عدم الرد على أميناتو حيدر… أفضل رد
هل تزعجه نشاطاتها بالداخل وارتباطاتها بالخارج؟ بالطبع نعم. وهل تقلقه مواقفها وتصريحاتها المضادة له؟ ما في ذلك شك، لكن لم لا يقدّم المغرب الرسمي على الرغم من ذلك، أي تفسير لما يبدو رد فعل باهت على المبادرة التي أطلقتها أميناتوحيدر، للتخلص مما وصفته بـ»الاحتلال المغربي» للصحراء؟ الثابت أنه لم يكن مفاجأة لأحد أن ترفع هي بالذات شعار تقرير المصير، وأن تطالب بالانفصال أو بالاستقلال عن المغرب، فقد عرفت فقط بذلك.
غير أن ما حصل الآن، أنها اختارت أن تكون سياسية صرفة، بدلا من أن تبقى بنظر بعض المنظمات حقوقية فحسب. وبقدر ما كان قبولها في وقت ما لقرارات «هيئة الإنصاف والمصالحة» المغربية، حول جبر الضرر لضحايا سنوات الرصاص غير مفهوم، ومناقضا تماما لرفضها الاعتراف بانتمائها للمغرب، كانت مبادرتها قبل نحو أسبوعين بتكوين كيان سياسي مناهض لمغربية الصحراء، شديدة الغموض والالتباس. وكان ممكنا عن حق أو عن باطل، للضجة التي كان سيحدثها خبر اعتقالها، أو محاكمتها أو الزج بها في السجن، أن تلطخ وإلى حد كبير صورة المغرب كبلد ديمقراطي، وتترك ربما أيضا بعض التداعيات السياسية على الملف الصحراوي نفسه، لكن امتناع النظام عن القيام بأي عمل من ذلك، فوّت الفرصة على المنتظرين، وجعله يبدو بالمقابل أمام الرأي العام المحلي، وكأنه يمارس الكيل بمكيالين، ولا يشهر عصاه القانونية الغليظة، إلا للبعض دون الآخر.
ومن المؤكد أن الحسم بين خيار من الاثنين لم يكن بسيطا، وربما جعل ذلك من التأخر النسبي في الرد يبدو، وإلى حد ما، مفهوما، لكن ما السبب الأصلي وراءه؟ وهل أن تلك السيدة بالفعل هي من فرضته؟ لقد أطلقت عليها بعض وسائل الإعلام الجزائرية لقب غاندي الصحراء، غير أن معظم وسائل الإعلام المغربية تستمر في وصفها بالانفصالية. ومع ذلك فهي تبقى في نظر قسم واسع من المغاربة شبه مجهولة، ولعل بعض التساؤلات الحائرة دارت في أذهان الكثيرين، حين سمعوا تصريحاتها الأخيرة. وربما خطر للبعض منهم أن يقول، إن عُشر ما صرحت به تلك السيدة المغربية، التي تُقدّم على أنها ناشطة صحراوية، الأحد قبل الماضي، وهي تعلن عن تأسيس «هيئة صحراوية لمناهضة الاحتلال المغربي» كان يكفي للزج بأي كاتب أو مدون أو صحافي لسنوات طويلة في السجن، استنادا إلى نصوص قانونية معروفة، لكن ما أثار الاستغراب حقا داخل وحتى خارج البلد أيضا، أن شيئا من ذلك لم يحصل، فعلى عكس ما كان يعتقده، أو حتى يأمله البعض لم يلحق بها وبالثلاثين مشاركا معها في مبادرتها أي أذى، ولم يعتقل أو يسجن أو حتى يقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، والمس بوحدة البلاد، أي أحد منهم، لقد بقوا طلقاء ولم تصدر السلطات بشأنهم أي إجراء أو تتبع، لكن كيف يفسر ذلك؟ وهل أن صمت المغرب الرسمي، عما يعد انتهاكا لما يعتبره خطا أحمر، من خلال الدعوة الصريحة للمس، بما يعدها وحدته الترابية، يعني تراجعا تدريجيا في موقفه من القضية الصحراوية، ويفتح المجال واسعا أمام البوليزاريو، حتى يؤسس ولو بشكل غير رسمي قاعدة خلفية له، داخل ما يصفها بالأراضي الصحراوية المحتلة؟ أم أن الرباط تتعمد ظرفيا ضبط النفس، رغم انها مازالت تملك خيارات وبدائل أخرى للخروج مما قد يراه البعض فخا سياسيا وإعلاميا نصبه لها خصومها للايقاع بها في شركه؟
التجارب جعلت الرباط تقتنع بأن القمع لا يصنع شيئا، إلا انه يحول الخصوم إلى أبطال، وأفضل رد على أميناتوحيدر هو عدم الرد
لم تكن دلالة المكان والتوقيت غائبة أبدا عن أميناتوحيدر، حين خرجت بمبادرتها قبل نحو أسبوعين من الآن، فالإعلان عن تكوين هيئة سياسية لمواجهة ما سمي بالاحتلال المغربي للصحراء، تم في مدينة العيون، كبرى الحواضر الصحراوية الخاضعة لسلطة الرباط، ولم يحصل داخل مخيمات تندوف، أو من مناطق يسيطر عليها البوليزاريو، وهذا يمكن أن يُقدّم في حد ذاته على أنه انتصار معنوي للمناصرين لفكرة انفصال الصحراء عن المغرب، لكنه قد يسجل بالمقابل أيضا لصالح الرباط، وينسف جزءا من الرواية التي تقدمها الجبهة باستمرار عن وجود انتهاكات وخروقات لحقوق الإنسان داخل ما تصفها بالمدن المحتلة، فهو يؤكد على الأقل أن اجتماع مناهضين لا للنظام، بل حتى للدولة المغربية، وتعبيرهم عن نيتهم تكوين تنظيم سياسي مناوئ لها، أمر ممكن عكس ما يحصل في أماكن أخرى ليس أقلها على الجانب المقابل للمغرب مثلا. أما الوقت فكان فارقا وبلا شك، فقد تزامن الإعلان عن تلك الهيئة مع تصاعد الضغوط داخل مخيمات تندوف لتحريك ما ينظر إليه على أنه جمود في الملف الصحراوي، وإخفاق أممي في تعيين ممثل جديد للأمين العام في الصحراء المغربية . ومن الواضح أن البوليزاريو، وبعد أن لوح منذ شهور بإمكانية العودة إلى السلاح، وجد ولعدة اعتبارات أن هناك عقبة جدية تحول دون مضيه في تلك الفرضية، وهي أن حليفه الجزائري لا يتحمس الآن وفي العهدة الاولى للرئيس تبون على الاقل، لان يصعد الموقف مع جارته الغربية، لدرجة قد تضعه وبشكل مباشر أو غير مباشر في حرب معها. ولاجل ذلك فقد وجد انه من المناسب أن يغير جزءا من خطته، وأن يتوارى قليلا عن الساحة، ليقدم الصراع مع المغرب لا على أنه مواجهة بين قوات وتنظيمات مقاتلة مسلحة، وبين جيش نظامي، بل بين مدنيين وناشطين سلميين، وسلطات احتلال. ولعل الوجه المقابل لتحرك حيدر هو ما تعد له البوليزاريو الآن، وتتهيأ لتصويره على أنه حراك شعبي صحراوي عفوي، للمطالبة بغلق منفذ الكركارات الذي يعتبره المغرب شريانا حيويا له نحو أعماق القارة الافريقية، وهذ ا ما يجعل من الخطوة الأخيرة جزءا من سلسلة من الخطوات التي اختارتها الجبهة، سواء داخل المناطق التي تسيطر عليها أو خارجها، لكن الرباط التي كسبت قبل شهور نقاطا عديدة على المستوى الخارجي، خصوصا بافتتاح عدد من الدول الافريقية لقنصليات لها في المناطق الصحراوية، وميل دول كبرى لتبني مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية، الذي تطرحه، باتت تدرك أن كسب التأييد الخارجي لن يكون وحده كافيا، وأن دعم جبهتها الداخلية سيكون ضروريا جدا للمرحلة المقبلة، ورغم أنها تقدر على حشد المئات وحتى الآلاف في مظاهرات واعتصامات مضادة على معبر الكركارات مثلا، أو حتى أمام مقر إقامة أميناتوحيدر في العيون، إلا أنها تتحسب جيدا من أن ترتكب ما يمكن أن يقوض حججها أو يضعفها. وهي لا ترغب أيضا بأن يتحول الصراع من خلاف إقليمي مع الجزائر، إلى نزاع ثنائي مع البوليزاريو. كما أن التجارب جعلتها تقتنع على ما يبدو بأن القمع لا يصنع شيئا إلا انه يحول الخصوم إلى أبطال. ولاجل ذلك فهي تبدو مقتنعة الآن بأن أفضل رد على أميناتوحيدر وعلى غيرها هو فقط وببساطة شديدة: عدم الرد.