الوحدة المغاربية: لم ليست فكرة خيالية؟
لا ينقصنا إلا هذه! قد يقول البعض معارضا بشدة. لكن من يتصور أن مستقبل الجزائر سيكون داخل الجزائر وحدها، وأن مستقبل تونس سيكون داخل تونس فحسب، وأن مستقبل ليبيا والمغرب وموريتانيا سيكون كذلك داخل ليبيا والمغرب وموريتانيا فقط؟ قلة من يتوهمون ذلك. فمع أن كل واحدة من تلك الدول لها، ولو على الورق، ما يكفيها من الموارد والثروات، وهي ليست بحاجة نظريا لأحد، كما أن عراقة بعضها تجعلها بمأمن نسبي من عوامل التفكك والانهيار السريع، إلا أنه لا أحد باستطاعته أن يتخيل كم ستمتد أعمارها الافتراضية، وكم ستستمر بالشكل والأسلوب الذي هي عليه الآن.
ولا أحد بمقدوره أيضا أن يجزم، وبشكل قاطع، وأمام كل ما يشهده الشمال الافريقي من تطورات وتقلبات، إن كانت تلك الدول لن تضطر آجلا أم عاجلا للاندماج بشكل من الأشكال في ما بينها، سواء كان ذلك برغبتها، أو تحت ضغط الحاجة والضرورة. والقضية ليست عاطفية أبدا، كما قد يعتقد البعض. فصحوة الشعوب المغاربية واستفاقتها من غيبوبتها الطويلة وانزياح الغشاوة عن أعينها، وتمكنها من رؤية الكثير من الأشياء، جعلها تكتشف أن قسما واسعا من تاريخها المعاصر، ومن أمجاد دولها وأساطير وبطولات حكامها، خصوصا في السنوات الأولى للاستقلال، كان محض إبهار وخدع لفظية وبصرية لا غير، ومكنها من أن تدرك أيضا كم كان التفاف حكوماتها على الفكرة المغاربية ماكرا وخادعا، وكم جعلها تبدو ملتبسة وفارغة من أي مضمون، مثلما منحتها المؤشرات والدلائل القطعية، على وجود مصلحة حيوية من وراء تحقيقها اليوم قبل الغد مبررات قوية لطرحها من جديد.
ومع أن الفاصل الزمني بين الخيالي والواقعي كان في وقت ما شبه مفقود، حين كانت الحكومات تلعب جيدا على وتر المشاعر، إلا أن تقلبات وصدمات الواقع وما حصل، خصوصا في العشرية الأخيرة، قلص من هامش مناوراتها المعتادة وحدّ منه بشكل ملحوظ. غير أنه لا يبدو من السهل الآن تماما أن نفصل الفكرة عن سياقاتها التاريخية، وأن نخرج مشروعا حالما وطموحا كالوحدة المغاربية مثلا مما التصق به من أحداث ووقائع ومناخات، في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وحتى الثمانينيات. ولعل واحدة من بين تلك العقبات التي تواجهه فضلا عن تقلب الأمزجة والمواقف الرسمية، وترسخ العداوات، هي أن حساسية بعض الشعوب والحكومات وهواجسها القديمة، تجعلها عاجزة عن فهم المتغيرات واستيعاب طبيعة الحاجات العملية لا العاطفية، التي تدفع الدول المغاربية للتكامل في ما بينها، لإنشاء شكل من الوحدة بين أقطارها. وهناك بالتأكيد عوامل موضوعية في منطقة الشمال الافريقي تكرس ذلك مثل، تفاقم الاضطرابات والمشاكل التي يمر بها الإقليم، وما يعصف به من أزمات حادة تهدد استقرار كياناته الوطنية، وتضع حتى وجودها الشكلي على كف عفريت، وهي جميعا عناصر تمنح ما يتصورونه، من أن ذلك السبيل لن يكون مجديا بالمرة، وأنه سيكون بمثابة الحرث في البحر، مزيدا من الحجية والقوة. والأمر قد يكون مفهوما إلى حد ما، فجزء من اليائسين وممن نفضوا أيديهم تماما من الفكرة المغاربية، أو ممن ينكرون أصلا وجود مغرب كبير، هم من احترقوا سابقا بنيران التجارب الاندماجية الوحدوية المحبطة، التي حصلت في فترات وظروف مختلفة من التاريخ المعاصر للمنطقة، وكان بعضها في قمة السيريالية والسخافة، مثل الوحدة القصيرة التي حصلت في السبعينيات بين تونس وليبيا ودامت لأربع وعشرين ساعة فقط. وهؤلاء قد يرون في ما يعتبرونه محاولة لتكرار الشريط القديم عبثا مضاعفا. ولكن أليس ذلك إسقاطا متجنيا وخاطئا؟ فمن قال إن كل الوحدات والتجارب التكاملية، أو الاندماجية تتطابق بالضرورة مع بعضها بعضا، وإنها تتشابه دائما وأبدا، ولا تعدو أن تكون نسخا لأصل واحد؟ ثم كيف لا ينظر البراغماتيون، وهم الأعلى نفوذا والأقوى صوتا للأمر على أنه قد يمثل ومن الزاوية التي يفضلون، أي زاوية المصلحة فحسب، فرصة مثالية لكسب الأمرين معا، أي إنقاذ الدول من مخاطر انتكاسها، وحتى تقسيمها وتفككها، وبناء قوة إقليمية صاعدة في الوقت نفسه؟
إذا لم يكن بناء مغرب واحد حلما وطموحا مشروعا لشعوبه، ألا يكون ولو في الحد الأدنى مصلحة اقتصادية واجتماعية لدوله؟
في معظم المؤتمرات والملتقيات التي تهتم بالبحث في فوائد التكامل والتعاون بين الدول المغاربية، صارت الجداول البيانية التي تقدم تحت مسمى «كلفة اللامغرب» كالملح الذي لا يغيب عن طعام. فمن خلالها يحدد المختصون في المالية والاقتصاد وبطرق علمية وبملايين الدولارات، مقدار الخسارة السنوية التي يتكبدها كل قطر من الأقطار المغاربية الخمسة، جراء محدودية مبادلاته التجارية والاقتصادية مع الباقين، وحجم الأرباح السنوية التي يفرط في تحصيلها في ظل بقاء مبادلاته معهم منحسرة وضئيلة بالشكل الذي هي عليه. غير أنه لا أحد ممن يوصفون بالبراغماتيين على امتداد الأقطار المغاربية يجد ذلك مغريا، لدرجة قد تدفعه لمراجعة حساباته، أو تغيير مواقفه، والخروج قليلا من قوقعته الوطنية. فإقرار الخبراء والمختصين الماليين، وحتى الحكومات بحقيقة ما تتضمنه تلك الجداول من أرقام مهمة، يقف غالبا عند ذلك الحد. وغالبا ما لا تلتقط صنارة الكسب المالي والاقتصادي، التي ترمى من خلال تلك العروض، إلا مزيدا من الوعود والأمنيات والتطلعات الفارغة، فيما تعجز رغم قيمة الإغراءات ودقة الظرف، وتفاقم الصعوبات المالية التي تمر بها تلك الأقطار عن جذب السلطات المغاربية، وجعلها تغير بوصلتها، لتنسجم ولو قليلا مع ما تقوله دائما وأبدا عن إيمانها بالمغرب الكبير، وبحتمية السعي الحثيث لتحقيقه. ولكن كيف يحصل ذلك في زمن البراغماتية والمصالح؟ وإذا لم يكن بناء مغرب واحد حلما وطموحا مشروعا لشعوبه، ألا يكون أيضا ولو في الحد الأدنى مصلحة اقتصادية واجتماعية لدوله؟ لعل غلق معظم الحدود المغاربية تحت مبرر التوقّي من انشار فيروس كورونا، مثّل ضربة موجعة أخرى للمشروع المغاربي، وزاد من الفتور النسبي للفكرة، وجعلها تبدو رخوة وغير واقعية بالمرة. فأي وحدة يا ترى تلك التي ستكون ممكنة في ظل توسع دائرة الوباء وانتشاره المخيف والسريع داخل الأقطار المغاربية؟ ومع ذلك فليس هنا أصل المشكل، إذ من الضروري أن نضع الاصبع على الداء، فهناك من يعتقد أن العصا الصحراوية هي من تعطل العجلة المغاربية، وأن السبب الحقيقي لتوقف أي وحدة بين الأقطار الخمسة هو بقاء تلك المعضلة بلا حل جذري. ولكن من لديه الاستعداد حقا للنظر أبعد مما تحت قدميه؟ ربما سيكون سهلا على من لا تعوزه الإرادة أن يفكر مثلا في أن الفيدرالية يمكن أن تكون مقترحا جيدا لنزع فتيل كل الأزمات المفتعلة والحقيقية في الإقليم، وضمان قدر معقول من السيادة والتعاون بين بلدانه وشعوبه. لكن أول ما ينبغي على المغاربيين فعله هو أن لا يشكوا ولو للحظة في أن وحدتهم تبقى ممكنة جدا وواقعية بشكل لا غبار عليه.