مسار جنيف الليبي محفوف بالفرص السياسية والتحديات الأمنية

هل سيتم التئام مؤتمر جنيف منتصف أكتوبر الجاري، أم يمكن تأجيله وترحيله إلى موعد آخر؟ هل يُعقد أصلا في جنيف أم ينقل إلى إحدى المدن التونسية لأسباب لوجستية؟ هل تستطيع رعاية البعثة الأممية الواضحة كسر الحلقات الصلبة في بعض الممانعات الليبية، والتوجسات الإقليمية، والتناقضات الدولية؟

أسئلة كثيرة تطرح حول ملابسات مؤتمر جنيف الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، وتعول عليه بعض الدوائر السياسية لإحداث نقلة في المسيرة المعقدة، وتجاوز جانب من الصعوبات التي تواجه عملية تفكيك الأزمة والتخلص من هيمنة بعض الجهات المستفيدة من استمرارها، حيث بدأت عملية تسخين عسكري جديدة قد تؤدي إلى تخريب الهدوء الحذر الذي خيم على ليبيا الفترة الماضية.

قالت مصادر سياسية  إن مؤتمر جنيف تم تأجيله إلى شهر نوفمبر المقبل، كي يتسنى الانتهاء بدقة من الترتيبات الخاصة به، وحل بعض المشكلات على مسارات سياسية وعسكرية واقتصادية متباينة، لأن مهمة المؤتمر الرئيسية وضع جدول أعمال يهيّئ الأوضاع لتقبل التغيرات في الحكومة وشكل المجلس الرئاسي، وتحصين ما يترتب على ذلك من تداعيات تمس جوهر التوازنات الليبية.

وأضافت المصادر أن اجتماعات خاصة بلجنة الدستور تبدأ لقاءات جادة في القاهرة الأحد، وتضم وفودا ليبية، برلمانية وسياسية وقانونية، بغرض إعداد مسودة لشكل الدستور الذي سوف يحكم المرحلة المقبلة، ويجد حلولا لثغرات قانونية استثمرها البعض للتحكم في كثير من مفاصل الدولة، ولمنع حدوث تجاوزات تعطل الطريق المتوقع المضي فيه عقب مؤتمر جنيف.

وتجد مصر فرصة في هذه التحركات السياسية للتغلب على المشكلات التي أعاقت الطريق إلى الحل، وجعلتها تلوح مضطرة إلى التدخل عسكريا في يونيو الماضي.

أنقرة لن ترضخ بسهولة للتطورات الإيجابية الجديدة، وستشجع العناصر التابعة لها في طرابلس للتمرد على العملية السياسية

وأسهمت الحوارات التي عقدت في مونترو بسويسرا، وبوزنيقة في المغرب، والغردقة بمصر، وكذلك انعقاد مؤتمر برلين الثاني في الخامس من أكتوبر الجاري، في تحريك الجمود الذي اعترى العملية السياسية منذ انعقاد مؤتمر برلين الأول في 29 يناير الماضي، وإشاعة أجواء من التفاؤل حول وجود إرادة دولية مختلفة للحل.

تزايد التفاؤل مع الصمود النسبي لوقف إطلاق النار، ومواجهة محاولات الإخلال بضوابطه، وتدخل الولايات المتحدة بثقة، وبعض القوى الإقليمية والدولية، لتجاوز عقبات متعلقة باستئناف النفط، والحفاظ على عدم خرق وقف إطلاق النار، والالتزام بالخطوط الحمراء المعلنة والضمنية بشأن العمليات العسكرية، التي يفضي تخطيها إلى قلب التطورات الإيجابية الحاصلة في المعادلة الراهنة.

توصلت اجتماعات بوزنيقة الثانية إلى تفاهمات عريضة حول المناصب السيادية، وقطعت لقاءات الغردقة شوطا في المقاربات العسكرية بين ممثلين للجيش الوطني الليبي برئاسة المشير خليفة حفتر، وآخرين يمثلون حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، ضمن اجتماعات اللجنة العسكرية (5 + 5)، وأشادت بحصيلتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ووضعت جدولا لها، وجملة من الضوابط لنجاحها.

وأوضحت المصادر ذاتها أن المهمة شاقة وليست هينة، ولا يوجد تعارض بين الاجتماعات المختلفة، لأنها تصب في النهاية داخل بوتقة واحدة، تشرف عليها الأمم المتحدة، وهدفها الإعداد لعملية سياسية متماسكة قابلة للحياة، وتتجنب أخطاء المراحل السابقة، وتمنح فرصة للقوى الوطنية للمشاركة فيها.

وأضافت أن الأمم المتحدة استوعبت الدروس التي أفضت إلى عقم الحل الفترة الماضية، وعازمة على تهيئة الأجواء لإطلاق عملية قابلة للتنفيذ هذه المرة، وتتوافر لها عوامل دعم داخلية وخارجية بعد التيقن من أن الحل العسكري أصبح مكلفا للجميع، ودللت على صواب التوجه الجديد بتراجع الكثير من المكونات التي أدت إلى تأجيج الصراع، وخفوت الأصوات التي اعتادت الاستثمار في المعارك.

الدوائر السياسية تنتظر تنفيذ قرار السراج بالرحيل عن منصبه 

واعتبرت التضييق الذي تمارسه بعض القوى الدولية على تركيا، أثمر حتى الآن في تراجع تدفق المرتزقة، بل ورحيل بضعة آلاف منهم، ووجود اتجاه قوي للتوصل إلى مخرج مناسب للتعامل مع الكتائب المسلحة، التي تشعر بالقلق، ما دفعها ورعاتها أحيانا للتحريض على استئناف الحرب في بعض مدن الغرب الليبي، لأن هناك مخاوف متراكمة من ارتداد الحل السياسي إلى صدور هؤلاء.

وتابعت المصادر أن أنقرة لن ترضخ بسهولة للتطورات الإيجابية الجديدة، ولن تكف عن تشجيع العناصر التابعة لها في طرابلس للتمرد على العملية السياسية، والسعي نحو التوسع في المماحكات واختلاق صدامات لقلب الطاولة التفاوضية.

واستشهدت بما ردده وزير الدفاع في حكومة الوفاق صلاح الدين النمروش قبل يومين بشأن وجود تحركات تابعة للجيش الوطني الليبي نحو الغرب، نفاها المتحدث باسم الجيش اللواء أحمد المسماري، غير أن الإصرار عليها يوحي بتوقع مناوشات تقوم بها جهات تجد نفسها متضررة من نجاح التحركات الحالية وصولا إلى محطة جنيف، والتي تحدد مصير الأزمة الليبية إلى حد بعيد.

ويقود مسار جنيف إلى بلورة رؤى سياسية وعسكرية واقتصادية صحيحة، تنهي جزءا معتبرا من الفوضى التي خيمت على ليبيا، ومنحت الميليشيات مساحة كبيرة للحركة والحصول على مكاسب مادية كبيرة، وابتزاز الحكومة والمجلس الرئاسي، ووفرت أجواء مواتية أمام تركيا لعقد اتفاقيات وصفقات مع رئيسهما فايز السراج.

تنتظر الدوائر السياسية تنفيذ قرار السراج بالرحيل عن منصبه قبل نهاية الشهر الجاري، وعدم التحايل على هذا الوعد، والبحث عن ذرائع تعطل الخطوة، التي ربما تتأخر إلى حين انعقاد جنيف أو حتى نقله إلى مكان آخر، وفي كل الأحوال هناك مخرجات تتعلق بإعادة هيكلة السلطة سوف تظهر قسماتها وتنهي علاقة السراج بالحكومة.

مفاوضات لإنهاء جزء من الفوضى

ويشير متابعون، إلى أن اللحظة الحاسمة التي فرضت على الأطراف الفاعلة إعادة تقييم مواقفها قد بدأت، ووصل هؤلاء إلى نقطة تحتم النظر للأمام، وتأكدوا أن لعبة المرتزقة والعصابات المسلحة والإرهابيين والمتطرفين يمكن أن تنفلت من عقالها، وتوجه نيرانها إلى جهات رعتها أو غضت الطرف عنها، بل أوشكت أن تفتح نافذة لصراعات دولية تصبح ليبيا مسرحا رئيسيا لها.

عندما التفتت إرادة المجتمع الدولي إلى هذه النقاط استجمعت القوى المحورية طاقتها السياسية، ومارست ضغوطها بطريقة منتجة هذه المرة، الأمر الذي سهل مهمة الاجتماعات التي خاضت في تفاصيل قضايا لم يكن مسموحا التطرق إليها من قبل، أو يجري وضع العراقيل في طريقها، فنظرة سريعة للقيادات التي اجتمعت في المحطات المختلفة تكفي للتيقن بأن هناك تغيرا ملموسا في إدارة الأزمة.

يربح من التحولات الجديدة من راهنوا على إرادة الليبيين الكامنة في الفروع الحية داخل المجتمع، ويخسر من وضعوا كل بيضهم في سلة الفوضى واستدعاء التدخلات الخارجية والترحيب بها، بالتالي سوف يعاد تشكيل المشهد بطريقة تتسق مع الواقع.

من المرجح أن تتوقف عملية النفخ في التيار الإسلامي الذي وجد حلفاء واكتسب ثقتهم ودعمهم، حتى تمكن من جني ثمار، لكن الآن تنتابه شكوك متعاظمة بشأن تراجع حظوظه السياسية، لأن المشهد بعد مؤتمر جنيف سوف يتم تدويره وفقا للمعطيات الحقيقية على الأرض وليس انطلاقا من خيالات وأحلام السيطرة المستمرة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: