الشرعية المتآكلة في طرابلس تفضح عجز المجتمع الدولي

حكومة الوفاق وجدت نفسها فجأة في قلب العاصفة بعد أن توقفت المعارك وجرى التسويق لحل سياسي يرضيها يقوم على نزع السلاح من سرت والجفرة، ما جعل الوحدة المبنية على الحرب تنقلب إلى خلافات ناجمة عن مساعي استثمار السلام من كل مكونات الحكومة. السراج يريد أن يبدو قويا وماسكا بالحكومة، وفي المقابل يروّج باشاغا لنفسه كبديل مستقبلي مدعوم من تركيا، ليبدأ صراع من نوع آخر.

تتآكل الشرعية التي تتدثر بها حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فايز السراج، وتفقد الكثير من أوجه التماسك الظاهر يوما بعد يوم، دون أن يتحرّك المجتمع الدولي لتصويب المسارات التي دخلت فيها الأزمة الليبية، كأنه أسقط في يده وأصبح عاجزا بسبب المشاهد السافرة التي يراها بين الحلفاء، وتؤكد أن المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق فقدا ما تبقّى من نذر يسير من الشرعية التي تتشدق بها القوى الدولية.

رددت قوى سياسية وعسكرية في طرابلس الكثير من الشعارات التي توحي بالشرعية. وقال السراج “نعيش دون كهرباء ولا نعيش دون شرعية”، وتجاهل أن التظاهرات التي اندلعت الأيام الماضية ضده واتهام حكومته بالفساد ودعم الميليشيات تفقده الشرعية التي يبرر بها توجهاته، والتي زالت عنه أصلا منذ سنوات عندما أخفق في الحصول على موافقة البرلمان، وانتهى المفعول السياسي رسميا لاتفاق الصخيرات الذي أتى بموجبه السراج، على رأس السلطة.

جاءت الضربة القوية هذه المرة من الداخل، لتكشف عمق التناقضات بين الأخوة الأعداء في طرابلس، فكل طرف يحتمي بما معه من عصابات مسلحة ومرتزقة وإرهابيين تكاثروا على طرابلس، ولم يتم الالتفات إلى الأصوات المدوية التي أطلقها المواطنون في شوارع طرابلس وغيرها، بل حاول البعض القفز عليها، واستغلالها في جني ثمار سياسية، وتصفية حسابات أمنية، والانقلاب على الآخر.

تغافلت العديد من القوى الدولية عن التحذيرات التي أطلقت بشأن المخاطر الكارثية التي تسببت فيها حكومة الوفاق، وتمسكت بها بذريعة أنها الوحيدة التي تحمل شرعية الصخيرات، وجرى غض الطرف عن الخروقات التي تقوم بها تركيا، بدءا من توقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية مصيرية، وحتى إرسال معدات عسكرية متطورة وخرق حظر تصدير الأسلحة، وكلها عوامل أسهمت في تأجيج الاحتقان.

غيّرت أنقرة الكثير من المقاطع التقليدية في طرابلس، وحققت مكاسب بحجة أنها تقيم علاقات مع حكومة تحظى بالشرعية الدولية حتى تمكنت من السيطرة على مفاصل الأوضاع في غرب ليبيا، وأدت انحيازاتها المتقلبة في طرابلس إلى زيادة حدة التفسخ في حكومة السراج، للدرجة التي بدأت المكونات الرئيسية فيها تتصارع لأجل الاستحواذ على السلطة في العاصمة الليبية، وتتنافس في إظهار الولاء لتركيا.

دقت التظاهرات جرس إنذار آخر يضاف إلى إشارات كثيرة وجهت إلى المجتمع الدولي من قبل، وأشارت إلى أن الموزاييك السياسي والعسكري المحيط بالسراج سوف ينفجر حتما، وأكدت أن الطريقة الميليشياوية التي تدار بها الأمور في طرابلس يصعب الصمت عليها طويلا، فهي قابلة للانفجار، والمشكلة لا علاقة لها بقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، بل في الحكومة والهياكل الموازية لها.

يبدو السّلام أشدّ قسوة من الحرب بالنسبة إلى الكتائب المسلّحة، إذ كشف عورات الشرعية التي يروّجون لها ليلا ونهارا

أخرج انسحاب قوات الجيش الوطني من محيط طرابلس في مايو الماضي، الكثير من خلافات حكومة الوفاق إلى السطح، وهو ما أكدته مصادر ليبية ، ففي ظل تلكؤ العديد من القوى الدولية، وشكوكها في أن المشير حفتر يريد إحكام قبضته على العاصمة، رأى الرجل أهمية الانسحاب التكتيكي ووضع الكرة في ملعب الوفاق لتظهر للعالم كيف تتصرف، وكيف تدار أموال الشعب الليبي، ومن الذين تصبّ في جيوبهم.

إذا كانت المشكلة في وجود قوّات الجيش الليبي على أبواب طرابلس، فها هو قد تركها وعاد إلى الشرق، ولتقدم تركيا والسراج وفتحي باش آغا وزير الداخلية والمرتزقة رؤيتهم وكيف سيديرون الصراعات المزمنة التي تنخر في أجسادهم.

انتبهت حكومة الوفاق لخطورة إعادة التموضع التي قام بها المشير حفتر، وظلّت تحرّض على اقتحام سرت والجفرة، إلى أن وضع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الخط الأحمر، ولم يتم تجاوزه حتى الآن، وفشلت المناورات التي حاكتها تركيا لاختراقه، وعدم التفريط في وجود “عدوّ” يكفي للتغطية على الانقسامات بين الفرقاء.

يبدو السّلام أشدّ قسوة من الحرب بالنسبة إلى الكتائب المسلّحة، وكفيل بتفجير الخلافات بينها، وهو ما راهن عليه فريق المشير خليفة حفتر لفضح خصومه، وكشف عورات الشرعية التي يروّجون لها ليلا ونهارا، ونزع ورقة التين عن تمسكهم الظاهر بالحل السياسي، وجرى وضعهم في اختبار ذكاء أخفقوا فيه، كما كان متوقعا.

طرح حفتر، بالاتفاق مع رئيس البرلمان الليبي المستشار عقيلة صالح، من القاهرة مبادرة سياسية في الـ6 من يونيو الماضي، تتضمن وقفا فوريا لإطلاق النار، وتفتح الطريق أمام تسوية عادلة، لكن فريق السراج رفضها بذريعة التحفظ على الجهة التي صدرت منها، لكن في الحقيقة هو الخوف من ارتدادات السلام الذي جعلهم يتصلبون في مواقفهم.

وعندما عاد السراح وأعلن في الـ21 من أغسطس الحالي وقفا لإطلاق النار لم يتخذ ما يجب من خطوات تؤكد تطلعه للهدوء، لكنه أراد بعثرة أوراق منافسيه، واختبار مدى قوتهم، لذلك بدت الدعوة عديمة الجدوى.

السّلام أشدّ قسوة من الحرب بالنسبة إلى الكتائب المسلّحة

يستنزف الخلاف بين السراج وفتحي باش آغا جانبا من اهتمامات القوى المتحكمة في طرابلس، والتي اعتادت التعايش في أجواء التوتر، وتقلق من السلام أكثر من الحرب، ما يضع المجتمع الدولي أمام فصل جديد من الصراعات، حذّر منه كثيرون، فعدم وجود مؤسسات نظامية قادرة على ضبط الأوضاع يؤدي إلى نتائج سلبية، أقلها زيادة نفوذ الميليشيات وأكثرها تعرض الدولة لاقتتال يمكن أن يقود إلى تهديد وحدتها.

ترتاح الجهات التي تتصادم مصالحها في ليبيا لسخونة النزاعات الراهنة، فإذا لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها بالوسائل السياسية، يمكنها الوصول إليها من خلال الأدوات العسكرية، وهو ما يحاول فريقا كلّ من السراج وباش آغا القيام به حاليا.

تبدو الأمور في سبيلها للخروج عن السيطرة، وتتجه إلى قنوات غامضة، فحرب تكسير العظام التي بدأت معالمها تظهر في العلن قد تستمرّ وقتا، وكل طرف يريد أن يتحصّن بما لديه من مقومات قوة كي يتمكن من الفوز بجزء كبير من الكعكة.

ينسف استمرار الصراع في طرابلس الخطط والنوايا الحسنة للتسوية السياسية التي يوحي المجتمع الدولي أنه لا يزال متمسكا بها، ويفتح الباب للحديث عن حقيقة الشرعية المشوّهة التي ينطق بها السراج ومن يقفون خلفه، بما يفرض إعادة النظر في التصرفات التي قام بها الرجل حيال تركيا مؤخرا، والتدقيق في التصورات التي تبناها حاليا، حيث يمكن أن تكبل الدولة الليبية بالتزامات تفتقد للسند الشرعي.

تعجّل التجاذبات الحاصلة في طرابلس، بعد أن أخذت شكل اشتباكات مباشرة، من الدعوة إلى فرض تسوية سياسية من جانب المجتمع الدولي، دون انتظار للدخول في حوارات طرشان جديدة، تعيد إنتاج العجلة، فالمحددات الرئيسية للأزمة واضحة، وتفاصيل المعوقات معلنة، والقوى التي تعرقل الحل عناوينها معروفة للجميع.

يبدأ الحل بإعلان المجتمع الدولي رفع يده عن حكومة السراج، التي تآكلت شرعيتها تماما، وثبت أن توازناتها محكومة بقبضة الميليشيات، والحرص على ضخ الدماء في المبادرة التي أطلقها عقيلة صالح، ودعت إلى تشكيل مجلس رئاسي جديد يمثل أقاليم ليبيا الرئيسية، لأن ترك الساحة دون تدخلات رادعة من القوى الدولية معناه فتح الطريق أمام سيناريو تقسيم ليبيا المقيت.

باتت الفرصة مواتية ليعيد المجتمع الدولي تصحيح الأخطاء التي وقع فيها وأدت إلى وقوفه خلف الشرعية المزعومة للسراج، قبل أن تحتدم المعارك وتتحول من كتائب ضد كتائب إلى مناطق ضد مناطق، وتتصاعد التطورات في الغرب الليبي، بما يصعب معها إعادة ضبط الأوضاع أو فرملة الاندفاع نحو مزيد من الاقتتال، وتتكشف الكثير من خفايا عجز فاضح يخيّم على المجتمع الدولي في تعامله مع الأزمة الليبية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: