في خلفيات الدور المغربي في التسوية السياسية للملف الليبي

لم يكن أحد يتصور أن ينجح المغرب مرة ثانية في جمع الفرقاء الليبيين على طاولة واحدة، وفتح نافذة جديدة لاستئناف الحوار السياسي استثمارا لمادة في اتفاقية الصخيرات التي أبرمت سنة 2015 (المادة 15)، للخروج من المأزق الخطير الذي تسببت فيه الإرادات الإقليمية في المنطقة.
المغرب، وجريا على نفس العادة التي التزمها في الصخيرات، في النأي بالنفس عن التدخل والوساطة بين الطرفين، ولا حتى طرح مبادرة تسوية، اكتفى بجمع الفرقاء السياسيين، وتوفير الفرصة للنقاش السياسي باستثمار المادة 15 التي تفتح خيارات التسوية من خلال الاتفاق على تقسيم المواقع القيادية ذات الطبيعية السيادية في ليبيا بين الطرفين.
كان ثمة قلق كبير من مستقل هذا الحوار، لاسيما في ظل الصراع الإقليمي الذي اشتد في شرق المتوسط بين تركيا وفرنسا، وفي ظل سعي إماراتي حثيث لتأجيج المنطقة، وتحريك ورقة حفتر من أجل القضاء على فرصة وقف إطلاق النار وفتح المجال للتفاوض السياسي.
المغرب بذكائه الدبلوماسي، استثمر أوراقا كثيرا من أجل الإقدام على هذه الخطوة، فقد ظل زمنا طويلا يردد بأن اتفاقية الصخيرات هي الأرضية التي تمكن من التواصل للحل السياسي، رغم أن الجنرال حفتر الذي كان مدعوما وقتها من الإمارات ومصر وفرنسا، كان يلح على أن اتفاقية الصخيرات أصبحت جزءا من التاريخ، ثم لم يتردد المغرب، غداة الاستغناء عن حضوره في مؤتمر برلين، من التأكيد على موقفه المبدئي من دخول القوى الإقليمية في المنطقة، وتأكيده على أن صراعها سيزيد الوضع تعقيدا، وأنه يرفض التدخل الأجنبي من أي جهة كانت، ويؤكد بأنه لا بديل عن اتفاقية الصخيرات.
البعض كان يعتقد أن عدم حضور المغرب لمؤتمر برلين، كان صفعة قوية للمغرب، ولدوره الدبلوماسي في هذا الملف، وربما أعطى رسالة بأنه ليس بإمكان المغرب أن يستأنف أي دور جديد، وأن هناك دولا أخرى مثل الجزائر أو ربما تونس، يمكن أن تضطلع بهذا الدور، لكن الذي حدث، أن المغرب استطاع بذكائه الدبلوماسي أن يستثمر تطورات الوضع، وخلافات القوى الإقليمية المنهكة، والمخاطر التي صارت تستشعرها دول منطقة المتوسط، فاختار التوقيت المناسب لهذا التحرك الدبلوماسي. فمن جهة، استثمر المغرب الصراع التركي الفرنسي في شرق المتوسط، والأزمة الناجمة بين تركيا واليونان، وعبره مع الاتحاد الأوروبي، لتبرير هذا التحرك، وهو يعلم أنه يفيد فرنسا، التي تبحث عن ذريعة للهجوم على الوجود التركي بليبيا، ويعلم في المقابل، أن هدف تركيا في ليبيا، ليس حسم المعركة، وإنما هو إحداث التوازن، الذي يجعل أي تفاوض سياسي بين الفرقاء ينتهي إلى إقرار مخرجات اتفاقية الصخيرات، في الاعتراف بحكومة الوفاق الشرعية، وإنهاء التكتيكات العسكرية ضدها، وهو من جهة ثالثة، يدرك أن مصر والإمارات، لم تعودا قادرتين، على الوفاء بمتطلبات الدعم المالي واللوجستي والعسكري للجنرال حفتر، وأنهما يبحثان، إلى جانب فرنسا، في خيار بديل له، يجد دعما من قبل القبائل في شرق ليبيا، كما أدرك المغرب، مخاطر استمرار الحرب، بين الطرفين، اثرها في تأجيج الصراع حول شرق المتوسط، وتحويل المنطقة إلى بؤرة إرهاب تضر باستقرار المنطقة وتخلق تحديات أمنية جمة لدول شمال المتوسط (الاتحاد الأوروبي).

مصر والإمارات، لم تعودا قادرتين، على الوفاء بمتطلبات الدعم المالي واللوجستي والعسكري للجنرال حفتر، وأنهما يبحثان، إلى جانب فرنسا، في خيار بديل له، يجد دعما من قبل القبائل في شرق ليبيا

من جهة أخرى، لا ينبغي أن نغفل بعدا آخر في الصراع، استثمره المغرب لتبرير تحركه الدبلوماسي، وهو المتمثل في القلق الأمريكي والفرنسي من توسع النفوذ الروسي في المنطقة، لاسيما بعد بروز بعض التكتيكات الروسية لإعادة تجديد ورقة حفتر بعد بروز مؤشرات الاستغناء عنه مؤقتا من قبل المحور الفرنسي المصري الإماراتي.
على أن هناك عاملا آخر، يحمل هو الآخر أهميته، فالمغرب بحكم التوتر الصامت مع الإمارات، لا يريد أن يترك الفرصة تمر، دون أن يحرك ديناميته الدبلوماسية السريعة من أجل إضعاف نفوذها في المنطقة، وتعطيل بعض أوراقها (حفتر) في المنطقة، بعدما نجحت نسبيا في التخفيف من دورها في مالي بعد نجاح الانقلاب العسكري فيها.
كل هذه الأوراق لعبت لصالح المغرب، فضلا عن الثقة التي يحظى بها المغرب في إدارة الحوار بين الطرفين، إذ لم يثبت منذ أن اقترب المغرب من الملف الليبي، أن سقط في لعبة الانحياز إلى أي طرف، حتى وهو يعلم أن (فرنسا) متوغلة كقوة إقليمية في المنطقة، وأنها جزء من الفاعلين الإقليميين الذين ساهموا في تعقيد المشكلة، والابتعاد بها عن مخرجات اتفاقية الصخيرات.
واضح من خلال مخرجات هذا الحوار الذي أجري بمدينة بوزنيقة، ومن خلال التفاهمات التي تم الإعلان عنها، أن مسار التسوية لم يكتمل بعد، وأن ما حدث لم يتعد التفاهم حول تقسيم بعض المواقع السيادية، دون الاتفاق على أسماء بعينها لشغلها، لكن المؤكد أن ترسيم هذه التفاهمات، والانتقال إلى مرحلة الشخصيات والأسماء، يحتاج محطتين أساسيتين، تتعلق الأولى بالحوار الوفد والجهة التي بعثتها، ويتعلق الثاني، بتشاور كل طرف مع القوى الإقليمية الداعمة له.
تركيا، سارعت ومن غير تردد إلى إعلان دعمها لحوار بوزنيقة، مؤكدة أنها لم تفعل أكثر من التدخل إعادة التوازن، لدعم شرعية حكومة الوفاق، وأنها في الأصل كانت تدعم حوارا سياسيا للتوصل إلى تسوية للملف، ومصر، لم يكن الحوار بعيدا عنها، فوزير خارجية مصر كان في الرباط، وأجرى لقاء مع وزير الخارجية المغربي غداة انطلاق الحوار السياسي في الفرقاء الليبيين، وسط مؤشرات للانفراج في العلاقات المصرية التركية، وفرنسا، هي الأخرى، ثمنت جهود المغرب في رعاية الحوار والدفع به نحو الخروج لتفاهمات مهمة بين الطرفين، والولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى، باركت جهود المغرب، فيما الاتحاد الأوروبي رحب بالنتائج المتوصل بها في هذا الحوار
وحدها الإمارات، عبرت عبر وسائطها الإعلامية عن انزعاجها من الدور المغربي مصرة على وصف اتفاق الصخيرات بالفاشل، ولا يبعد أن تكون ردة الفعل العسكرية التي قام بها حفتر بتزامن مع الحوار الليبي/ الليبي في بوزنيقة، يكشف طبيعة الموقف الإماراتي، الذي يريد بعث رسالة، بأنه قادر في أي لحظة أن يربك المعادلة، وأن يجهز على الاتفاقات المبرمة كما فعل غداة الإعلان عن اتفاق الصخيرات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: