كورونا بين حقيقة الفيروس و ردود الفعل للمواطنين

منذ بضعة أشهر مضت، ما كان ليخطر ببال أحد مدى التغيير الذي سيحدثه تهديد صحي بسيط على بنية العالم الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية كافة. وحتى اليوم، يظهر فيروس الكورونا المستجد على منصات الإعلام والتواصل الاجتماعي وعلى جدول أعمال الحكومات حول العالم على أنه خطر مهول غير مسبوق، وأنه أجدر بأن يتقدم على غيره من الآفات الإنسانية كالفقر والمجاعة والبطالة وأوبئة دول العالم الثالث وغيرها. ولا شك أن اعتباراً مدروساً كهذا لم يعد مقيداً بالمعطيات العلمية والطبية. ولكن كان من اللازم العودة إلى أصل المشكلة كما تراها الدراسات العلمية الموضوعية، وإن لم يكن لهذا البحث فائدةٌ سوى أن يُذهب الخوف والفزع من نفوس العامة وغير ذوي الاختصاص لكفى.

يعرض هذا المقال أولاً للأرقام المتداولة عن ارتفاع نسبة الوفيات والإصابات، فيظهر التحيز الكامن في التركيز على تلك المتعلقة بفيروس الكورونا بمعزل عن سائر الفيروسات التنفسية التي ينتمي إليها. ثم يبحث أحقية أن يُدرج تحت اسم الأوبئة/الجائحات التي تنبني عليها الإجراءات والسياسات الجذرية مما رأيناه وخبرناه. ويأتي بعدها على التوجه القاصر في احتكاره الأنظمة الاستشفائية على حساب أمراض أخرى هي أشد خطورة وأجدر بالعناية الطبية وأفضل تماثلاً وتحسناً على أثرها. ثم ينتهي إلى الخطة الأمثل للخروج من الأزمة بناءً على خصائص الفيروس نفسه كما صارت بينة لدينا.

توقعت الحكومة البريطانية موت 65 ألفاً من إنفلونزا الخنازير في العام 2009، ولكن انتهى الأمر إلى أقل من 500 وفاة. في المقابل، يقتل الملاريا والسل الملايين من الناس سنوياً خصوصاً في البلدان النامية، وتسفر الإصابات المكتسبة من المستشفيات عن وفاة 99 ألفاً في الولايات المتحدة في كل عام. تدعو هذه الأرقام إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل الحوادث الأقل خطورةً كالكورونا في هذا العام أكثرَ مدعاةً للهلع عند الناس، إذ يرى غيرد غيغيرنزر (مدير مركز هاردينغ لمحو أمية المخاطر في برلين) أن الجواب يكمن في السرعة التي يتجلى فيها خطر ذلك الحادث. فيصعب مثلاً تخيل وقياس خطورة الإنفلونزا الموسمية (مقارنةً بفيروس الكورونا) وحوادث السير (مقارنةً بحوادث الطائرات) لكونهما يحصدان الأرواح على فترة أطول من مثيليهما. ومن تبعات سوء تقدير المخاطر اعتمادُ الهلع غير المبرّر دافعاً ومحركاً لسياسات الدول، كأن أسرفت الحكومة الأميركية ما يفوق المليار دولار للحصول على دواء تاميفلو الذي نصحت به منظمة الصحة العالمية وتم تسويقه على أنه يحمي من إنفلونزا الخنازير في العام 2009، وحتى الآن لم تتأكد فعالية هذا الدواء ضد الإنفلونزا (1).

وخلافاً لما يظنه الكثير من الناس، يبقى المجتمع العلمي في يومنا هذا عرضةً لتأثير التحيزات البشرية في مصداقية الدراسات العلمية. ولا يغيب هذا عن أهل الاختصاصات الأكاديمية والبحثية، فقد نشرت دورية نايتشر المرموقة استطلاعاً في يوليوز  2016 غير أن 52٪ من أصل 1576 باحثاً يعتقد بوجود أزمة فادحة على صعيد تكرار نتائج التجارب العلمية، وأن من أهم أسباب ذلك الفشل انتفاءُ تسجيل النتائج كاملةً خشية التقليل من أهميتها أو اعتبارها نتائج سلبية قلّ ما تضيف إلى نطاق بحثها شيئاً. ومن تلك الأسباب أيضاً الوقوع تحت ضغط الرغبة في النشر وهو ما تحتمه المؤسسات الأكاديمية، وكذلك تدني مستوى المهارات الإحصائية لدى الباحثين (2). كما يبدو أن هذه التحيزات قد وجدت سبيلها إلى الأبحاث العلمية التي تتعلق بفيروس كورونا المستجد وما ترتب عليه من سياسات اجتماعية قاسية. إذ يحذر د. جون إيونيديس، أستاذ الطب وعلم الأوبئة وعلم البيانات الطبية الحيوية والإحصاء في جامعة ستانفورد، من “تأثير النزعة العاطفية في أهم الأروقة العلمية. بالإضافة إلى أن التحكيم العلمي قد يتعطل في ظل أدلة قليلة وآراء قوية . . . وأن التقديرات المتداولة [لكورونا] مبالغ فيها في أكثر الأحيان، حتى وإن صدرت عن علماء ناجحين” (افتتاحية الدورية الأوروبية للتحقيقات السريرية، 12 آذار/مارس 2020) (3). لا يستهان بقول إيونيديس هذا فإن إحدى مقالاته، على سبيل المثال، بعنوان “لماذا أغلب نتائج البحوث المنشورة خاطئة؟” (2005) هي أكثر الأبحاث تحميلاً من المكتبة العامة للعلوم PLoS وتُعدّ من ركائز مجال ما وراء العلم Metascience الذي يُعنى بتنقيح نتائج الأبحاث العلمية لتحسين قيمتها.

الأرقام غير ثابتة ولا يعول عليها

فيما يكثر الحديث عن نسبة الإصابات والوفيات من فيروس كورونا، يرى إيونيديس أن هذه الأرقام لا تمثل ما تدعيه: فإن تقدير منظمة الصحة العالمية الأولي لمعدل الإماتة (3,4% من مجمل الحالات الموثقة) يهمل بوضوح نسبة الإصابات التي لم يتم فحصها، بالإضافة إلى الارتباط العُمريّ الوثيق لهذا المعدل. وقد انخفض هذا المعدل اليوم ليتراوح بين0,5  إلى 1٪. حتى في إطار وضع هذه الأرقام في سياقها الصحيح، تصيب فيروسات مختلفة من الكورونا الملايين من الناس كل عام، وهي شائعة بين كبار السن وحالات الاستشفاء من الأمراض التنفسية في فصل الشتاء. فقد تراوح معدل الإصابة السنوي جراء فيروسَي الكورونا CoV 229EوOC43 بين 2,8 و26 ٪ من الفئات التي تم البحث فيها بين 1999 و2003. بل تم رصد معدل إماتة يصل إلى 8٪ في دراسة لتفشي فيروس OC43 في إحدى دور رعاية المسنين (3).

إذاً لا يعدو فيروس الكورونا المستجد عن كونه طارئاً على الفيروسات التنفسية الأخرى. وقد خلصت دراسة أولية إلى أن الإصابة بهذا الفيروس لا تختلف إحصائياً عن الإصابة بفيروسات الكورونا الأربعة التي تتنقل حالياً بين البشر. وبالإضافة إلى الإصابات من أربعة عشر فيروساً متوطناً آخرين، فإن مجمل الوفيات جراء الالتهابات التنفسية يقدر بـ2,6 مليوناً في السنة حول العالم، ولا يبدو أن وفيات الكورونا المستجد ستمتاز عن هذه الأرقام (4). وعن هذا يقول إيونيديس “إذا استثنينا الفَيروسَين السارس والميرس المشهورَين والقاتلَين، فمن المرجح أن فيروسات كورونا أخرى تصيب الملايين من الناس وتقتل الآلاف. ولكن في هذه السنة فقط تظهر كل حالة إصابة وكل حالة وفاة على الأخبار” (3).

والغريب أن معدل الإماتة لفيروس الكورونا المستجد يحتمل تأويلات عدة، على حد قول د. جون لي وهو أستاذ متقاعد في علم الأمراض ومستشار سابق لخدمات الصحة الوطنية البريطانية. من هذه التأويلات أن أغلب الفحوصات في المملكة المتحدة أجريت في المستشفيات حيث النسبة العالية من المرضى المعرضين لأي نوع من الإصابة، وهو مؤشر على أن معدل الإماتة مبالغ فيه. أما التأويل الأكثر جدية فعدم اعتبار الإصابات التنفسية عادةً من أسباب الوفاة، حتى وإن كانت آخر العلل ظهوراً. ولكن فيما يتعلق بمرض الكورونا لهذا العام، فقد تم إدراجه من ضمن الأمراض التي يلزم التبليغ عنها بخلاف أغلب الإصابات الأخرى بما فيها الإنفلونزا. وبالتالي، “قد يظهر الكورونا على أنه أشد فتكاً من الإنفلونزا لمجرد الفرق في أسلوب تسجيل أسباب الوفاة” (5).

والأهم من ذلك “الفرق الكبير بين أن يسبب مرض الكورونا الموت، وبين أن يظهر عند من مات من أسباب أخرى.” فإن بحثاً نُشر في دورية الطب الداخلي للجمعية الطبية الأميركية وشارك فيه إيونيديس (7 نيسان/ابريل 2020) يشير إلى أسباب تسجيل الأرقام العالية للوفيات في إيطاليا. وأبرزها كون إيطاليا البلد الثاني عالمياً من حيث نسبة المسنين، وارتفاع نسبة المرضى المدخنين فيها ونسب مرضَي الانسداد الرئوي المزمن ونقص التروية القلبية، وكلها تزيد من احتمال الوفاة مع فيروس الكورونا. بل إن الأغلبية الساحقة ممن عُدّ في وفيات الكورونا (98,8%) كان مصاباً بمرض أساسي آخر على الأقل، وحوالي النصف (48,6%) كان مصاباً بثلاثة أمراض أو أكثر. وعلى صعيد النظام الاستشفائي في إيطاليا، فإن المستشفيات الإيطالية خلال فصل الشتاء تصل إلى 87٪ من قدرتها الاستيعابية جراء موسم الإنفلونزا. كما أن النسبة العالية لإصابات الطاقم الطبي (9٪ من مجمل الإصابات في لومباردي) ساهمت في إرهاق النظام الاستشفائي ونقل الفيروس بين المرضى بشكل أسرع (6).

هل تصح نسبة الوباء لفيروس الكورونا المستجد؟

من الممكن أن يقال إن الكورونا مرضان لا مرضٌ واحد، بحيث يصيب أحدهما الغالبية العظمى من الناس الأصحاء دون عمر ٦٥ سنة، ويصيب الآخر كبار السن والضعفاء مناعياً (7). المرض الأول خفيف العوارض لا يظنه المصاب به مختلفاً عن الرشح أو الإنفلونزا، وإن نسبةً قد تقارب 80٪ من مجمل الإصابات لا تظهر عليها العوارض أصلاً. هذه حقيقة لا ينبغي أن تُهمل، بل هي أساس عجز الدول عن احتواء الفيروس في المقام الأول، وهي التي تظهر وداعة هذا الفيروس إذا ما قيس بغيره من الأوبئة. فعلى سبيل المثال، إن 80٪ من وفيات إنفلونزا الخنازير H1N1 (الذي عُدَّ وباءً في العام 2009) وقعت فيمن عمره أقل من ٦٥ سنة، بينما تقع 70 إلى90 ٪ من وفيات الإنفلونزا الموسمية فيمن عمره أكثر من ذلك. بالمقابل، تقع 95٪ من وفيات فيروس الكورونا المستجد فيمن فاق عمره 60 سنة، وأكثر من نصف هذه النسبة كانت فيمن زاد عمره عن 80 سنة (بيانات منظمة الصحة العالمية). ولهذا يرى كارل هنيغان وتوم جفرسون من مركز الطب المبني على الأدلة CEBM في جامعة أوكسفورد أن “البيانات تؤيد نظرية أن يكون التفشي الحالي [أي للكورونا] حالة موسمية متأخرة في نصف الكرة الأرضية الشمالي والذي أتى عقب موسم خفيف من الأمراض الشبيهة بالإنفلونزا. كما أن الهيكل العمري لأكثر من أصيب به لا يطابق أدلة الأوبئة (الجائحات) السابقة” (8).

وليست هي المرة الأولى التي يثار فيها هذا الإشكال الاصطلاحي بين الأوبئة والتفشيات الموسمية. فقد انتقد المجلس الأوروبي منظمةَ الصحة العالمية بعد أن عدلت تعريفها للوباء، وكان ذلك قُبيل إعلانها حالة الوباء لإنفلونزا الخنازير عام 2009. إذ بات تعريفها يقتصر على “أن وباء الإنفلونزا هو حالة ظهور فيروس جديد للإنفلونزا لا تملك البشرية مناعة ضده” بعد أن أُسقط اعتبار أن “يؤدي هذا المرض إلى أعداد ضخمة من الموت والأمراض” (9). والجدير بالذكر أن المنظمة لجأت إلى تعليل كالذي لجأ إليه هنيغان وجفرسون أعلاه، وجعلت منه أحد تبريرات قرارها الأولي بشأن التمايز بين إنفلونزا الخنازير والإنفلونزا الموسمية، فذكرت أن “الإنفلونزا الموسمية المعهودة تؤدي إلى أكثر الوفيات عند كبار السن بينما تظهر الحالات الحرجة الأخرى في الغالب عند المصابين بأمراض متعددة. بالمقابل، وباء H1N1 هذا يسبب المرض الشديد أو المميت فيمن هم أقل سناً، سواء ممن لديهم أعراض مزمنة أم الأصحاء، ويسبب حالات التهاب رئوية فيروسية أكثر مما تثيره الإنفلونزا الموسمية” (24 شباط 2010) (10). يُذكر أن أسقطت المنظمة نسبة الوباء عن إنفلونزا الخنازير بعد عام من تفشيه وأدرجته في عداد الفيروسات المستوطنة والموسمية، مع العلم أنه قد أسفر عن 151ألفاً إلى 575 ألفاً من الوفيات حول العالم في سنته تلك.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: