إسرائيل، حيث قدّم ستة أفلام عن حرب أكتوبر. وبدا مشوار حياته كأنه تعبير عن انتصار الفن للقيّم، حيث يتماهى مع الحق.
قدرات مبهرة
تميّز الفنان محمود ياسين، بقدرة بارعة على الجمع بين الأداء التمثيلي المُتقن، والصوت الرخيم المعبّر، والتنقل بين أدوار عدة شديدة التباين تصل في بعض الأحيان إلى درجة التناقض، مثل قيامه بتقديم نموذج للجندي الوطني المقاتل، والتعبير عن نموذج التاجر الانتهازي، أو الفتوة القاسي، والشاب الرومانسي الحالم.
قالت الناقدة الفنية خيرية البشلاوي ، إن محمود ياسين يمثل جيلا فنيا كان مقتنعا تماما بأن الفنان لديه التزام أخلاقي تجاه الجمهور، وتجب مراعاته عند قراءة أوراق السيناريو لأي عمل كان سواء للسينما أو للدراما أو حتى في أعماله المسرحية، ويضع ثوابت لا يمكنه الزحزحة عنها، فيما يتعلق بالقيم والتقاليد كي لا يخسر علاقته الوثيقة مع الجمهور، وهي تركيبة فنية أصبحت شديدة الندرة حاليا.
وفي تصوّر الكثير من النقاد، إن الفنان الراحل جمع سمات فريدة جعلته يتفوّق على الكثير من أبناء جيله، ليس فقط في المنافسة بالوسامة أو القدرات التمثيلية، لكن بامتلاكه طبقة صوت رخيمة أهلته ليكون مسرحيا مميزا.
وأضافت البشلاوي “الفنان وليد بيئته والمناخ السياسي والاجتماعي اللذين يخرج منهما، وأيضا طبيعة الجمهور الذي يستهلك الإنتاج الذي يقدّمه، وجيل محمود ياسين كان يعي ذلك جيدا، لذلك قدّم أعمالا تخاطب العقل وليس الغرائز، ولم يتورّط في أعمال ضحلة، ضعيفة المستوى، يتم تسويقها على أنها للترفيه”.
تشابهت انطلاقة موهبة ياسين مع الكثير من أبناء جيله الذين نبغوا في المسرح أولا، ومنه انتقلوا إلى السينما، ثم الدراما التلفزيونية.
وبدأ محمود ياسين، المولود في مدينة بورسعيد، شرق القاهرة في سنة 1941 تعلقه بفن التمثيل وهو صغير من خلال تقليد كبار الفنانين، ثم التمثيل الارتجالي وهو في المرحلة الإعدادية، وعيناه منذ البدايات كانتا مركزتين على الوصول إلى خشبة المسرح القومي، الذي عرف انتعاشة كبيرة في السابق.
ودرس القانون، لكن قلبه ظل معلقا بفن التمثيل باعتباره المسار الطبيعي لموهبته المتألقة، والتي كانت محل إشادة دائمة من زملائه عندما كان يتنقل بين فرق المسرح الجامعية.
ورغم تخرّجه في كلية الحقوق بجامعة عين شمس سنة 1964 وتعيينه محاميا بمدينته بورسعيد، إلا أنه شعر أن مستقبله ليس في ساحات المحاكم، وإنما على خشبة المسرح وأمام الكاميرات، لذا رفض التعيين في وظيفة قانوني في هيئة حكومية وقبل أدوارا عديدة في المسرح القومي، إلى أن بزغ اسمه مع تقديم مسرحيات “وطني عكا” و”سليمان الحلبي” و”ليلة مصرع جيفارا”، ثم توالت مسرحياته، مثل “ليلى والمجنون” و”عودة الغائب” و”الخديوي”.
النجم الأول
لفتت موهبة محمود ياسين عيون صناع السينما إليه، حيث وجدوا فيه فنانا وسيما وهادئا، ولديه تلقائية وقدرة على الإتقان والتحدّث بفصاحة ولباقة، ما يُمثل نموذجا للبطولة الغائبة وقت تراجع السينما المصرية.
تحوّل نجاحه في كسب محبة ورضا الجمهور من خلال المسرح إلى جسر له للدخول إلى عالم السينما، بعد أن غاب الفتى الأول نتيجة تقدّم عماد حمدي وأحمد مظهر ورشدي أباظة في العمر، وهجرة عمر الشريف إلى هوليوود، وانصراف جانب كبير من الجمهور عن نجوم ما قبل هزيمة يونيو 1967، في إطار تمرّد الجمهور على رموز الماضي.
شارك ياسين في أفلام جريئة لافتة مثل “شيء من الخوف” و” القضية 68″، وتقبله الجمهور بشكل جيد، ثم حاز أول بطولة حقيقية أمام الفنانة فاتن حمامة سنة 1971 في فيلم “الخيط الرفيع”، حيث عادت الفنانة إلى السينما بعد غياب لسنوات، وبحثت عن وجه جديد يستطيع مشاركتها البطولة، ونشرت إعلانا بذلك، وتقدّم للمسابقة، وتم اختياره.
اهتم الفنان الراحل بشكل كبير بفكرة الثنائيات الرومانسية، فقدّم عدة أفلام مع فاتن حمامة مثل “أفواه وأرانب”، و”حبيبتي”، كما قدّم أفلاما مع نجلاء فتحي، وشادية، وميرفت أمين.
وكوّن ياسين ثنائيا شهيرا مع المخرج حسين كمال الذي كان يرى فيه الفتى الأول للسينما، حتى أنه أقنع ماجدة الصباحي، التي كانت بصدد إنتاج فيلم “أنف وثلاث عيون” بخطأ إصرارها على أن يلعب البطولة أمامها الفنان رشدي أباظة، الذي تقدّم به السن، والحاجة ماسة لأن يقوم بهذا الدور محمود ياسين، وهو ما تمّ بالفعل وحقّق نجاحا مبهرا.
لا ينسى الجمهور للفنان الراحل أدواره التي خلّدت نصر أكتوبر، وعلى رأسها دوره في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”، وفيلم “أغنية على الممر”. كما لعب دور البطولة في فيلم “ظلال في الجانب الآخر” للمخرج الفلسطيني غالب شعث، وركّز بقوة على ضرورة إقرار حقوق الشعب الفلسطيني.
ويبقى دوره في فيلم “على من نطلق الرصاص” سنة 1975، قصة رأفت الميهي، وإخراج كمال الشيخ، وبطولة سعاد حسني، من أدواره الفارقة، حيث قدّم نموذجا للشاب الحالم صاحب القيم، والمناهض للفساد، والذي يصل به الأمر في النهاية إلى إطلاق الرصاص على رأس زميله الثري الذي سرق حبيبته وأحلامه وقيمه.
توالت نجاحاته، ووصل إلى مستوى مذهل لم يسبقه إليه فنان، حيث قدّم في عام واحد سنة 1977 عشرة أفلام سينمائية، بعضها من الروائع العظيمة مثل “سونيا والمجنون” و”العذاب امرأة” و”شقة في وسط البلد”.
الفرصة المواتية
أكّد الناقد الفني طارق الشناوي، أن محمود ياسين كان في الثامنة والعشرين من عمره، مطلع السعبينات التي شهدت تغيرات هامة بتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي وما صاحب ذلك من تغييرات مهمة في البنية الاجتماعية، ما جعله مرشحا دائما لشركات الإنتاج كنموذج معبّر عن المرحلة الجديدة.
وأوضح أن الفنان الراحل بامتلاكه لمواصفات عديدة جعلت منه نجما جماهيريا يتناسب مع التغيرات، وراصدا ومحذّرا لآثارها الاجتماعية.
ويعتبر دوره في فيلم “انتبهوا أيها السادة” من الأدوار شديدة الأهمية خاصة أن الفيلم الذي كتبه أحمد عبدالوهاب، وأخرجه محمد عبدالعزيز سنة 1980 كان يركز على رصد تحوّلات فارقة في المجتمع المصري، وصعود فكرة الربح السريع، وتراجع قيمة العلم ومكانة المتعلمين والحاصلين على الرسائل العلمية في مواجهة ثراء تجار السوق الجشعين، والمتربحين من الخردة والقمامة والسمسرة.
ويرى البعض من النقاد، أن محمود ياسين تورّط قليلا في موجة الأفلام التجارية خلال حقبة الثمانينات فقدّم أفلاما مثل “مرسي فوق مرسي تحت” و”أشياء ضد القانون” و”عالم وعالمة” و”وداد الغازية”، إلا أن ذكاءه دفعه للانتقال بهدوء وحكمة إلى المسلسلات الدرامية، حرصا على جمهوره العائلي.
برع في عدة أعمال درامية كان من بينها مسلسل “ابن سينا”، و”الزير سالم”، و”غدا تتفتّح الزهور”، و”مذكرات زوج”، و”أخو البنات”، و”العصيان”، و”ضد التيار”، و”رياح الشرق”، و”عزبة المنيسي”، و”سوق العصر” و”أبوحنيفة النعمان”.
تميّز الفنان الراحل بمرونة فكره، ونظرته الواقعية، وإدراكه التام للتحوّلات وتطورات فن السينما في العالم، ما جعله يتقبل برضا أدوارا ثانوية في أفلام حديثة مثل دوره في أفلام: “الجزيرة”، و”الوعد” و”جدو حبيبي”.
ورغم وجود نجوم شباك كبار في تلك الأفلام، إلا أن إطلالته ساهمت في تأكيد موهبته، وقدرته على التناغم مع الأجيال التالية من الممثلين.
صوت استثنائي
امتلك محمود ياسين صوتا مميزا جعله يتولى مهمة التقديم والتعليق على الكثير من الفعاليات الفنية والوطنية، وارتبط صوته بالجمهور بعد أن علق على جنازة الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر في سنة 1970.
وكان لصوته وأسلوبه في إلقاء الشعر والحديث باللغة العربية دافع للاستعانة به في دور الراوي في فيلم “الرسالة” للمخرج مصطفى العقاد سنة 1976، وحافز للاستعانة به لتقديم دور الرئيس المصري الراحل أنور السادات في مسلسل إذاعي جسّد شخصيته المستوحاة من سيرته “البحث عن الذات”.
وحصل محمود ياسين على العديد من الجوائز الإقليمية والمحلية، وتم تكريمه في الكثير من المهرجانات السينمائية العربية والأجنبية، وأبرز الجوائز التي حصل عليها جائزة مهرجان طشقند 1980، ومهرجان عنابة بالجزائر 1988، والمهرجان القومي للسينما المصرية 2006، وكان أول تكريم له وعمره 36 عاما في أول عيد للفن في أكتوبر 1976، إلى جوار فاتن حمامة ويوسف وهبي.
والراحل زوج الفنانة شهيرة، ووالد الفنانة رانيا التي امتهنت التمثيل وتقديم البرامج، وهي متزوّجة من الفنان محمد رياض، والكاتب الدرامي عمرو الذي شارك في بعض الأعمال الدرامية قبل أن يتفرّغ للكتابة.
ونعت مؤسسات فنية مصرية وعربية الفنان الراحل منها المعهد العالي للفنون المسرحية والجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما والهيئة العربية للمسرح.
وعبّر عدد من الفنانين عن عميق حزنهم للنبأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي منهم خالد الصاوي ومحمد هنيدي ودنيا سمير غانم وفيفي عبده من مصر، ودرة من تونس وسوزان نجم الدين من سوريا وحبيب غلوم من الإمارات وهيفاء وهبي وكارول سماحة من لبنان.
وكتب رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ على تويتر “فقدنا رمزا عربيا أعطى الكثير”.