مستقبل الجزائر في الحراك والمشروع المغاربي
نعم مستقبل الجزائر يتوقف على هذين المشروعين الكبيرين، القبول بمطالب هذه الثورة السلمية، التي سميناها تواضعا حراكا، لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية، والانطلاق في تحقيق المشروع المغاربي المعطل، الذي يجب عدم التعامل معه كمشروع خارجي، يهتم بالبعد الدولي للجزائر. بالعكس المشروع المغاربي قضية داخلية من الدرجة الأولى، إذا تعاملنا معه في علاقته بالحراك، كمشروع بناء على أسس جديدة للدولة المدنية، التي طالب بها المواطن، ليس في الجزائر فقط، بل في كل المنطقة المغاربية.
مشروع مغاربي، فشلت أجيال ما بعد الاستقلال في تحقيقه، بعد نجاح نخبها السياسية الوطنية الفاعلة في انتصار أولي، بحصولها على استقلال الدولة الوطنية، تعاملت معه كغنيمة حرب لصالح فئات محدودة، استفادت من هذا الاستقلال الذي لم يتجاوز في الغالب البعد السياسي الشكلي. اكتفت داخله بالبناء الوطني وحتى ما قبل الوطني، في بعض الأحيان، حتى وهي تنادي بالمشروع المغاربي كخطاب سياسي، لم تعمل جديا على تحقيقه على أرض الواقع، بل حاربته في أحيان أخرى. تم ترحيله عمليا، كمهمة للأجيال الجديدة، الحاضرة بقوة داخل هذا الحراك الشعبي، الذي يطالب بالقطيعة مع النظام السياسي الذي سيطرت داخله أجيال ما بعد الاستقلال، التي لم تفشل فقط في بناء الدولة الوطنية، التي وعدت بها الحركة الوطنية، بل فشلت كذلك في التوجه بجد لبناء المشروع المغاربي، الذي كان على رأس أولويات الحركة الوطنية المغاربية.
مشروع مغاربي، لا يمكن تصور نجاحه في ظل العلاقات القائمة بين المواطن والدولة، في كل الحالات الوطنية المغاربية، وليس في الجزائر فقط. وهو ما يفترض القبول بمطالب الحراك، المنادي بعلاقات من نوع آخر مع المواطن، تعتمد على الديمقراطية كقيمة مركزية، وقيم المواطنة التي تسمح لهذا المواطن بالتدخل بقوة كفاعل جماعي في الشأن العام، وهو يتجه الى بناء دولته المدنية التي يطالب بها الحراك، حتى لو أن الحالة التونسية، ما بعد الثورة، لا تذهب في هذا الاتجاه. ونحن نلاحظ كيف «تقوقع» التونسيون على مشاكلهم الداخلية، بدل التوجه للاهتمام بالبعد المغاربي، الذي تتبناه فرضيتنا المتفائلة.
قد يكون الأمر مرتبطا بمكانة وإمكانيات تونس المحدودة كدولة، داخل هذا الفضاء المغاربي الكبير، الذي يجب التفكير فيه كمجال أوسع من الثلاثي، المغربي الجزائري التونسي القديم، حتى يقوم بدوره الإقليمي، في محيطه الطبيعي الافريقي والمتوسطي والعربي، بتوسيعه شرقا إلى ليبيا وجنوبا إلى موريتانيا، دعما لهذا الدور الإقليمي للفكرة المغاربية، التي تحتل فيها الجزائر مكانة متميزة، نتيجة عمقها الافريقي، ومكانتها الجغرافية المركزية، يمكن أن تكون دعما قويا للحالة التونسية الثورية، التي تعيش عزلة في محيطها المغاربي – رغم النافذة الجزائرية المفتوحة أمامها – والعربي، الذي يضغط لكي تنتكس فيها الأوضاع حتى تقترب مما هو سائد عربيا، كما تعمل عليه قوى الثورة المضادة، اعتمادا أساسا على تداعيات الأزمة الاقتصادية التي يمكن ان يساعد فيها بقوة المجال المغاربي، لو نجح هذا المشروع الجريء، الذي تبين مع الوقت أن شروط نجاحه مرتبطة بالتغيير السياسي داخل بلداننا المغاربية. وبقدرة النخب الفكرية والسياسية المغاربية على القيام بقراءات جريئة تتجاوز منطق «المعقول والمقبول» سياسيا، ضمن فكر الدولة الوطنية السياسي ومؤسساتها المترهلة.
لهذا نجد أن الحراك الذي تعيشه الجزائر وبلدان مغاربية أخرى بدرجات متفاوتة، قد يكون الفرصة السانحة لبناء هذا الفضاء المغاربي، والدعوة له على الأقل. فضاء مغاربي عليه أن يفكر بشكل مختلف في الأولويات الاقتصادية، التي ستعتمد في هذه الحالة على سوق أوسع من سوق الدولة الواحدة، التي بنيت عليها حسابات التنمية حتى الآن، إنها عاجزة عن أن تكون منطلقا لاي تنمية جدية. بمقاييس العالم الذي نعيش فيه. سوق تملك إمكانيات طبيعية وبشرية، قادرة على أن تحول هذه المنطقة الى بؤرة تنمية فعلية بالقرب من الجار الأوروبي الغني. بدل اقتصاد – الدركي الذي يطالبنا به، خوفا على حدوده الجنوبية من فقراء الساحل الافريقي المضطرب، وشبابنا الحراق الذي تزداد هجرته السرية، كلما فقد أمله في التغيير، كما بينت الحالة الجزائرية أثناء الحراك. ساحل افريقي فقير، سيكون علينا التفكير جديا كمغاربيين، في دعمه سياسيا وتنمويا بشكل مختلف نوعيا عن الرؤية الأوروبية الاستعمارية – الجديدة. ومنطق الدولة الوطنية العاجزة. ليكون دعامة جنوبية لهذا البناء المغاربي، كما كان تاريخيا.
الحراك الذي تعيشه الجزائر وبلدان مغاربية أخرى بدرجات متفاوتة، قد يكون الفرصة لبناء الفضاء المغاربي والدعوة له على الأقل
إعادة التفكير في هذه الأولويات والعلاقات مع المحيط الدولي بشكل جريء ومختلف نوعيا، ستؤدي بالضرورة إلى قراءة جديدة للأولويات، لن يكون التسلح على رأسها، كما هو الحال الآن على سبيل المثال، ما يسمح بتوفير أموال طائلة، توجه بدل ذلك نحو التنمية البشرية التي يعاني منها الشباب في المنطقة المغاربية، الذي كان على رأس المطالبين بالتغيير السياسي، وهو يمنحه الأولوية المطلقة كمطلب، حتى على حساب المطالب الاقتصادية والاجتماعية، التي تبينت له بالسليقة أنها غير ممكنة التحسن، في ظل الدول الوطنية ونخبها العاجزة، التي مازالت تفكر بمنطق القرية، بدل فضاءات طبيعية كبرى، داخل بناء مغاربي موحد، يتم التعامل داخله بشكل ذكي، مع مسألة الحدود الدولية الوطنية، لصالح ما يقتضيه تحقيق المشروع المغاربي، الذي لم يُعد تاريخيا، الخصوصيات المحلية الثقافية والاجتماعية المتنوعة، كانت على العكس دعامة قوية للبناء المغاربي الواحد. وهو ما فهمه الحراك ومن ورائه الشباب – حتى إن لم يتم التعبير عنه بشكل جلي وواضح حتى الآن في مشروع سياسي. إن المجال الطبيعي للتغيير هو الفضاء المغاربي، الذي بقي الشباب مرتبط به، رغم ما تعرض له من تشويه فكري وطني وشوفيني ضيق، في الكتاب المدرسي والخطاب السياسي، عمل لسنوات منذ سنوات الاستقلال الأولى على تغيير بوصلته عن الاتجاه المغاربي الذي يعيشه بشكل طبيعي في لغاته اليومية، ونوعية أكله ولباسه، ومخياله التاريخي وعلاقات النسب ما فوق الوطنية.
مشروع يتطلب بروز نخب سياسية وفكرية شابة، من رحم التحولات التي تعيشها المجتمعات المغاربية، تؤمن بأن التغيير داخل البلد الواحد سيبقى عاجزا وقابلا للانتكاسة، إذا لم يصل إلى مداه المغاربي الطبيعي. وإن القبول بمطالب الشعوب التي ينادي بها الحراك الشعبي، في أكثر من حالة وطنية، هو بداية الطريق الصحيح نحو بناء هذا الصرح المغاربي الكبير الذي سيكون عامل قوة واستقرار وسلام في المنطقة المتوسطية، العربية والافريقية، كما كان تاريخيا على الدوام.