خيار الشعب” أكذوبة الإسلاميين الجزائريين
لا يزال الإسلاميون وحلفاؤهم من الانتهازيين يجترّون خطابا تضليليا يظهرون فيه أنفسهم كالحمل الوديع الذي هُضم حقه رغم مضي 29 سنة ونيف على مرور تلك الانتخابات التشريعية الغريبة في الجزائر التي لم يُجرَ دورها الثاني الذي كان مقررا يوم 16 يناير 1992، والتي لظروف سنشرحها، تصدرت جبهة الإنقاذ الإسلامية المركز الأول في دورها الأول، 26 ديسمبر 1991، ذلك التجمع الأصولي المسمى زورا حزبا سياسيا، المحظور منذ 4 مارس 1992.
فكأن كل شيء كان على ما يرام وتمت انتخابات حرة ونظيفة في جو سلمي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية ليوقفها الجيش ويحرمها من الصعود إلى الحكم بإلغائه للدور الثاني وتوقيف العملية الانتخابية برمتها!
منذ ثلاثة عقود وزعماء هذا الكيان الأصولي يرددون تلك الكذبة الكبرى تحت مسمّى “الانقلاب على إرادة الشعب”.
وقد جندت قطر الكثير من الأموال من أجل هذا الهدف وأنشأت قناة تلفزيونية تبث من لندن كانت تسمّى “المغاربية” واليوم “أوراس” لتبييض جرائم هذا الحزب. ولا يمل أنصار الجبهة ومناصروها من ترديد فكرة عبر هذه القناة مفادها “أن الشعب اختارها”. فمن هو هذا الشعب الذي اختارها، وفي أي ظروف، وما صحة تلك الادعاءات؟
أولا، لقد ولدت “جبهة الإنقاذ الإسلامية” سنة 1989 ولادة غير قانونية إذ نقرأ في المادة الـ42 من الدستور الجزائري المصادق عليه في نفس السنة أنه “لا يجوز تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي”.
منذ البداية كان الميلاد مخالفا للدستور الجديد الذي فتح المجال للتعددية في الجزائر. أليس الإسلاميون هم المردّدون دوما لمقولة أن “ما بني على باطل فهو باطل”.
وبغض النظر عن هذا الميلاد غير الشرعي الناتج عن تلاعب سياسي في هرم السلطة كان يرمي إلى إجهاض التوجه الديمقراطي في البلد الذي فرضته انتفاضة أكتوبر 1988، اتخذت تلك القوى غير الديمقراطية هذا الحزب مطيّة لتحقيق مشروعها فغذت طموحاته وتركته يفعل ما يريد ونفخته لينفجر ويفوّت على الجزائريين فرصة ذهبية للانتقال إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي.
لقد دبّر كل شيء بليل من أجل أن تفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا ساحقا في الدور الأول، ولكن بمعطيات نسبية جدا فرضها قانون انتخابي أكثري سخيف وتقسيم للدوائر الانتخابية غير مراع للكثافة السكانية. وهو ما أدى إلى ظاهرة غريبة هي الحصول على أغلبية في المقاعد عن طريق تفوّق طفيف في عدد الأصوات. من 13 مليون ناخب لم يصوّت لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ سوى 3 ملايين ونيف.
لو كانت طريقة الاقتراع نسبية لتحققت عدالة التمثيل في البرلمان، وفازت كل لائحة بعدد مقاعد يتناسب مع عدد الأصوات التي نالتها. وفي هذه الحالة تكون نتائج الجبهة الإسلامية بنسبة 3 على 13، وبالتالي لا يمكن أن تحصل على تلك الأغلبية غير المنطقية منذ الدور الأول (188 من مجموع 430 مقعدا).
ونقف على لا عقلانية هذا الاقتراع جيدا حينما نعرف أن حزب جبهة التحرير الوطني قد صوّت لصالحه أكثر من مليون وستين ألف ناخب وحصل على 15 مقعدا فقط، بينما حصلت جبهة القوى الاشتراكية على 25 مقعدا بينما لم يصوت لصالحها سوى 51 ألف ناخب!
وبغض النظر عن نمط الاقتراع غير المناسب لديمقراطية ناشئة كالجزائر، وعن كونها أول تجربة انتخابية تعددية، هل اختار الشعب كما يدعي الإسلاميون الحزب الإسلاموي حقيقة؟ كيف يمكن لهؤلاء أن يتشدقوا بخيار شعبي لصالحهم؟ هم الذين كانوا يرفعون شعار “الديمقراطية حرام” في المظاهرات ويهتفون “دولة إسلامية دون انتخابات”.
ويصرّح علي بلحاج، الرجل الثاني رسميا والأول فعليا في حزبهم، أن “شرع الله هو الذي يجب أن يطبق حتى وإن رفض الشعب برمته ذلك”. ولا يخفي مشروعه بل يخطب في ألوف الناس في تجمع شهير مسجل “نحن لسنا ديمقراطيين”.
وذلك يعني أنهم لو وصلوا إلى الحكم عن طريق الانتخاب وبدأوا في تطبيق الشريعة لن يتركوا الحكم لو اختار نفس الشعب حزبا علمانيا بعد 5 سنوات في مكانهم، بدعوى أنهم يطبقون شرع الله، إذ يقول إن جبهة الإنقاذ لا تغيّر حاكما يحكم بشرع الله عن طريق الانتخاب.
ولا أحد ينكر الشعبية التي كان يتمتع بها الحزب الأصولي في الجزائر فهو وإن أخذ الاعتماد رسميا في منتصف سنة 1989، إلا أنه كان حاضرا بشكل كبير في الميدان عبر الجمعيات الإسلامية والمساجد والمدارس القرآنية وعلى وجه الخصوص في التعليم بمختلف أطواره.
وكما نعرف لقد احتفظت السلطة منذ الاستقلال بالوزارات التي كانت تظن بأنها أساسية، وتركت القضاء والتعليم للإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، أصل الداء الأصولي في الجزائر.
كانت انتخابات متسرعة نظمت على عجل دون سبب معقول، في حين كان الجميع يعرف أن هذا الحزب وحده كان مستعدا لها، فحزب جبهة التحرير الوطني كان ممقوتا بسبب فشله واحتكاره للسلطة منذ الاستقلال، وحزب القوى الاشتراكية لم يكن مهيكلا في كل مناطق البلاد بل كان متواجدا في منطقة العاصمة والقبائل فقط، ونفس الشيء بالنسبة لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. أما الأحزاب الأخرى المجهرية فلم يكن لها أدنى تأثير أمام الدعاية الإسلاموية الكاسحة التي تشتغل في كل وقت في المساجد دون الالتفات لما ينص عليه قانون الحملة الانتخابية.
كانت كل البلديات في يد هذا الحزب الأصولي المتشدد إذ فاز بأغلبها عن طريق الغش والترهيب في أول انتخابات بلدية تعددية سنة 1990 ولم يتردد في استعمال كل وسائل البلدية في حملته الانتخابية لتشريعيات 1991. وأرعب الناس بذلك الشعار الدعائي الخبيث “أصواتكم أمانة تُسألون عنها يوم القيامة”. ونشر فتاوى تقول إن من لم يصوت له فهو كافر وبدأ أعضاؤه يحضّرون قوائم شاربي الخمر وغير المصلين وكل من لا يؤمن بدولتهم الدينية لينتقموا منه بعد وصولهم إلى الحكم.
في هذا الجو المشحون والفوضى العارمة امتنع 40 بالمئة من الناخبين عن الذهاب إلى مكاتب الاقتراع رفضا لهذا الكرنفال بعدما فهموا اللعبة الجهنّمية. حتى الذين صوتوا لصالح هذا الحزب المغامر فقد فعلوا لمعاقبة جبهة التحرير الوطني والنظام ككل، وليس حبا في الدولة الدينية التي كان يبشر بها والتي بدأ يطبق جوانب منها قبل الاستيلاء النهائي على الحكم.
استولى على المساجد بالقوة وأغلق دور سينما وأحرق روايات في مكتبات ومنع حفلات وحاول استبدال شعار “من الشعب وإلى الشعب” على واجهات البلديات الجزائرية إلى “بلدية إسلامية”.. إلخ.
وكل هذا ولم يعقد حزب جبهة الإنقاذ مؤتمرا تأسيسيا واحدا ولا نعرف له لوائح سياسية سوى ترديد عبارات كـ”القرآن دستورنا” وغيرها من العبارات الفضفاضة. فهل من الديمقراطية في شيء ترك الجزائر بين يدي حزب كهذا؟
أليس نفس هذا الشعب هو الذي واجه حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ ألم يحمل السلاح ضد مشروعه الآلاف من الجزائريين؟ أليس هم الذين أسقطوه وأوقفوا إرهابه؟ أليس هذا هو خيار الشعب الحقيقي؟