هل نحتاج إلى رئيس فرنسي لكي نرى الانشطار في الإسلام الحاضر؟

أثارت جملة واحدة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قال فيها “إن الإسلام دين يعيش اليوم في أزمة”، انتقادات من كل حدب وصوب. مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر تقدم الصفوف طبعا، وسرعان ما تبعه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في توافق غير عجيب. كلاهما يندد بالإرهاب، وكلاهما يُنظّر له في الوقت نفسه، بوسائل التشريع، ذاتها التي يتخذ منها الإرهابيون منهجا.

الجملة حتى وإن كانت قد جاءت في سياق يتعلق بمواجهة الانعزالية الإسلامية والتطرف والإرهاب، إلا أن المنتقدين أخذوها بمعزل عنه.

مع ذلك، لا بأس. فلننظر إليها بمعزل. فهل الإسلام دين يعيش في أزمة؟

الإسلام، من حيث الواقع، في أزمة عميقة جدا، بل إنها مدمرة. وهي ليست أزمة فكر، بل أزمة عقيدة. ولا يفعل منكروها سوى أنهم يدسون رؤوسهم في الرمال، أو يتحاشون البحث عن أسبابها، فيزيدونها عمقا.

لا الجملة، ولا النكران يغنيان عن الواقع شيئا. ذلك لأن الإسلام الحاضر ينشطر على نفسه بوضوح بين مشروعين يصف أحدهما نفسه بأنه معتدل، والآخر ثوري. وكلاهما يكفر الآخر، ولكنهما يستندان إلى ذات الأسس.

هل نحتاج إلى رئيس فرنسي لكي نرى في هذا الانشطار ما نعانيه؟

إسلام الإرهاب، مُستنكر فقط كعمل تطبيقي، أو كأدوات تنفيذية. بينما ثقافته وأسسه هي نفسها ثقافة الشطر الآخر “المعتدل”. وهذا وجهٌ آخر للأزمة، ذلك لأن الأسس المرجعية للتطرف لم تتم مواجهتها بحيث يمكن الانفصال عنها أو نبذها. ومن هذه الأزمة ينشأ الافتراض القائل إن جماعة مثل الإخوان المسلمين تنظيم “معتدل”، بينما هي دجاجة تفريخ لكل التنظيمات الإرهابية.

كيف حصل ذلك؟ هل وقع بمجرد الصدفة؟ وهل وقع الالتباس بين الاعتدال والتطرف من دون سبب؟

ما حصل هو أن الفاصل التنفيذي هو وحده الذي وقع تحت سيف الإدانة، وليس مرجعياته الفكرية أو الفقهية.

لم يجرؤ “معتدلو الفقه” المزعومون على إيجاد مخرج من النصوص التي يؤدي التمسك بها، إلى توفير التبرير لأعمال الإرهاب. بعضها نصوص محكمة. وهو ما يبدو واحدا من أهم مصادر المشكلة. ولكنها نصوصٌ بناتُ تاريخ، ولم تكن من دون أسباب خاصة بها. والأهم من ذلك، إنها بمقدار ما كانت مؤشرا لقيم ودلالات، فإن نزع القيم عنها، لم يُفقدها الروح، بل أفقدها المعنى أيضا.

هل الدين نفسه في أزمة؟

لو بقي الدين في حدود نصه المقدس، وفي حدود نظام القيم والمعايير والأخلاقيات التي يؤشر إليها، فإنه ليس في أزمة. ولو أن مسلما تخلى عن كل التفاسير والاجتهادات والافتراضات، واكتفى بالقرآن والسنة، وفهم المعاني والدلالات والقيم والأصول، فإنه ما كان ليجد نفسه أمام مأزق، لا الآن، ولا حتى بعد مليون سنة. في الواقع، فإن بعض قيم الإسلام الجوهرية صارت تفرض نفسها على كل الكرة الأرضية.

الزكاة، على سبيل المثال، بما تهدف إليه، هي أول ضريبة في تاريخ البشرية، لردم الهوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء. وما من شعب من شعوب الأرض اليوم إلا ويستوفي الضرائب، لهذا الغرض بالذات.

قيم الصدق، والتضامن، والنزاهة، والعدل، حتى وإن كان المسلمون يعانون من ضعفها أو غيابها، فإنها ركائز من دينهم، كما من ديانات أخرى، تتبناها البشرية كلها كقيم مرجعية عليا.

وعلى رغم الصورة الزائفة عن نظرة الإسلام للمرأة، فإن القيم التي ينطلق منها ما تزال قيما تحررية، وهي قيم عدل ومساواة، بل إنها من ناحية الإرث، فيها إنصاف زائد عن الإنصاف، على العكس تماما من سائد الاعتقاد.

تعال، أقعد لتحسب أنماط المواريث التي تجني منها المرأة أكثر من الرجل، ولسوف تكتشف أن القصة ليست على الإطلاق “حظ الذكر مثل حظ الأنثيين”.

وأحيل هنا إلى كتاب “الميراث بين عدالة الإسلام وجور القوانين الوضعية”، للشيخ أحمد المعبي، الذي أورد 16 حالة ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، و4 حالات ترث المرأة نصف الرجل، و10 حالات ترث المرأة مثل نصيب الرجل، و4 حالات ترث المرأة ولا يرث الرجل.

وحتى ولو اقتصر الأمر على نصف الميراث، فإن الديانات السابقة لم تورث المرأة شيئا، إن لم تعتبرها، هي نفسها، جزءا من الميراث.

والأمثلة كثيرة، ولكني أورد هذا المثال، ليس من أجل نفسه، وإنما من أجل القول إن الإسلام المتداول لم يعد هو الدين نفسه، بل ما تراكم عليه، من تفاسير واجتهادات وتأويلات، حتى تكاد تدفنه.

وقس على هذا المثال، الملايين من الأمثلة الأخرى التي اختزلت الإسلام بنصوص خارج تاريخها ومعناها ودلالاتها القيمية.

في السياسة، ما من أحد أفسد الإسلام، أكثر من شيوخه وفقهائه. بطريقة أو بأخرى، أصبحت الخلافة جزءا من العقيدة. ولكن أنظر في كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبدالرازق، وسترى كيف أن “القياس” لا الأصول، هي التي حولت الخلافة إلى جزء أساسي من العقيدة، رغم أنه لا ذكر لها في القرآن ولا في السنة. ولقد تم تكفير عبدالرازق وطرده من الأزهر عام 1925 على هذا الأساس.

سبقه إلى “التكفير” عميد الأدب العربي طه حسين، إنما فقط لأنه كتب أطروحته “تجديد ذكرى أبي العلاء”، وتم طرده من الأزهر عام 1908. وعاد ليواجه تكفيره مرة أخرى، من جانب شيوخ الأزهر، عام 1926 عندما أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي افترض فيه أن ما نعرفه عن الشعر الجاهلي لم يكن جاهليا وأنه كُتب في مراحل تاريخية لاحقة.

واستنادا إلى المناهج الفقهية ذاتها، ما يزال هناك بيننا اليوم من يحولون الإسلام من حل إلى عقدة، ومن نظام قيم إلى نظام عقوبات، ومن مصدر للطمأنينة إلى مصدر للإرهاب. وعندما يصل الأمر إلى ضفاف النظام السياسي، وعندما يتحول الدين إلى سياسة والسياسة إلى دين فكأنك لا تخلط الحابل بالنابل فحسب، ولكنك تهدد وجود المجتمع نفسه.

وأخذا بما تراكم، فوق الإسلام، يحق للمرء أن يسأل: أي إسلام هذا الذي، حتى إذا أراد أن يثور، فإنه يصبح إرهابا يختص بقتل الأبرياء؟

وأي إسلام هذا الذي يبدو في ثورته نفسها أكثر تخلفا ووحشية وانغلاقا من كل التخلف والوحشية والانغلاق الذي نريد التحرر منه، حتى لكأنه لا يعدنا إلا بالأسوأ.

وأي إسلام هذا الذي لا يستطيع أن ينظر إلى المرأة إلا بوصفها عورة، دع عنك حرمانها من حقوق التعليم والرعاية والمساواة؟ وأي إسلام هذا الذي، في القرن الحادي والعشرين، ما يزال ينظر إليها ككائن لا تجوز له الولاية حتى على نفسه، بينما قدمت البشرية الملايين من الأمثلة الخلاقة للمرأة في كل حقل من حقول المعرفة والعلم والثقافة والسياسة والفكر؟

في الواقع، فإن ما تراكم على الإسلام، انتهى إلى دين جديد. خذ القتل على سبيل التكفير كمثال. بعضنا يؤمن أن الإسلام دين للحكمة والموعظة الحسنة لا دين للقتل؛ وهو كذلك لأنه يترك الخيارات مفتوحة أمام الناس، حتى لو كفروا، ولكن هذا ليس هو “العقيدة” الجارية الآن.

يقول تعالى “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف 29)، “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها” (الأنعام 104)، “من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى” (الإسراء 15)، “ولَو شاءَ ربكَ لَجعل النَّاس أُمَّةً واحدة ولا يزالون مُخْتلفين (هود:118)، “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”‏ (يونس 99)، ثم “لا إكراه في الدين” (البقرة 256).

ولكن، كل هذا لم يُقنع أحدا ممن يحضّون على قتل أهل الديانات الأخرى، بوصفهم كفارا، ولا الذين يفجرون أنفسهم ليقتلوا عابري سبيل لا يعلمون عنهم شيئا من الأساس.

ونحن أمة فيها من الفقر والتخلف ما فيها، ولكن لا يقول لك فقهاء الطغيان وسياسيو الدين إنهم جزء من المشكلة. فالدور التخريبي الذي مارسوه في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ما يزال لم تُحصَ عواقبه.

ونحن أمة حروب أهلية، ولكن لا يقول لك شيوخنا إنهم يقفون وراء سفك الدماء بين المسلمين ويشرعون للفتنة بين المسلمين.

وجود الطوائف نفسه، فضيحة، على هذا الدين. فلا تَعجَبْ، إذا أصبح سفك الدماء بينهما أمرا “مشروعا”.

وتوجد بيننا دول فاشلة، ومجتمعات فاشلة، حتى ليبدو الإسلام فيها فاشلا هو نفسه. لأنه لم ينجح في حل معضلة، ولا في تحديد اتجاه للمستقبل، ولا تقديم رؤية معاصرة للحياة. وعندما حار فقهاؤه في العثور على جواب بشأن المستقبل، فماذا فعلوا؟ اقترحوا العودة إلى الوراء!

ويفقر الملايين وتُنتهك الحقوق ويختفي العدل ويعم الفساد قمة الهرم، من دون أن يشعر المعنيون بالدفاع عن صورة الإسلام أن الأمر يهمهم أو يشكل تحديا لقيم دينهم. ولا هم نهضوا لمواجهة العلل الكبرى، ليكتفوا بالتحليل والتحريم في الصغائر، ولينشغلوا بالتوافه من قبيل “تحريم الزلابيا” وتحليل “رضاعة الكبير”، بينما الفقر والتخلف والحرمان يقطر من بين أصابع الناس، وبينما الفساد يعتلي القمم، وبينما يغيب العدل عن النظام والمؤسسة.

والمرء لا يمكنه أن يعرف ما قيمة الإسلام من دون نظام للعدل بين الناس. ولكن، بفضل شيوخه وفقهائه ومروجي البُدع فيه، صار دين الحرية دينا للاستعباد، ودين الثورة دينا للردة، ودين التقدم دينا للتخلف، ودين المساواة دينا للتمييز واللامساواة، ودين التنوير دينا للظلام، ودين العدل دينا للطغيان. كل هذا ويقولون إن الإسلام دين لا يعاني من أزمة؟ وكأنهم لا يُبصرون.

ولكن هل تعرف لماذا؟ لأنهم هم الأزمة بما راكموه على هذا الدين، حتى دفنوه، وحتى أصبح غريبا عن نفسه وعن قيمه وأخلاقياته.

نعم، الإسلام دين يعيش في أزمة عميقة. وما من حل لها في الأفق المنظور.

والحال الذي نحن فيه، هو أنه ما من محاولة للإصلاح والتفكير إلا وأجهضت وتم تكفيرها.

تخيل لو أن تحرير العقيدة من عقيدة الخلافة قد تحقق منذ العام 1926، فهل كان يمكن لأبي الأعلى المودودي أن يتحول إلى منهج؟ هو الذي أقعد “الخلافة” على مقعد “الحاكمية لله”، لتكون رفضا لحاكمية البشر، وطلب عصيانها والثورة عليها، لأنها كفر، بينما الذين يفرضونها هم أنفسهم بشر.

سلطاتنا في الغالب لا تنظر إلى هذا الوضع على أنه مشكلة عصيبة، لأنها تحسب أن تحالفها مع رجال الدين، سند لها، رغم أنه فخ وقنبلة موقوتة.

هذه القنبلة عندما تنفجر في وجه مجتمعات أخرى، فإنك لن تجد بين منظري الإرهاب الرسميين، إلا من يُدين الوسيلة، لا “العقيدة” التي تقف خلفها.

فإذا كانت الانعزالية الإسلامية، هي ذاتها، ليست سوى انعزالية تكفير، ودجاجة تفريخ طبيعية للإرهاب، فماذا يبقى لدولة مثل فرنسا، أكثر من أن تسعى لتحصن نفسها من عواقبها الوخيمة؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: