الحل في ليبيا لا يزال بعيدا

لا توجد مؤشرات حقيقية على حل قريب للأزمة الليبية، كل المعطيات الواقعية تدل على أن غرب البلاد سيبقى خاضعا لسلطة ميليشيات تدار من قبل الإخوان ولوبيات السلطة والمال والزعامات الجهوية، حتى فايز السراج الذي وعد بأنه مستعد للاستقالة من منصبه في أواخر أكتوبر القادم حال انبثاق مجلس رئاسي جديد عن حوار جنيف المنتظر، يبدو مترددا ويحرك من تحت الطاولة موالين له للتمسك بالدعوة إلى انتخابات في مارس القادم، اعتمادا على مشروع الدستور الذي لا يحظى حاليا إلا بدعم قوى الإسلام السياسي.

هذا يعني أنه يعمل على قطع الطريق أمام جهود رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري، الساعيين إلى تصدر السلطة القادمة، بينما تشهد مصراتة صراعا غير معلن بين فتحي باشاغا وأحمد معيتيق على رئاسة الحكومة القادمة، ويحاول الإخوان الدفع نحو تعطيل الحل الذي لا يريدون له أن يكون وفق إعلان القاهرة، ولا نتيجة الجهود المصرية، وينادون بانتخابات هم في الواقع غير راغبين في تنظيمها خوفا من أن تؤدي إلى الكشف عن حجمهم الحقيقي في الشارع، ولكن هدفهم من وراء الدعوة إليها هو تأجيل تشكيل سلطة جديدة لأشهر أخرى، وعدم تنفيذ الخطة الأميركية لنقل السلطات التنفيذية إلى سرت مباشرة بعد التوصل إلى مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية.

الإسلام السياسي، عموما، لا يريد للسلطات المركزية ولا للمؤسسات التنفيذية أن تغادر طرابلس، حتى لا يفقد سيطرته عليها، وهي سيطرة يحققها منذ سنوات في غرب البلاد بسلاح الميليشيات واللعب على التوازنات السياسية والجهوية وعلى المصالح مع رجال المال والأعمال والقوى المتنفذة في مجال النفط والمصارف والقضاء، وكذلك على قدرة رموزه على ممارسة الخداع في العلاقة مع الأطراف الدولية.

لا يمكن استبعاد الدور التركي في كل هذا، فبالنسبة إلى نظام أردوغان لا تنازل عن ليبيا الغنيمة التي جاءته على طبق من ذهب بموافقة واشنطن والناتو، وذلك بزعم لجم التدخل الروسي أو التصدي لقوات الجيش. الحقيقة أن دور السراج يبقى ثانويا في كل ما يدور في البلاد التي لا تزال تواجه أزمة مستفحلة منذ تسع سنوات. فالرجل ينفذ الأوامر بحذافيرها، سواء من الداخل أو الخارج، وقد نفذ الأمر بفتح أبواب البلاد للأتراك. واليوم عليه أن ينفذ أوامر الأتراك الذين أصبحوا يتحكمون في كل شيء من قرارات وزير الدفاع المفوّض وتقارير جهاز المخابرات إلى سعر الدولار في السوق السوداء.

الأتراك لا يريدون للسراج أن يستقيل في المدى المنظور، ولا لعقيلة صالح أن يكون رئيسا للمجلس الرئاسي ضمن خطة تقاسم السلطة بين الأقاليم، ولا للمشير خليفة حفتر أن يكون له دور في المرحلة القادمة، ولا لمجلس النواب أن يجتمع من جديد بنوابه المداومين والمقاطعين، ولا للمشاورات أن تأتي إلى المؤسسات السيادية بمسؤولين لم يؤدوا له طقوس الولاء والطاعة.

في الأثناء، قد يكون الدور الأميركي العائد بقوة إلى ليبيا، صاحب القرار الفصل في الموضوع، وهو مرتبط بمزاج ترامب، وقد يتأثر لاحقا بالتحولات السياسية في المنطقة، لذلك فإن أطرافا ليبية عدة تنتظر ما تفضي إليه انتخابات الثالث من نوفمبر القادم في الولايات المتحدة. حكومة الوفاق والإخوان والأتراك قد يحاولون تعطيل أي مشروع للحل إلى ما بعد الكشف عن هوية نتائج التصويت.

هناك من الليبيين من يعتبرون أن القرار الأميركي نحو بلادهم ناتج منذ العام 2011 عن ردود الفعل المتشنجة، يمكن القول إن واشنطن فشلت في كل القضايا التي تدخلت فيها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من العراق وسوريا إلى اليمن وليبيا، وهو ما يعود إلى عجزها عن فهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية والتاريخية للصراعات، هي فقط تربط السياسي بالاقتصادي، فتفشل في الجانبين.

الليبيون يرون كذلك أن التركيز على الحل السياسي ليس حلّا، فالمسألة بالأساس أمنية، وطالما هناك ميليشيات متهورة وسلاح منفلت فإن المواجهات قد تعود في أي لحظة بهدف إعادة خلط الأوراق، فعملية “فجر ليبيا” الانقلابية في العام 2014 يمكن أن تتكرر.

وما حدث الجمعة الماضية من مواجهات مسلحة بين فصيلين ميليشياويين تابعين لحكومة الوفاق هما “أسود تاجوراء” و”الضمان”، وتحرك الدبابات والمدفعية الثقيلة بين الأحياء المدنية في ضاحية تاجوراء، يمثّل دليلا آخر على أن سلطات غرب البلاد إنما تعتمد على عصابات مسلحة غير قادرة على الانضباط للقانون، ولا يمكن الحديث عن أمن واستقرار في ظل اندفاعها المستمر لسفك الدماء، وقدرتها على الإفلات من العقاب، وعندما قرر السراج وقف المواجهات التجأ إلى إرهابي ملاحق دوليا، وهو صلاح بادي، ليقود مفاوضات بين الطرفين، وإلى ميليشيا بشير البقرة للإشراف على وقف إطلاق النار.

هناك من يعتقد أن العالم لا يريد للأزمة أن تنتهي، طالما أنه لا يضغط من أجل حل الميليشيات وجمع السلاح ولو عبر قوات أممية لفسح المجال أمام المصالحة وتنظيم الانتخابات، لأن أي استحقاق انتخابي لا يمكن أن ينجح وأيادي المسلحين على الزناد، فالانتخابات في بعض البلديات خلال الأيام الماضية أكدت ذلك، عندما تدخلت الميليشيات لفرض لوائح معينة ضد أخرى (مدينة الخمس مثالا).

اليوم هناك مسارات مختلفة للحوار في المغرب ومصر وسويسرا وداخل ليبيا، وقد تكون في دول أخرى، ولكن النتائج ستبقى حبرا على ورق، لأنها لن تجيب عن الأسئلة المهمة: ما هو مصير اتفاقات السراج مع أردوغان؟ ما هو مصير القوات التركية والمرتزقة؟ ما هو مصير الميليشيات وأمراء الحرب؟ متى ستتحقق المصالحة الوطنية؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: