فيروس الكورونا واستنزاف الأنظمة الاستشفائية
لا يقتصر خطر الفيروس على خصائصه الذاتية وتسببه بالمرض والوفيات، بل يضاف إليه كون الفيروس مستجداً لا مناعة للبشرية ضده وأنه سريع التفشي، ما يعني أن الكثير من الناس سيصابون به في وقت قليل وقد يؤدي ذلك إلى إرهاق الأنظمة الصحية ثم إلى زيادة الوفيات جراء القدرة المحدودة لاستقبال المرضى ومعالجتهم. ولكن لا بد من النظر إلى السياق الأكبر الذي يحل فيه هذا الخطر.
أولاً، إن مبدأ تسطيح المنحنى المتداول الذي يمنح بعض الوقت لتجهيز المستشفيات والتخفيف المؤقت لانتشار الفيروس لن يقلل البتة من وفيات الكورونا على المدى البعيد، بل قد تكون الموجات الثانية وما بعدها من تفشي الفيروس أشد خطورة على الحياة إذا تأجلت ذروة انتشاره من الصيف إلى الشتاء، وذلك لاحتمال أن يخف انتشار الكورونا قليلاً في الطقس الدافئ ولزيادة اشتغال المستشفيات بمعالجة الإنفلونزا الموسمية في الشتاء (11). كما توقعت دراسة حديثة يرأسها د. مايكل أوسترهولم، أستاذ علم الأوبئة في جامعة مينيسوتا، مسارات ثلاثة محتملة لتفشي الكورونا تتفق كلها على أننا لن نشهد نهاية انتشار هذا الفيروس قبل نهاية العام الجاري (12). ما يعني أن الاعتماد على هذا المبدأ وحده حلٌّ غير كافٍ ولا مستدام في التعرض للفيروس، خصوصاً بسبب انخفاض القدرة على تجهيز المستشفيات مع الوقت نتيجة لإغلاق المصانع وإيقاف استيراد المعدات والمستلزمات الطبية.
ثانياً، لا حصانة للطاقم الطبي والاستشفائي من الإصابة بفيروس الكورونا، وقد بلغت نسبة الإصابات جراء عدوى المستشفيات حوالي 44٪من مجمل الإصابات، شكّل الطاقم الطبي منهم نسبة 33٪ (وهي نسب أولية ولكنها تقارب نسب فيروسَي السارس والميرس) (13). ثم إنالاستنسابية في معالجة المرضى عند استنزاف المستشفيات كالتي شهدته المدن الإيطالية الشمالية ليست الأولى أو الوحيدة من نوعها فيالمعضلات الأخلاقية الطبية. فالأولوية معتبرةٌ أيضاً في قبول زرع الأعضاء للمحتاجين إليها. كما أن في الأنظمة الصحية الأقل امتيازاً فيجنوب أفريقيا مثلاً، يُعد موت المصابين من السل بعد حرمانهم من العناية المركزة أمراً عادياً (14).
ثالثاً، ينبغي اعتبار الأخطار الصحية غير المتعلقة بالكورونا نتيجة لاحتكاره الأنظمة الاستشفائية. إذ انخفضت نسبة المعالجة الاستشفائية للمصابين بنوبات قلبية حادة بحوالي 40٪ منذ ظهور فيروس الكورونا في الولايات المتحدة (15)، وقد أثر الوباء على علاج 87٪ من مرضىالسرطان حيث يعاني أغلبهم من تأخر العلاج (16). ما يعني أن العديد من هؤلاء خائفون من أن يصابوا بالفيروس إذا قصدوا المستشفيات. بل إن 20 إلى 47٪ من نسبة زيادة الوفيات هذه السنة لم تكن بسبب الكورونا في دراسة لأربع دول أوروبية وولاية نيويورك الأميركية (17). وبالعودة إلى الدول الأكثر تهميشاً في ظل هذه الأزمة، فقد توقعت دراسة من منظمة الصحة العالمية وفاة ما بين 400 إلى 800 ألف شخصاًفي أفريقيا من الملاريا نتيجة لوقف إيصال التدخلات المضادة لهذا المرض، والتي يُخشى أن تساعد في تفشي فيروس الكورونا (18).
رابعاً، يبقى أن نسلط الضوء على الفئة الأكثر عرضة للمرض وهم كبار السن، حيث يذكر د. جون لي أن هؤلاء يتأذون مباشرة من إجراءاتالإقفال: “ماذا عن الذين ماتوا في هذه الفترة من الكورونا أو من الأمراض الكثيرة الأخرى؟ هل من الصواب أن يعانوا وحدة الموت وأن لايودعوا أحباءهم ولا يودعوهم؟ ما تأثير ذلك على الأحياء؟ كم توفي من كبار السن لأنه لم يحصل على العناية اللازمة؟ وباسم مَن تستمرسياسات الإغلاق؟ هل يحتاج كبار السن الأصحاء وغيرهم من الضعفاء إلى الدولة لتستمر بهذا الإجراء المؤذي لأجل حمايتهم، أم أنهم أحقأن يقوموا بتقييماتهم الخاصة في وجه المجهول كما كان لهم ذلك دائماً؟” (19). ومن هذا القبيل أن ثلاثة أرباع الوفيات من الكورونا فيهولندا لم يتم وضعهم في العناية الفائقة (إلى حين 19 آذار) انطلاقاً من حفظ قيمة الحياة لكبار السن الذين قد لا يتعافون من هذا الإجراءإن خضعوا له (20).
الحل في تحقيق المناعة الجماعية والعلاج المجتمعي لكبار السن
إن السبيل الطبي الوحيد لانتهاء تفشي الكورونا هو عبر المناعة الجماعية، والتي تتحقق إما طبيعياً عند تعرض نسبة كبيرة من الناس للإصابة بالفيروس ثم التعافي منه كما هو الحال مع سائر الفيروسات التنفسية، وإما اكتساباً عبر إيجاد اللقاح المناسب وتصنيعه وتصديره إلى سائر أنحاء العالم. وقد لا يكون اللقاح حلاًّ واقعياً كما يظنه الكثيرون، إذ تذهب أكثر التوقعات تفاؤلاً إلى توفره خلال سنة إلى سنة ونصف. ومن الصعوبات المناعية ما قد يحول دون تصنيع اللقاح أصلاً، انطلاقاً من مبدأ التحسين المناعي الذي يستغل به الفيروس الأجسامالمضادة أو الخلايا المناعية ليزيد من حدة إصابته (21). وقد صرح د. دايفد نابارو، أستاذ الصحة العالمية في جامعة إمبيريال كولدج ومبعوثمنظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بمرض الكورونا، بأن “بعض الفيروسات تكون عصيّةً على تطوير لقاح لها. لذلك، علينا أن نتعامل مع هذاالفيروس [أي الكورونا] على أنه خطرٌ مستمرٌ في المستقبل المنظور” (22).
يُؤخذ على مؤيدي مبدأ المناعة الجماعية الطبيعية أنها لا بد من أن تزيد نسبة الإصابات بين الناس ومعها نسبة الوفيات لتحقق مرادها علىالمدى الطويل. ولكن الإجراءات الحالية، كما تقدم، لن تقلل من هذا الواقع بل ستؤجله وحسب. بالمقابل، إن الارتباط العمري لخطر الكوروناالاستشفائي والحياتي يسمح باعتماد هذا المبدأ للفئة الأقل خطراً (أي الأصحاء دون 65 سنة) مع إبقاء التقييدات الوقائية على الأكثرعرضة (أي كبار السن والضعفاء مناعياً). وقد أشار د. دايفد كاتز، مدير مركز البحث الوقائي في جامعة ييل، إلى هذا الإجراء باسم ‘الحظرالعامودي‘ كجزء من سياسته للحد من الضرر التام الناتج عن أزمة الكورونا – سواءً الضرر الصحي غير المباشر أو الاقتصادي أو المعيشي(23). ويصنف هذا المبدأ الناس تدريجياً بناءً على العمر والحالة الصحية: فيتراوح بين ذوي العبء المرضي الكبير ممن زاد عمرهم عن 70 سنة (وهؤلاء يخضعون لأقصى درجات الحماية والعزل من التعرض للفيروس) وبين الأصحاء ممن لا يعانون الأعراض المزمنة دون 50 سنة(وهؤلاء بإمكانهم العودة إلى أعمالهم بدون أي احترازات ضد الإصابة) (24).
كما أن محدودية العلاج الاستشفائي لمرضى الكورونا توجب التحول إلى العلاج المجتمعي، وقد أوصى بذلك ثلاثة عشر طبيباً من أحدمستشفيات برغامو الإيطالية التي شهدت إحدى أقوى ضربات الفيروس ضد الأنظمة الصحية. إذ “يحد العلاج المنزلي والعيادات المتنقلة منالتنقلات غير الضرورية ويخففان الضغط عن المستشفيات. كما يمكن إيصال العلاج المبكر بالأوكسجين وأجهزة قياس الأوكسجين بالنبضوالغذاء إلى منازل ذوي الإصابة الطفيفة والمتماثلين للشفاء، ما يهيئ نظام مراقبة شامل عبر العزل المناسب والاستفادة من الأدوات المبتكرةللتطبب عن بعد. تؤدي هذه المقاربة إلى حصر الاستشفاء بذوي الإصابة البالغة، مما يخفف من عدوى الفيروس ويحمي المرضى وطاقمالرعاية الصحية ويقلل من استهلاك المعدات الوقائية . . . هذا التفشي هو عبارة عن حادثة من العناية المركزة أكثر من كونه أزمة صحة عالميةإنسانية . . . وإن سياسات الإغلاق هي ذات أهمية بالغة: فقد قلل التباعد الاجتماعي تفشي الفيروس بنسبة 60٪ في الصين. إلا أن ذروةأخرى ستقع على الأرجح حين تزول التدابير لتجنب التأثير الاقتصادي الكبير. نحن بحاجة إذاً إلى نقطة مرجعية كي نفهم هذا التفشيونكافحه. نحن بحاجة إلى خطة طويلة الأمد للوباء القادم” (25).
الخلاصة
إن مزية هذا الفيروس، أي كونه سريع التفشي، التي استُغلت لجعله في عداد الأوبئة والجائحات هي نفسها التي ستسمح بانحساره عبراعتماد المناعة الجماعية. بل هذا هو الحال مع سائر الفيروسات التنفسية والمستوطنة التي تُهمل اليوم عمداً ليبرز خطر الكورونا بكونه“مستجداً لا نعرف القدر الكافي عنه لمواجهته“. كان من المفترض أن تكون ردود الفعل على هذا الفيروس بقدر مساوٍ لخطورته المباشرة أيالصحية، أو غير المباشرة أي الاستشفائية. وكان لا بد من مراعاة الأخطار المهولة على الصعيد الاقتصادي والمعيشي التي تترتب علىالإجراءات المضادة، والتي ستنعكس مآلاً على الصعيد الصحي سيما عند الأكثر عرضة لخطر الفيروس. ولكن لا يسعنا إلا أن نستنتج أنإغفال المعطيات العلمية والطبية لأزمة الكورونا واعتماد ردود فعل عبثية قصيرة الأمد يشيران إلى عدم تعلق هذه الأزمة بادعاءاتها الصحية،بل تتعداها لأبعد من ذلك.
يبقى أن يصير هذا الاستدلال واضحاً في أذهان العامة وغير ذوي الاختصاص، الذين حال خوف البعض منهم وجزعه من أن يعود إلىمعاشه وعمله وحياته الاجتماعية. بل إن ذلك مما يُعوّل عليه لتسود عقلية التباعد الاجتماعي وسياسات الإقفال في العالم أجمع. مع العلم بأنتاريخ الأوبئة يشهد على كون ردود الفعل الأولية مبالغاً فيها مبنيةً على دواعي الحذر والعاطفة لا الدلائل العلمية والخطط المدروسة. ولا ننسىالدور الرئيس لمنصات التواصل الاجتماعي في تضخيم تلك الردود ونشر الأفكار السائدة على نحوٍ لم تعرفه الأوبئة السابقة.