الرئيس الجزائري يحمي كوادر الدولة من بلاغات الفساد الكاذبة
آليات محاربة الفساد لا زالت تفتقد لتوفير الحماية اللازمة للمبلغين عن المفسدين
أخذت عملية محاربة الفساد في الجزائر منحى آخر، بعد تدخل رئاسة البلاد لمراجعة إحدى أبرز آليات العملية، في خطوة تستهدف حماية كوادر الدولة من البلاغات الكاذبة وإضفاء مناخ الاستقرار داخل المؤسسات، لكنها أعادت طرح ممارسات التستر وحماية المبلغين من سطوة لوبيات الفساد.
ووجه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، تعليمة إلى السلط المدنية والأمنية في البلاد، يبلغهم فيها الوقف الكلي للعمل بالبلاغات المجهولة المصدر في عملية محاربة الفساد، تجسيدا لتصريحات سابقة أدلى بها لوسائل إعلام محلية، حول آليات محاربة الفساد وعدم تحويله إلى تصفية حسابات وممارسات كيدية أوقعت الكثير من الضحايا.
وقال الرئيس تبون إنه “لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال (البلاغات المجهولة المصدر) دليلا قطعيا لنسب وقائع تكتسي صفة الجريمة أو الجنحة”، في إشارة إلى توصل الأجهزة المختصة بمعطيات حول عدم جدوى ذلك النوع من البلاغات وطابعها غير الرسمي في توجيه التهم للمعنيين.
وتابع “إن تقارير وردت إلى رئاسة الجمهورية، حول متابعة قضائية على عدد من إطارات الدولة والمسؤولين على مختلف المستويات، بناء على مجرد رسائل مجهولة، غالبا ما كانت عارية من الصحة، وقد تم توجيهها إلى مختلف الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة، مما أدى إلى حرمان عدد من هؤلاء الإطارات من حريتهم”.
وأضاف “إن حالة من الشلل في نشاطات الإدارات والمؤسسات العمومية، بسبب الخوف والخشية من الوقوع تحت طائلة المتابعة بناء على مجرد رسائل مجهولة، حتّى أن العديد من المسؤولين الآخرين أصبحوا يقتصرون على الحد الأدنى من التزاماتهم ويمتنعون عن أي مبادرة، مما أسفر عن تأجيل معالجة ملفات هامة، تكتسي أحيانا الطابع الاستعجالي، إلى تواريخ لاحقة، متسببة في إلحاق أضرار بليغة بسير هذه المؤسسات”.
وأخذ الفساد في الجزائر طابعا فظيعا بعد الكشف عن العديد من الملفات التي تورط فيها كبار المسؤولين في الدولة ورجال الأعمال، حيث تم تبديد ونهب المليارات من الدولارات، كان آخرها الرقم المتداول في محكمة بالعاصمة، عند معالجة ملف “الإخوة كونيناف” المقربين من نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، حيث كشفت المحكمة عن زهاء الـ18 مليار دولار، أخذت في شكل قروض من البنوك والمصارف المحلية.
وعززت ملفات الفساد المفتوحة في الجزائر، عمق أزمة المنظومة الحاكمة المطالبة بالرحيل الكلي من السلطة من طرف المعارضة الشعبية، في ظل اليأس من محاولات الإصلاح أو محاربته من الداخل، بعد تغلغل الظاهرة إلى عمق مؤسسات الدولة، وضلوع نخب سياسية ومالية وعسكرية في الظاهرة.
الشارع الجزائري لا يحمل آمالا كبيرة في استعادة عشرات المليارات من الدولارات المنهوبة من أمواله ومقدراته
ورغم انتهاء الأحكام إلى عقوبات مشددة على رموز الفساد على غرار رجال الأعمال كعلي حداد، محي الدين طحكوت والإخوة كونيناف، ومسؤولين سامين سابقين كرئيسي الوزراء عبدالمالك سلال وأحمد أويحيى.. وغيرهم، وحجز جميع ممتلكاتهم، إلا أن الشارع الجزائري لا يحمل آمالا كبيرة في استعادة عشرات المليارات من الدولارات المنهوبة من أمواله ومقدراته.
وفي تلميح إلى ضرورة عدم تكرار تجربة حملة “الأيادي البيضاء” التي فتحتها السلطة في تسعينات القرن الماضي، بإيعاز من رئيس الحكومة المسجون أحمد أويحيى، والتي أفضت حينها إلى سجن وتشريد العشرات من الكوادر الحكومية بتهم فساد كيدية، شدد الرئيس الجزائري على “ضرورة التمييز بين أخطاء التسيير الناجمة عن سوء في التقدير، والتصرفات العمدية التي لا تخدم سوى القائمين بها أو أطراف أخرى تحركها نوايا سيئة”.
وأكد على أن “الإدارة القضائية تمتلك للقيام بذلك، كل الوسائل القانونية لإجراء التحريات اللازمة في هذا الشأن، وإذا كانت مكافحة الفساد أمرا ضروريا ولا رجعة فيه، فإن ذلك لا يجب أن يأخذ مهما كان الأمر، مجرى حملة للمساس باستقرار وسائل إنجاز وتجسيد مهام الدولة ومختلف هياكلها التنفيذية”.
وتابع “إن الشائعات التي غالبا ما يروج لها أصحاب المال الفاسد تغذي هذا الجو العكِر، وغايتهم المساس، بأي ثمن كان، باستقرار الدولة وهياكلها والإفلات من مصيرهم المحتوم”، في إشارة إلى مساع تفترضها السلطة الحالية “لجيوب النظام السابق تعمل على خلط الأوراق وإرباك عمل المؤسسات الجديدة”.
ولفت تبون إلى “ضرورة التمييز بين الأعمال الناجمة، رغم طابعها المدان، عن عدم الكفاءة أو سوء التقدير، والتي لا تحمل أي نية أو إرادة في الفساد الإيجابي أو السلبي، ولا تجلب أي امتياز لشخص العون غير الكفء، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولا لعائلته أو أصدقائه أو معارفه، والتي ستعاقب بشكل صارم على المستوى الإداري من جهة، وبين الأفعال التي خلفت خسائر اقتصادية ومالية للدولة بهدف منح امتيازات غير مستحقة للغير، منتهكة القوانين والتنظيمات ودون أي استشارة مكتوبة للسلطة من جهة أخرى”.
وكان الرئيس الجزائري قد ذكر في تصريح سابق له، أن “من يريد تقديم خدمة للدولة عليه بالتوجه العلني إلى المؤسسات الرسمية وإلى منابر الإعلام لتقديم إفادته حول أي ملف، أما من يعتقد بأن محاربة الفساد تتم بالبلاغات المجهولة فقد انتهى الأمر.. الدولة تملك كل إمكانات التحري والتحقيق وكشف الحقائق”.
ومع ذلك تبقى العملية معقدة في نظر شهود عيان، قياسا بقدرة لوبيات الفساد على شل كل محاولات كشف ممارساتها، حيث دفع العديد من المبلغين عن الفساد ثمنا باهظا وتم تشريدهم وطردهم من وظائفهم.
وذكر في هذا الشأن الإعلامي عبدالعالي مزغيش، أن سبب طرده من وظيفته في التلفزيون الحكومي، جاء نتيجة لتبليغه عن ممارسات فساد داخل المؤسسة الحكومية، وأنه تم الانتقام منه رفقة زميلة له بالتوقيف عن العمل، من طرف الإدارة التي استشعرت خطر نشر غسيلها أمام أجهزة محاربة الفساد.