البيروقراطية في الجزائر.. فساد متجذر في العقلية منذ عقود
بعد أكثر من عام ونصف العام على إسقاط المنظومة القديمة في الجزائر والتي كانت دوافع الإطاحة بها تتمحور بالأساس على مرض البيروقراطية، الذي ضرب كل مفاصل الأجهزة الإدارية للدولة لتنتقل العدوى إلى مجتمع المال والأعمال، غير أن النظام الجديد لم يفعل الكثير حتى الآن، ويفسر الباحثون والأكاديميون هذا الفشل المتأصل منذ استقلال البلد النفطي عن فرنسا، بالعقلية القديمة المتجذرة بـ”الفطرة” منذ الحقبة العثمانية، مما يجعل القضية برمتها مطروحة للنقاش لفهم تعقيداتها.
أطلقت الجزائر على مدار سنوات طويلة العديد من المشروعات “الطموحة” بمخصصات مالية كبيرة جدا على أمل تغيير وجه البلاد ومعيشة العباد نحو الأفضل، إلا أن الخيبات توالت وجاءت الصدمات أكبر من المتوقع، فبقت الأماني محفوظة ولا أحد يعرف متى سيتم القطع مع هذا الأسلوب.
وهناك قناعة لدى المراقبين من الداخل وحتى المتابعين للحالة الجزائرية “المعقدة”، كما يصفها البعض، بأنه لم تكن طبيعة النظام وحدها هي السبب في فشل هذه الجهود، بل اجتمعت العديد من العوامل الأخرى التي لم تساعد الدولة على النهوض والتخلص من “التخلف” الذي لازمها رغم أنه لم يكن قدرا محتوما.
ويشير الكثير من الجزائريين بداية من قادة البلاد الكبار إلى أبسط مواطن إلى الأجهزة الإدارية، فيحملونها المسؤولية عن هذا الوضع، وبأنه معروفا في البلاد أن ما يعرف بـ”البيروقراطية” هي الهاجس الأكبر للحاكم والمحكوم على السواء، رغم أنها لا تملك البندقية ولا الدبابة، لكنها هي من تتولى تنفيذ القرارات مما مكنها من قوة لا تضاهيها قوة أخرى.
وحتى حكومة الرئيس عبدالمجيد تبون تبدو عاجزة تماما عن فرض سياسات جديدة يكون فيها سلاح مكافحة الفساد هو أساس إصلاح الوضع رغم ما أعلنت عنه من مواقف لكسب التأييد الشعبي. ولكن لماذا تظل القوى السياسية غير قادرة على اقتلاع البيروقراطية أم لذلك جذور تاريخية جعلت من معالجة هذه المشكلة المزمنة أمرا عصيا على السلطات.
تاريخ أسود
لا أحد من الجزائريين ينكر أن البيروقراطية هي من دمرت الدولة الحديثة، فهم يعرفون أنها نظام قائم وجزء من منظومة الحكم لأن كل شيء يخضع لإدارة تكبل التطوير، فطيلة سنوات خلت اعتمدت هذه الدولة على أنظمة حاكمة لم تفكر بتاتا في تغيير العقليات القديمة، والسبب يكمن في استخدامها لسياسة “العصا والجزرة”.
ويرى محللون أن هذا البعبع الذي يخيف الجزائريين يعود إلى جذور تاريخية، بدأت خلال فترة الحكم العثماني، الذي أسس للأجيال الأولى من سلسلة البيروقراطية، التي تعتمد على مجموعة من الموظفين في سلم تراتبي طويل يحول دون مرونة الإدارة في الخدمات الحكومية.
ولكن هذا فقط جزء من المشكلة، فأصابع الاتهام موجهة أيضا للفرنسيين، الذين احتلوا الجزائر منذ عام 1930 إلى عام 1962، لكونهم هم من اخترعوا البيروقراطية الحديثة والتنظيم الإداري الذي تكثر به الأجهزة مثل البلدية وفروعها المتعددة ثم الدائرة والولاية.
وهذه العقلية الإدارية الاستعمارية تجعل مصادر القرار والخدمة الحكومية تعتمد على أوراق وموافقات من كل تلك الأجهزة، وهو ما يفتح المجال للنفوذ والتعقيدات والتشابك بين هذه الهياكل الإدارية والحكومية.
وكان يُتوقع أن يكون خلاص الجزائر من كل هذه التعقيدات الإدارية بعد استقلالها عن فرنسا في بداية ستينات القرن الماضي، ولكن سرعان ما غاصت رجليها أكثر في الوحل بعدما ورثت بيروقراطية النظام الاشتراكي المعروف بسيطرة موظفي الحكومة على سلسلة الخدمات الحكومية التي تشكل أرضية الفساد وممارسة النفوذ خارج القانون.
ويعتبر الإعلامي الجزائري محمد مسلم أن ظاهرة البيروقراطية من بين أخطر الأمراض، التي وقفت حجر عثرة أمام خروج الإدارة الجزائرية من مأزقها، والدولة من تخلفها. ولعل معاينة رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد، خلال اللقاء الأخير للحكومة بولاة البلاد، أكبر دليل على ذلك.
وقد نبه جراد إلى خطورة البيروقراطية، حيث وصفها بـ”الوباء”، الذي تمكن من تحجيم نسبة تطبيق القرارات إلى نسبة تتراوح ما ببن 10 و20 في المئة فقط. وهذا أكد مدى انحدار البيروقراطية إلى هذا المستوى السحيق من الرداءة، وأصبح يشكل خطرا حقيقيا على التنمية الوطنية، ومن ثم تكبيل دواليب الدولة ومؤسساتها عن القيام بمهامها.
ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيؤكدون أن الإصلاحات، التي فرضها الحراك الشعبي، الذي هز البلاد في يوم 22 فبراير 2019، على السلطة، لا تزال تراوح مكانها، وأن الفساد الإداري قد تغول على الدولة، التي باتت رهينة تراكمات عقود من الفساد الإداري، الذي فرخ العديد من الآفات التي حرمت الدولة من النهوض، والمواطن من الرخاء، في دولة تنام على ثروات أسالت لعاب الكثير من الطامعين ولا تزال.
وحتى تبون، الذي تولى السلطة قبل أشهر لم يخف سخطه على ذلك وقد ضاق ذرعا من هذه الممارسات واستشاط غضبا في وجه البيروقراطية علنا، مرة أولى في حديثه لوسائل إعلامية، ومرة ثانية خلال ترؤسه للقاء حول الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي.
ويفسر تساؤل رئيس الجمهورية عن السبب، الذي يجعل بعض الإدارات على المستوى المحلي لا تنفذ قرارات مجلس الوزراء رغم أنه هو صاحب السلطة، عجز الدولة عن مواجهة اللوبيات المزروعة في مفاصل الأجهزة الإدارية. وقال في خطابه أمام رجال الأعمال والمستثمرين “هذه الإدارات لا تزال تعمل بطرق ووسائل قديمة تجاوزها الزمن ولا تسمح بمعرفة ما يمتلكه الجزائريون من عقارات وشركات على المستوى الوطني”.
ومع دعوة تبون إلى رقمنة التعاملات الإدارية في كل القطاعات الاقتصادية والمالية لإزالة ما اسماه “الضبابية المفتعلة” في هذه القطاعات، وتكريس الشفافية قصد النهوض بالاقتصاد الجزائري، زادت التعقيدات إذ قليل من المراقبين يراهنون على نجاح هذا التمشي لأسباب كثيرة.
وإذا كان استياء تبون، وهو الرئيس والقاضي الأول في البلاد، من نوعية الخدمات التي تقدمها الإدارة قد بلغ ذروته ولم يعد خفيا على أحد، فكيف هو حال المواطن البسيط الذي لا حول ولا قوة له، أو رجل الأعمال، الذي يرغب في إطلاق مشاريع استثمارية فائدتها تطول المجتمع أو فئة منه.
سياسة عرجاء
المتابع لما يحصل في الجزائر يمكن أن يستشف حقيقة واحدة وهي أن السياسة في أكبر دول منطقة شمال أفريقيا من حيث المساحة وأكثرها موارد طبيعية تعتبر “عرجاء” بالنظر إلى سوء إدارة المسؤولين للأزمات، فهي لم تقم باعتماد ميثاق ملزم يجعل الجميع تحت قدم المساواة وبالتالي تقديمهم للمحاكمة.
ومع ذلك يأمل الكثير من الجزائريين في أن تقود الإرادة السياسية التي تترجمها مواقف تبون، ورئيس وزرائه، إلى وضع حد للفساد الإداري الذي حطم كل المبادرات وخلق حالة من التململ وسط المجتمع بسبب أفكار وتقاليد يفترض أنها زالت من قاموس الممارسات وسلوكيات الموظفين الحكوميين.
ويرى مراقبون سياسيون أن مسار الإصلاحات “الجديد” الذي تعرفه الجزائر لن يحالفه التوفيق، إذا لم يأخذ في المقام الأول تصحيح الخلل الكبير الموجود على مستوى المنظومة الإدارية، خاصة تلك التي تكون على علاقة مباشرة يومية بالمواطن.
واعتبروا أنه من غير المعقول والدولة تعيش في القرن الحادي والعشرين أن يقضي المواطن الجزائري وقتا طويلا أمام الدوائر الحكومية من أجل الحصول على وثائق هي في الحقيقة غير ضرورية وليست ملزمة، بل بإمكانه الحصول عليها في ظرف وجيز جدا لو تم اعتماد العمل بقوانين “الحكومة الإلكترونية” التي روج لها كثيرا من دون أن ترى النور.
ويجزم آخرون أن تحسين الخدمات الحكومية سوف يوفر على الدولة النفطية التي تعاني من أزمة مالية واقتصادية حادة بسبب انخفاض عائداتها النفطية، الكثير من الوقت والأموال التي يمكن استثمارها في مجالات أخرى قادرة على خلق الثروة وتساعد على تحقيق الطفرة التي تبقى أمل قطاع واسع من الجزائريين.
ويبدي محمد سعيود، المستشار الدولي في الاستثمار، تشاؤمه حيال نجاح العديد من التجارب في الجزائر خوفا من رداءة الخدمات الحكومية والعراقيل والقيود، التي تضعها الإدارة أمام أصحاب الاستثمارات، فيقول لوكالة الأنباء الألمانية إن شروط الاستثمار غير محفزة تماما ولا تساعد إطلاقا على جذب الأفكار ولا الاستثمارات الوطنية ولا الأجنبية.
ويرى أنه من غير المعقول أن تطلب الإدارة من رجل أعمال أن ينتظر ثلاث أو أربع سنوات وطيلة هذه المدة ترغمه على دفع مبالغ مالية غير قابلة للتعويض، دون تقديم ضمانات بقبول ملفه.
ولأن التجارب السابقة لا تزال محفوظة في الأذهان، يحذر المحلل في الاقتصاد السياسي عبدالرحمن عية من فشل تجربة الصيرفة الإسلامية، التي أطلقتها الحكومة من أجل تدعيم إمكانياتها المالية واستقطاب ثلث الكتلة النقدية المتواجدة خارج البنوك والتي تصل إلى 50 مليار دولار.