هاري ماذا الجزائرية امرأة اخترقت الرئاسة وتلاعبت بكبار مسؤولي الجزائر

قبل أن يسقط نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في ربيع العام 2019، لم يكن الجزائريون يعرفون شيئا عن مدام ”مايا“، وليس في مخيالهم غير أن الرئيس الذي حكمهم لعقدين كاملين لا يحظى بأسرة ولا بأبناء.

إلا أن الكواليس في هرم السلطة كانت تقدم السيدة على أنها ابنة بوتفليقة، ويفرش لها المسؤولون السجاد الأحمر أينما حلت وارتحلت، بما فيها المساعدة على الاغتراف من المال العام والإقامة في محمية الدولة، والحماية بأعوان الدولة، إلى غاية كشف القضاء عن خيوط المرأة اللغز.

أزاح القضاء الجزائري الستار عن واحدة من ألغاز نظام بوتفليقة، الذي يعتبر الدمار الثاني الذي ضرب البلاد بعد دمار العشرية الدموية، بعد أن كشف عن خيوط اللعبة التي كانت تديرها نشناشي زليخة شفيقة، بعدما أقنعت كبار المسؤولين في الدولة بمن فيهم من يزعمون القرب من حلقة الرئاسة، بأنها ابنة الرئيس.

واستطاعت مدام ”مايا“ التي كانت تحظى بثقة ودعم رموز النظام، أن تنسج شبكة علاقات متداخلة، لاسيما وأنها على حد كبير من الجرأة والشجاعة على إيهام مسؤولين سامين في الدولة دون خوف ولا وجل، فكونت لنفسها ثروة طائلة من الأموال والعقارات قبل أن يفضح أمرها وتجرجر للقضاء، في حلقة جديدة من مسلسل الدمار الذي سلط على البلاد.

ظلت تلك المرأة اللغز تدير لعبتها في صمت ولتوقيت غير معلوم، إلى غاية سقوط السند الذي كانت تحتمي به، وتغير رموز النظام الحاكم، فكانت معلومات بسيطة كافية لجهاز القضاء ومصالح الأمن لأن تتحرك وتقوم بتفتيش منزل السيدة في إقامة الدولة “موريتي” بغرب العاصمة، حيث تم الكشف عن جزء من الثروة المريبة، والتي تمثلت في نحو مليون دولار من العملة المحلية وأكثر من ربع مليون دولار من العملة الصعبة، فضلا عن 17 كلغ من الذهب.

ويبدو أن المرأة التي أخافت مسؤولين كبار في نظام بوتفليقة، قد انهارت أمام المحققين بعدما كشفت عن تورط وزراء ومسؤولين أمنيين وأفراد نافذين في المجتمع، وعلى رأسهم الوزيران السابقان محمد الغازي وعبدالغني زعلان، ومدير الأمن السابق والمسجون حاليا الجنرال عبدالغني هامل، وبرلمانيون وأشخاص آخرون.

وحسب تقارير المحاكمة المستمرة، فإن الشبكة ملاحقة بتهم “مخالفة أحكام التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج، تبييض الأموال في إطار جماعة إجرامية منظمة، وإساءة استغلال الوظيفة واستغلال النفوذ”.

وأفضت التحريات الأمنية إلى ضبط أفراد الشبكة المتصلة بالوقائع المجرمة، والتي تتلخص في قيام بعض الأطراف باستغلال نفوذ إطارات في الدولة للحصول على مبالغ مالية غير مستحقة، لقاء قيام هؤلاء الموظفين والإطارات بإصدار قرارات تعود بالمنفعة العامة.

نقطة ضعف الدولة

مزاعمها بكونها ابنة رئيس الجمهورية تبقى اللغز الأكبر، كون محمد روقاب، السكرتير الشخصي لبوتفليقة، وشقيقه سعيد والوزير عبدالغني زعلان، كانوا على علم بالمرأة

اختارت البقاء خارج الأضواء وكانت تتمتع بدعم ومساعدة ديوان الرئيس السابق، وتبقى مزاعمها بكونها ابنة رئيس الجمهورية اللغز الأكبر، كون محمد روقاب، السكرتير الشخصي لبوتفليقة، والمستشار الشخصي له وشقيقه سعيد بوتفليقة، كانا على علم بالمرأة.

وقد اعترف وزير العمل السابق محمد الغازي، في إفادته أمام المحققين بأنه “قام بتنفيذ أوامر روقاب، المستشار برئاسة الجمهورية وسكرتير بوتفليقة، لمنحها قطعة أرض بغية إقامة مركز تسلية، لما كان يشغل منصب محافظ ولاية الشلف”، الأمر الذي يوحي إلى أن عمر الشبكة وتاريخ المرأة في اللعبة يعودان إلى سنوات ماضية وليس خلال الآونة الأخيرة فقط.

وبنفس التهمة ”منح قطعة أرض“، يتابع الوزير السابق ومدير حملة بوتفليقة في الانتخابات الملغاة، في أبريل العام الماضي، عبدالغني زعلان، حين كان واليا في محافظة وهران، في حين تمت مساءلة مدير جهاز الأمن السابق الجنرال المسجون عبدالغني هامل، على تخصيص أفراد من وحدة أمنية لحماية الشخصيات، من أجل حماية “مدام مايا”.

ولأن المرأة التي تمكنت من استغلال مسؤولين ووزراء في مناصبهم للظفر بصفقة أو الحصول على مزية، أثارت ضجة في الأوساط الجزائرية غير المتعودة على هذا النوع من الروايات النسوية، فإن الفضول دفع الكثير لمتابعة القضية ومشاهدة هذه المرأة التي ضحكت على رجالات السلطة.

التحقيقات تبين أن المرأة قامت بتبييض عائداتها المالية، ضمن ما اصطلح عليه قانونيا بتكوين جماعة إجرامية منظّمة، تخصصت في الاستثمارات وشراء العقارات في الضواحي الراقية بالعاصمة، وتهريب أموال أخرى بالعملة الصعبة إلى الخارج خاصة نحو إسبانيا

وذكر تقرير محلي “راح الجميع ينتظر دخول المتهمة إلى قاعة الجلسات، فكانت المرأة الوحيدة بين المتهمين بعباءة سوداء وخمار أبيض. شعر أشقر خرجت بعض من خصلاته، بيضاء البشرة، وتجاعيد توحي إلى سنها الذي تجاوز الستين، وبمجرد دخولها قاعة الجلسات راحت تلوّح بيديها لتحيي شابتين في مقتبل العمر، اتضح في ما بعد أنهما ابنتاها المتورطتان بدورهما في القضية”.

وأضاف “بعد قرار المحكمة بتأجيل القضية اندفعت البنتان نحو والدتهما، وحاولتا التقرب منها لإلقاء التحية، غير أن مصالح الأمن قاموا بمنعهما ما جعل مدام دليلة تنفجر في وجههم، وتتوسل القاضي: لماذا سيدي القاضي؟ سبعة أشهر لم أر ابنتي لماذا أُمنع من الحديث إليهما؟.. ما جعل البنتين تجهشان بالبكاء وتهمان بمغادرة المحكمة”.

وبينت التحقيقات حول المرأة القابعة في السجن تحسبا لمحاكمتها، أن ”مدام مايا“ التي أوهمت ولاة جمهورية (محافظون) ومسؤولين كبار في الدولة بأنها ابنة بوتفليقة، من زوجته السويسرية، وذلك بغية الحصول على عقارات وامتيازات غير مستحقة، وهو ما مكنها من أراض وفيلات في الداخل والخارج وأملاك عينية وأرصدة منتفخة في بنوك محلية وخارجية.

واعترفت المتهمة للمحققين بأنها على علاقة بنافذين في الدولة، ومنهم روقاب الذي تعرفت عليه العام 2004، والذي عرفها بدوره على الرئيس ومقربيه، كشقيقه ومستشاره الشخصي المسجون سعيد بوتفليقة.

ابنة وهمية

غير أن اللبس في لغز الابنة الوهمية لبوتفليقة، يبقى قائما، فقد كان بالإمكان كشف أطوار مدام ”مايا“، قبل أن تنقلب الأوضاع في هرم السلطة، بعد تنحي جناح الرئاسة السابقة، وقدوم السلطة الجديدة التي لا تتوانى في فتح كل الملفات التي تدين أسلافها.

وحين تغلغلت الشكوك حول هوية المرأة في المحيط المقرب من بوتفليقة، كان بالإمكان غلق الملف بشتى الوسائل، فقد كان سعيد بوتفليقة هو الحاكم الفعلي للبلاد، بالنيابة عن شقيقه المنتخب، لكن الرجل اختار أن يعالج القضية بطريقته الخاصة، لما باعد بين المشككين في هوية المرأة وبينها دون المساس بمصالحها وامتيازاتها ونفوذها.

وجاء في المحاضر القضائية أن “الوزير السابق المسجون عبدالغني زعلان، الذي كان واليا حينها  لولاية وهران، اتصل بشقيق الرئيس السابق سعيد بوتفليقة وطلب منه حقيقة ابنة الرئيس، لينفي الأخير تماما علاقتها بأخيه ويطلب منه ومن الغازي تجميد كل قرارات الاستفادة التي تحصلت أو كانت ستمنح لها، مقابل ترقيتهما إلى منصبين هامين، وهو فعلا ما حدث بعد شهرين فقط حيث عينا في منصبي وزير الأشغال العمومية ووزير العمل”.

وهو ما يبقي نقاط ظل أخرى حول هذه الشخصية، التي ظلت تحظى بحماية محيط بوتفليقة، رغم أنها زعمت الانتماء إلى العائلة، وبعلم أقرب العاملين معه، مما يطرح فرضية التواطؤ معها لأغراض غير معلومة لحد الآن.

عالم الظل

 القضاء الجزائري يزيح الستار عن أحد ألغاز نظام بوتفليقة، الذي يعتبر الدمار الثاني الذي ضرب البلاد بعد دمار العشرية الدموية، بعد أن كشف عن خيوط اللعبة التي كانت تديرها نشناشي زليخة شفيقة

استطاعت نشناشي زليخة أن تربط علاقات بمسؤولين وموظفين سامين في الدولة، ومكنها نفوذها من ابتزاز مقاولين ورجال أعمال وحملهم على دفع رشاوى ومزايا وأموال، مقابل التدخل لصالحهم لدى المسؤولين السامين في الدولة، خاصة وأنها لا تتردد في تقديم نفسها على أنها ابنة رئيس الدولة من زوجته السويسرية، الأمر الذي أتاح لها تكوين ثروات طائلة وعقارات في الداخل والخارج.

كما أوضحت التحقيقات أنها قامت بتبييض عائداتها المالية، ضمن ما اصطلح عليه قانونيا بتكوين جماعة إجرامية منظّمة، تخصصت في الاستثمارات وشراء العقارات في الضواحي الراقية بالعاصمة، وتهريب أموال أخرى بالعملة الصعبة إلى الخارج خاصة نحو إسبانيا، حيث كانت تستفيد من تواطؤ بعض الموظفين على مستوى المطار الدولي، وهي الأموال التي وظفتها في شراء عقارات وفتح حسابات بنكية في عدد من الدول الأوروبية، على غرار إسبانيا.

وإذ يستقبل القضاء الجزائري العديد من قضايا النصب والفساد تورطت فيها نساء، لكن ذلك يبقى في مستويات دنيا، ولم يحدث أن تلاعبت امرأة بهذه الجرأة والشجاعة على مسؤولين كبار في الدولة، وفوق ذلك زعمت الانتماء إلى عائلة الرجل الأول في الدولة الذي يعرفه الجميع بكونه وحيدا، وليس في ذمته عائلة أو أبناء.

ومع ذلك تكشف القضية عن هشاشة المؤسسات الرسمية وسهولة اختراقها، فضلا عن نمطية إدارة الشأن العام بالبلاد، بحيث كان كل ما هو بوتفليقي، لا يرد له طلب حتى ولو كان على حساب القانون ومصالح الدولة، وأن الفساد كان عقيدة قائمة عموديا وأفقيا، وإلا لما تمكنت امرأة لا أحد يعرف عنها شيئا في دوائر السياسة والإعلام، من أن تخترق مؤسسة الرئاسة وتتلاعب بمسؤولين كبار وتكون ثروة طائلة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: