الحكومة الجزائرية مجرد نكتة أطلقتها الحماقة في ساعة سكر
صورة الجزائر في ذهن العربي، ترتبط بحرب التحرير الشعبية. إنها صورة بلد قدم مليونا ونصف مليون شهيد من أجل حريته.
هذه الصورة، حقيقية، ولكن فقط بالمعنى التاريخي للكلمة. أما الواقع، فهو أن هذا البلد انتهى إلى مجرد كيان شكلي، مزيف ومنخور حتى النخاع. حتى لتستطيع القول إنه تضاءل إلى صورة، ما من ناظر إليها إلا ويراها بمعنى مختلف. وفي الواقع، فإنك لن ترى صورته الحقيقية من دون أن تقرأ رواية سمير قسيمي الجديدة “الحماقة كما لم يروها أحد”، أو كما يمكن أن ترى دبلوماسيته التي يقودها صبري بوقادوم، لأنها تجسيدٌ آخر للحماقة ذاتها.
الرواية لم تصدر بعد. وكل ما أتيح منها هو أحاديث عنها قدمها قسيمي نفسه.
يقول قسيمي (وأنا أنقل عن مقابلة أجرتها زهية منصر لـ”بوابة الشرق”): هذه الرواية، هي محاولة للإجابة على سؤال كثيرا ما أرقني “من يصنع من؟ هل السلطة الشمولية تبتكر الشعوب المقهورة، أم أن هذه الشعوب من يخلق جلاديها؟”. أدركت وأنا أكتب “الحماقة كما لم يروها أحد”، أنني لا أخوض في البحث عن جواب بقدر ما كنت أبتكر بلدا يشبه هذا البلد، ومع ذلك لا يشبهه.
لقد كتبت الجزائر التي لا نراها على بطاقات الأعياد وشاشات التلفزيون والتي نقرأ عنها في الكتب، بل جزائر تسكنني أعيش فيها وتعيش فيّ على نحو بعيد كل البعد عن التقديس الذي أُجبرنا عليه، خوفا من مواجهة انعكاساتنا على مرايا الحقيقة.
إنها الحقيقة التي تجعلني أقول بكل ثقة إننا لم نخترع جلادينا، ولم يبتكرنا هؤلاء، لأننا مجرد نكتة أطلقتها الحماقة في ساعة سكر، وحينها، وحينها فقط، تسمينا غصبا على المنطق باسم “الشعب” وأطلقنا اسم السلطة والنظام على أكثر الأشكال المؤسساتية سخفا وفوضى.
وهكذا، تكون في بلد ابتكره الفاسدون الذين نهبوا الحرية، وتكون في بلد نخرته صورته التحررية حتى تحولت إلى خداع متواصل، كما تكون في بلد لا تعرف من أين تبدأ الكذبة فيه، وأين تنتهي.
ولكنك في بلد، يتصارع شعبه، من أجل أن يعيد اكتشاف نفسه. والتظاهرات التي لم ينقطع سيلها، حتى بعد انتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا، وبعد سلسلة لا تنتهي من محاولات التسوية بين صورتين، أو معنيين للصورة، إنما انتهت إلى فوضى، حاولت أن تعالج فوضى. وظل كلاهما يصارع وهماً، بينما ظلت مشاعر الملايين تكشف عن شيء مثل الجمرة التي تتقد في القلب، تقول إن هذا كله غير حقيقي، وإن المساعي من أجل التوصل إلى سلام أهلي قائم على نظام جديد ينقصها اكتشاف المعنى؛ معنى أن تكون نظاما وشعبا، لا مجرد كيان يرتدي أقنعة.
الرئيس عبدالمجيد تبون، ها هو يتولى الرئاسة لكي يثأر من “العصابة” التي طردته. هذا شأن أصغر من أن يشكل “رئاسة”.
الصراخ الذي تصرخه منظمات المجتمع المدني غير مسموع، ليس لأن السلطة لا تملك آذانا، بل لأن الصوت يأتيها مختلطا بالوهم والكذبة.
وهي على أي حال لا ترى الشعب شعبا، والشعب نفسه لا يعرف من هو، لكي يعرف من هو رئيسه أو ماذا يريد بالفعل.
المؤسسة التي أنتجتها حرب التحرير الشعبية، أضفت على نفسها مقدارا هائلا من القداسة، لكي تمارس من تحتها مقدارا هائلا من النجاسة.
بلد ضخم، يتوسط شمال أفريقيا، ويمتلك من الخبرات والثروات ما يكفي لكي يجعل من نفسه قوة إقليمية ودولية مؤثرة، انتهى الى قوةٍ مندثرة، قررت أن تدفن نفسها بالانغلاق على نفسها وعلى العالم، وأن تتحول الى سجن، اسمه “حرية”، ويحرسه الشهداء. أو بمعنى آخر، “وهم” يحرسه الاحياء الذين عند ربهم يُرزقون.
لم يفعل الجزائريون ذلك من باب الدجل. ولكنهم وجدوا أنفسهم فيه من باب الضياع، عندما تراكب القناع فوق القناع، وعندما أغلق سدنة المعبد أبوابه على المصلين، وقالوا لهم: هذا هو البلد. ونحن المؤسسة. وأنتم الشعب الذي عقد العزم أن تحيا الجزائر بهذه الصورة.
ماذا يريد عبدالمجيد تبون؟
لقد حقق ما يريد. القصة انتهت من هذه الناحية. أما ماذا يريد الشعب، فهذا موضوع آخر، ما يزال قابلا للنقاش وللمناورات، ومفتوحا على البدع.
عندما يتاح للناظر أن يعيد تفكيك الصورة، سوف يرى أن الانتفاضة التي أسقطت سلطة “العصابة”، هي نفسها، وليست هي نفسها الانتفاضة التي ظلت تتواصل حتى بعد انتخاب تبون. فقط سقط واحد من تراكيب الصورة، وبقيت جمرة البحث عن معنى هي التي تتقد.
هذا شعب يعرف من الذين يحكمونه. ولكنه يريد أن يعرف من هو، أصلا. لأن مؤسسة السلطة وفرت له كل شيء لكي لا يكتشف شيئا عن نفسه، طبيعته، هويته، اللغة التي يتعين أن يتحدث بها.
إحدى بدع الهوية، على سبيل المثال، كانت تلك المقولة الشهيرة التي تبناها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وعبدالعزيز بوتفليقة من بعده، وتقول “نحن أمازيغ عرّبنا الإسلام”. ولقد مضت الأمور على هذا “الحل” المُزيّف، حتى اكتشف الأمازيغ أنهم في الواقع أمازيغ، وأن الإسلام لم يُعرّبهم، مثلما أن الإسلام لم يُعرّب هنديا ولا باكستانيا ولا ماليزيا أو إندونيسيا واحدا.
ولكن القناع كان قد تلبس في منطق المؤسسة التي تبحث عن حلول – بدع، فتقتنع بها، حتى انتهت إلى أن أقنعت شعبا بأنه ليس شعبا وإنما مجموعة مناضلين، عليهم واجبات، وليس لهم حقوق.
وبدعة بعد أخرى، لم تجد الجزائر نفسها قادرة على أن تحل مشكلة واحدة، لا في الهوية، ولا في الثقافة، ولا في الصناعة، ولا في السياسة، ولا في الدستور. وفي لحظة صدق نادرة، وجد تبون نفسه يقول، كمن يخاطب نفسه “نحن في 2020 ولم نستطع تصنيع ثلاجة”.
ليس من قليل، أن تجد هناك من يطالب بحل حزب جبهة التحرير الوطني التي قادت السلطة وشكلت النظام على صورته القائمة. ربما، لأنها أكثر من جعل الكذبة تكبر وتتشعب حتى لم يعد بوسع أحد أن يتخلص منها. صارت الكذبةُ هواءً لا يتنفس الجزائريون غيره. إنهم ورثة أبطال حرب التحرير الشعبية. إلا أن أبطال الورثة هم الذين ينهبون البلد. مثل المرآة ذات الوجهين، التي كلما نظرت إلى وجه منها، أعطتك الآخر.
إنه بلدٌ للحماقة فحسب. انظر في دبلوماسيته، التي يقودها صبري بوقادوم، وستعرف كيف انتهت مبادرة الجزائر للسلام في ليبيا إلى أن أصبحت شيئا من العدم.
عندما انطلق بها، ذهب إلى أنقرة أولا، ولم يأت إلى مصر. فبان وجهها كمجرد حماقة لا صلة لها بالمكانة الطبيعية للجزائر، كما لا صلة لها بأي معنى من معاني “المبادرة”، على الأقل، لأنها لم تأخذ بالاعتبار القوة الإقليمية التي تقابل تركيا في الأزمة.
وعاد بوقادوم، بعد نحو شهرين، إلى أنقرة من جديد، ليبحث مع أردوغان، أحزر ماذا؟ التطورات في مالي. فضلا طبعا عن ليبيا وأزمة شرق المتوسط.
هذا قد يبدو وكأنه من عجائب الدنيا السبع.
هل أصبحت أنقرة هي ممر الجزائر إلى مالي؟ أم هل أصبحت الجزائر هي ممر تركيا إلى مالي؟
مصيبة في الحالتين. ولكنها تجسّدُ واقعَ أن السياسة والدبلوماسية والمؤسسة في الجزائر انحدرت إلى مستوى أدنى من الدرك الأسفل بالنسبة لبلد كان يُفترض أن يبني لنفسه مكانة أرقى من أن يُصبح زائرا متكررا لرجب طيب أردوغان، ليكتشف معه “الأواصر التاريخية” التي لم يكتشفها مع مصر.
هذه ليست الجزائر. إنها ليست الجزائر التي نعرفها. ولا هي الجزائر التي مات من أجل حريتها مليون ونصف مليون شهيد. ولا هي الجزائر التي حارب من أجلها العرب أجمعين.
وحيثما أصبحت أنقرة هي المبتغى، التي يتجه إليها الهوى، فقد أصبح من حق الحق، أن تعيد الجزائر، من بين رفات الشهداء الذين تسلمتهم مؤخرا، موسى الدرقاوي إلى مصر، صاحب الجمجمة رقم 5942، وسليمان الحلبي الذي قتل الجنرال الفرنسي كليبر، إلى سوريا، التي يحتل أردوغان جزءا من أراضيها.
هكذا فقط يمكن للجزائر التي لم تصنع ثلاجة واحدة بعد 58 سنة من الاستقلال، أن تستقيم مع خدعتها، هي التي صنعت دبلوماسية تبحث في أنقرة عن حلول لمشاكل مالي. وهي التي جعلت أردوغان قبلة للتجارة والاستثمار فيها، وليس أي بلد عربي آخر.
الجزائر التي تغازل أردوغان، وتدير ظهرها لمصر، وتعزل نفسها عن العرب الآخرين، وتضع شعبها في سجن، وتحوّل صورتها التاريخية إلى سبيل للتعالي، تحتاج صفعة على الوجه يوجهها الجزائريون إلى “المؤسسة”، وليس إلى “عصابة” واحدة فيها. والعصابات كثر.
إنها جزائر وهمية، وجدت نفسها خاوية من كل معنى. حتى أصبحت أنقرة دليلها، ومفتاح دبلوماسيتها.
لا تعرف ما إذا كان يمكن للحياء أن يعني شيئا في بلد مزيف. ولكن عندما تتساقط الأقنعة، وتجد نفسك في الفراغ التام، فلا بد أن دبلوماسيتك ستكون كمن يسبح في فضاء لا تشده جاذبية.
إنها جزائر أخرى، تروي من الحماقة ما لم يروه أحد.