انتكاسة التغيير السياسي في الجزائر بين انتفاضة أكتوبر وحراك فبراير
يظهر احتدام الجدل بين الجزائريين حول مستقبل أحوالهم السياسية والاجتماعية، وهم يستذكرون حقبتين مهمتين في تاريخهم الحديث، بين انتفاضة في أواخر ثمانينات القرن الماضي وحراك شعبي تفجر في فبراير 2019، أنهم مصرون على تغيير واقعهم الجديد مهما كلّف الثمن ومهما طال الزمن متسلحين بمحددات رسموها طيلة عقود تلتقي حول ثوابت الديمقراطية وتحويل بلدهم إلى دولة مدنية ليس للعسكر أي تأثير فيها على السلطة.
تحصي الجزائر أكثر من ثلاثة عقود من عمرها الضائع منذ انتفاضة شعبية غير مسبوقة في الخامس من أكتوبر 1988، إلى حراك شعبي سلمي صمد أكثر من عام في فبراير العام الماضي، بين سلطة ترفض التغيير وشارع متمسك بضرورة المرور بالبلاد إلى مرحلة جديدة، لأن زمن الانغلاق قد ولى والعالم صار قرية صغيرة.
وأحيا آلاف الجزائريين في المهجر وداخل البلاد، الذكرى الثانية والثلاثين لانتفاضة أكتوبر، بوقفات ومسيرات شعبية في العاصمة الجزائر والعديد من مدن البلاد مثل عنابة وقسنطينة ووهران وتلمسان وغيرها، إضافة إلى العاصمة الفرنسية باريس، معيدين بذلك أجواء الاحتجاجات الشعبية في 2019 و2020، قبل أن تعلق في شهر مارس الماضي بسبب جائحة كورونا.
ويبدو أن إجراءات الغلق والتضييق المطبقة بدعوى مواجهة الوباء العالمي، بصدد إنتاج حالة غير مسبوقة من الاحتقان والاختناق في الشارع، قياسا بالعودة القوية للمرأة الجزائرية إلى الشوارع من أجل الاحتجاج ضد مسارات السلطة، حيث لوحظ حضورها اللافت في مختلف المسيرات والوقفات التي عاشتها البلاد في هذا الخامس من أكتوبر.
مصدر إلهام
رغم الانتكاسة التي منيت بها انتفاضة أكتوبر في إحداث التغيير السياسي الشامل والعميق في البلاد، بسبب المخرجات التي أعادت المؤسسة العسكرية كقوة أساسية في السلطة، فإنها لا زالت مصدر إلهام لأجيال الحراك الشعبي رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود عليها، ورغم أن الكثير من المحتجين لم يولدوا بعد في ذلك التاريخ.
وإذ تناغمت الشعارات في المحطتين مع فوارق لافتة، فإن المتفحص في مسار الجزائر الحديثة لا يلاحظ تغييرات ملموسة بين الفترتين، فرغم فارق ثلث قرن بين التاريخين، إلا أن نفس المناخ ونفس الأسباب التي فجرت انتفاضة أكتوبر 1988 ما زالا قائميْن في جزائر 2020، وأكتوبر الذي ولد فبراير، حيث بإمكانهما أو بإمكان أحدهما ولادة موعد جديد في البلاد من أجل تحقيق التغيير المنشود.
ومع أن سلطة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد قد طوقت الانتفاضة العنيفة سريعا في ذلك الوقت من خلال حزمة من الإجراءات والتدابير الملموسة تجسدت في التعددية السياسية والإعلامية وإنهاء هيمنة الحزب الواحد على المشهد السياسي، وإطلاق سراح المساجين السياسيين والدخول في مرحلة انفتاح غير مسبوقة في المنطقة العربية، إلا أن السلطة الجديدة اليوم، وفي ظل حكم الرئيس عبدالمجيد تبون دخلت في مسارات رُفضت شعبيا، وكانت إنجازاتها أقل بكثير من إنجازات ما حدث في شهر أكتوبر.
وبانتهاء مرحلة الانفتاح الديمقراطي في الجزائر نهاية ثمانينات القرن الماضي وصولا إلى العشرية الدموية “السوداء” في تسعينات القرن الماضي، التي دفعت البلاد فيها ضريبة ربع مليون من أبنائها وعشرات المليارات من الدولارات من الخسائر المادية، بسبب الصراع بين الإسلاميين المتطرفين والمؤسسة العسكرية، فإن سقوط نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة لم يكن أحسن مما كان، فقد تمكن النظام الحالي والمستفيد من جائحة كورونا من تجديد نفسه، وعاد العسكر بقوة إلى الواجهة مرة أخرى.
وببقاء الخسائر البشرية وعدد الضحايا هو الفارق الأبرز بين المحطتين، إذ أن انتفاضة أكتوبر عام 1988، والتي استهدفت بالتخريب كل ما يرمز إلى الدولة من مؤسسات ومقرات سيادية، وسقط فيها حوالي 500 شاب ضحايا لرصاص الجيش والأمن في ذلك الوقت، فضلا عن تعرض المئات من المعتقلين إلى التعذيب الوحشي، فإن حراك فبراير الذي تفجر بينما كان حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم يستعد لترشيح بوتفليقة لولاية خامسة رغم مرضه، لم تسجل فيه ضحايا ولم يتعد حدود الالتحام وبعض التجاوزات.
غير أن المتابعين للشأن الجزائري ومعظم المحللين، لا يجدون فرقا كبيرا بين المحطتين رغم الفارق الزمني بينهما، فنفس ممارسات الفساد المالي والسياسي بقيت تهيمن على مؤسسات الدولة ومفاصلها المتداخلة، كما أن نفس أساليب القمع والتضييق على الحريات والسجون والتهم الجاهزة تنفذ على الرافضين لمسارات السلطة سواء قبل أكتوبر 1988 أو خلال وبعد تعليق المظاهرات والاحتجاجات في 2020.
حلم التغيير
في كلا المحطتين كانت المخرجات مخيبة للآمال ودون طموحات الجزائريين، وتم خلالهما وأد حلم التغيير السياسي الشامل في البلاد، بسبب رفض السلطة التجاوب مع مطالب الشارع، لتبقي بذلك الجزائر تحصي ” الفرص الضائعة “، بحسب تعبير رئيس الحكومة السابق مولود حمروش.
وعكست الشعارات المرفوعة أو المرددة من طرف المحتجين في مسيرات ووقفات خلال اليومين الأخيرين في العاصمة أو المدن الأخرى الصلة الوثيقة بين انتفاضة أكتوبر وحراك فبراير، لأنها أجمعت على الرفض المطلق للنظام السياسي القائم، وللمسارات التي ينتهجها للخروج من المأزق.
ولا تزال معظم مكونات الحراك الشعبي تنظر إلى تبون، الذي انتخب في ديسمبر الماضي خلال سباق نحو قصر المرادية أثار جدلا على نطاق واسع، رئيسا غير شرعي ويمثل واجهة مدنية للعسكر، وأن الجيش هو الذي يدير اللعبة من وراء الستار، إذ إضافة إلى عدم قناعة هؤلاء بشرعية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإنهم يرفضون أيضا الدستور الجديد، المقرر عرضه على الاستفتاء الشعبي في مطلع نوفمبر المقبل.
وسيكون التصريح الغامض، الذي أدلى به الرئيس تبون، لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، والذي تجاهلته وسائل الإعلام المحلية الموالية على غير العادة، هو الخاسر الأكبر من الاحتجاجات المتجددة في البلاد، لأن قوله بـ”نهاية الحراك في البلاد”، دحضته العودة المفاجئة للمسيرات والوقفات الشعبية بمناسبة الذكرى الـ32 لانتفاضة أكتوبر 1988.
ويرى محللون سياسيون أن سلطة الأمر الواقع التي دفع بها الحراك الشعبي إلى الواجهة، ضغطت لتنحي الرئيس السابق بوتفليقة عن السلطة في أبريل 2019، وأطاحت برموز مرحلته بدعوى الحرب على الفساد، ولم يعد بوسعها تقديم المزيد من التنازلات بعد ارتفاع سقف المطالب الشعبية لتنحي الجيش عن السلطة والمضي قدما نحو وضع أسس ترسخ مدنية الدولة، لأن عقيدة العسكر المتوارثة عبر العقود والأجيال لم تقتنع بعد بتسليم السلطة للمدنيين.
ويعتقد نائب رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان سعيد صالحي أن الحراك الشعبي الحالي هو استمرار لأحداث أكتوبر 1988 وأن “الربيع العربي” الذي اجتاح المنطقة العربية في عام 2011 عاشته الجزائر قبلها بثلاثة وعشرين عاما، إلا أنه بمضي كل تلك الفترة يبقى الإلهام يخيم على الحراك، وبفضل رسالة أكتوبر سيستمر الجزائريون في التظاهر ولن يتوقفوا، خاصة وأن مكاسب الحريات الديمقراطية باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى.
وأثبتت التجارب من انتفاضة أكتوبر إلى حراك فبراير، أن النظام السياسي في البلاد مستعد للتضحية برموزه ورجالاته، لكنه غير مستعد للتنحي جانبا لصالح مطالب التغيير، فقد تنحى بن جديد في مطلع تسعينات القرن الماضي، وقتل الرئيس محمد بوضياف بعده، واستقال اليامين زروال في 1998، وتنحى أيضا بوتفليقة، ولم تتغير شعرة في النظام أو ما يوصف بـ”العلبة السوداء”.
وأمام انسداد سياسي مزمن في البلاد، فقدت معه السلطة فرص إصلاحات داخلية مقنعة، يستمر الغضب في الشارع وتضيّع معه البلاد وقتا ثمينا قد تندم عليه مستقبلا، كما ضاعت منها فرصة الإقلاع الشامل خلال العشريتين الماضيتين، لكن تنامي الوعي الجماعي، الذي ارتقى بالمواطنين من عنف أكتوبر ودموية العشرية السوداء، ومن مناورات أوضاع الإقليم، إلى احتجاجات سلمية صمدت لأكثر من عام ومستعدة للعودة، يبشر بتحقيق حلم التغيير ولو في توقيت متأخر.