غياب المعالجة الإدارية يطيل عمر أزمة السيولة في الجزائر
دخلت أزمة السيولة المالية في شهرها الثاني على التوالي ملقية بظلال قاتمة على المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر، في ظل جدل حول تحركات الحكومة لإدارة الأزمة، والتي انتهت أخيرا بعزل مسؤولين كبار في مؤسسة البريد، ما عمق الشكوك حول وجود شبهات فساد.
أطلق قرار الرئيس الجزائري عزل مسؤولين كبار في مؤسسة البريد جدلا واسعا حول الأسباب الخفية وراء أزمة نقص السيولة والتي باتت صداعا مزعجا للمسؤولين والمواطنين خصوصا مع عدم وجود تبريرات عملية لهذه الأزمة حيث تتضارب تبريرات السلطات لخطورة الوضع.
وقرر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عزل المسؤولين المركزيين في مؤسسة بريد الجزائر، على خلفية الأزمة المستمرة في السيولة المالية على مستوى المكاتب المنتشرة عبر ربوع البلاد، وتعويضهم بمسؤولين جدد للنهوض بالقطاع الذي كان على وشك التحول إلى بنك خلال السنوات الماضية.
واستعان الرئيس تبون بالخبير في شركة “إنتل” كريم بيبي تريكي، ليكون مديرا عاما لمجمع بريد الجزائر، كما تم الاستغناء عن مديري اتصالات الجزائر وشركة موبيليس للهاتف الخلوي، واستخلافهما بكل من حسين حلوان وعادل دكالي، وذلك في أعقاب الأزمة التي هزت القطاع.
وأكد شهود عيان استمرار أزمة السيولة النقدية، الأمر الذي خلق حالة من الاحتقان والتململ تهدد بانفجار اجتماعي، تسعى الحكومة إلى تطويقه بشتى الوسائل بما في ذلك إجراءات إدارية لم تحمل بوادر الاطمئنان على تصويب الوضع المتأزم.
وذكر هؤلاء أن “مكاتب البريد باتت تضطر إلى دفع الرواتب والمعاشات بواسطة القطع النقدية في بعض الأحيان، حيث اضطر أحد الزبائن إلى حمل راتبه المقدر بنحو 800 دولار، في 2000 قطعة من قيمة أقل من نصف دولار، في حين يُرغم زبائن آخرون على الاكتفاء بنصف الراتب بسبب نقص السيولة”.
ويعتبر هذا الشهر الثاني على التوالي الذي تشهد فيه الجزائر اضطرابا لافتا في وفرة السيولة، وباستثناء بعض الإجراءات الإدارية التي تم بموجبها عزل عدد من المسؤولين في القطاع، بدعوى التهاون وافتعال الأزمة، فإنه لم تتخذ أي إجراءات ملموسة بإمكانها استعادة الوضع العادي للقطاع.
ويعد بريد الجزائر من أكبر المصارف الذي يحوز على أكبر عدد من الحسابات الجارية، إذ قدرتها إحصائيات رسمية بنحو 24 مليون حساب، حيث توطن فيه غالبية حسابات المنتسبين للمؤسسات والقطاعات الحكومية، مما يعكس حجم الضغط الواقع تحته، خاصة وأن الأزمة وقعت بالتزامن مع مناسبات اجتماعية.
تضارب تبريرات الحكومة للأزمة يهز ثقة الزبائن في المنظومة المصرفية ويهدد باحتقان اجتماعي
وباستثناء التصريح الجريء الذي أدلى به المدير السابق دحماني عبدالكريم حول تأثير الأزمة الاقتصادية وتداعيات الجائحة الصحية في تقلص الكتلة النقدية، فإن الحكومة الجزائرية لا تزال تتجاهل التأثيرات المذكورة، من أجل تفادي اتهامات الفشل المبكر في التكفل بالانشغالات الكبرى للمجتمع.
وتحدث المدير المذكور للإذاعة الحكومية عن “ضمان التطبيق الصارم لتعليمات الحكومة من أجل تلبية احتياجات المواطنين”، وقدم حينها تعهدات بتسوية المشكلة في ظرف وجيز، إلا أن دخول الأزمة شهرها الثاني عجل برحيله من منصبه.
ولا تزال الحكومة متمسكة بمقاربة الافتعال وسوء التسيير في القطاع، المفضي إلى أزمة غير مسبوقة في مجال وفرة السيولة المالية، حيث شكلت لجان تحقيق للوقوف على الوضعية الحقيقية للقطاع، وتأكيد ما يتم تداوله في بعض الدوائر المالية لها، من وقوف أطراف محسوبة على النظام السياسي السابق وراء الأزمة بالعمل على حجب الكتلة النقدية عن التداول.
ولا يزال علاج الأزمة إداريا ويلفه الكثير من الغموض، حيث أكد المدير السابق قبل تنحيته أنه “تم إنشاء خلية تحت إشراف الوزارة، وبالتعاون بين بنك الجزائر والبريد، لتزويد مكاتب البريد بالسيولة الكافية على المستوى الوطني، كما تم إنشاء خلايا عبر مراكز البريد في ولايات الوطن”. وأشار إلى “انطلاق عمل تنسيقي بين بنك الجزائر والبريد الجزائري، لوضع حد لهذه الأزمة، وأن هذا الجهاز أتاح بالفعل تعبئة 285 مليار دينار من عمليات السحب من بنك الجزائر لشهر واحد، كما ساهم في التعبئة، على مستوى التحصيل والتحويلات على بقيمة 91 مليار دينار”.
وكانت أزمة السيولة محور أشغال أحد مجالس الوزراء المنعقدة برئاسة الرئيس عبدالمجيد تبون، إلا أن الآليات الإدارية التي كلفت بها الحكومة وتكفلت إدارة المؤسسة بتنفيذها لم تفض إلى أي نتائج ملموسة، وحتى التبريرات التي أوردها بيان مجلس الوزراء لم تقنع زبائن القطاع، كونها تجاهلت الأسباب الاقتصادية والمالية الحقيقية وربطتها بذرائع سياسية وتجاذبات داخلية.
وكان الخبير الاقتصادي والمالي إسماعيل لالماس قد علق على أزمة السيولة بـ”تقلص الموارد المالية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا، فضلا عن تنامي دور السوق الموازية في اكتناز أكثر من نصف الكتلة النقدية المتداولة، بسبب انعدام الثقة بين الزبائن والمنظومة المصرفية، إلى جانب أجواء الغموض السياسي في البلاد التي تثير قلق ومخاوف المودعين”.
ولم يستبعد متابعون للشأن الاقتصادي والسياسي في الجزائر أن يكون قرار عزل مدير بريد الجزائر بسبب تلميحه إلى العوامل الاقتصادية والصحية في ظهور الأزمة، لما صرح للإذاعة الحكومية بأن “انخفاض السحب على مستوى بنك الجزائر يعود إلى الوضع الاقتصادي في البلاد”، وقدره بنحو “5 في المئة في النصف الأول من عام 2020، ولكنه كان أكثر من 29 في المئة خلال شهر مايو الماضي”.
واستدل المتحدث على ذلك بكون تحليل الأرقام مقارنة بالنصف الأول من عام 2019، يحيلنا إلى معاينة انخفاض بنسبة 15 في المئة في إمدادات مكاتب البريد بالسيولة.