“قوى غير إعلامية” حولت قطاع الإعلام في الجزائر إلى مستنقع فساد
توسعت دائرة نشر غسيل الفساد في الجزائر، إلى بؤرة الإعلام المحلي الذي تلقى ضربة قاصمة، بالكشف عن ممارسات بددت أكثر من مليار دولار، استفاد منها ملاك صحف ورقية بتواطؤ مع مسؤولين كبار في الدولة، حيث وظف الإعلان الحكومي المحتكر من طرف مؤسسة عمومية في ثراء فاحش لهؤلاء، مقابل وضع اجتماعي ومهني متدهور للعاملين في القطاع.
فجر المدير العام الجديد للمؤسسة الوطنية للنشر والإشهار الحكومية، التي تحتكر عدة أنشطة على رأسها الإعلان الحكومي، فضيحة جديدة تتعلق بالفساد الذي تنغمس فيه عدة جهات على صلة بقطاع الإعلام، وفي مقدمتها الصحف المحلية، بعدما كشف الغطاء عن الملايين من الدولارات التي حصلت عليها العديد منها بتواطؤ مع مسؤولين كبار في الدولة.
ولأول مرة يتم كشف المستور في قطاع ظل خارج المساءلة رغم أحاديث الأروقة وأصابع الاتهام، غداة الكشف عن رؤوس ما بات يعرف بـ”القوى غير الإعلامية”، التي استأثرت بعائدات الإعلان التي فاقت في بعض السنوات سقف 250 مليون دولار، وتحولت بحماية من السلطة إلى فاعل حقيقي في المشهد الإعلامي، بينما تم تهميش المنتسبين الحقيقيين للقطاع.
وأماط مدير المؤسسة العربي ونوغي، في تصريح أدلى به لصحيفتي “الخبر” و”الوطن” المحليتين، اللثام عن استفادة أربعين صحيفة من عائدات إعلانية تقدر بملايين الدولارات، بينما تعود ملكيتها لقوى غير إعلامية، وظفت قربها من السلطة للاستحواذ على مقدرات القطاع.
العربي ونوغي: الملايين من الدولارات بددت في حملات الدعاية العامة، لتلميع صورة السلطة بكبرى العواصم العالمية
وأشار إلى شخصيات ووجوه معروفة لا تمت بصلة للإعلام استطاعت امتلاك مؤسسات صحافية بغية الاغتراف من عائدات الإعلانات الحكومية، وعلى رأسها نجل قائد أركان الجيش السابق الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، والنائب البرلماني عن حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم عبدالحميد سي عفيف، وحتى نجم الكرة والمنتخب في ثمانينات القرن الماضي رابح ماجر.
ويمتلك هؤلاء عدة عناوين صحافية محلية وجهوية، كـ”ايدغ نيوز” لنجل الراحل قايد صالح، و”منبر القراء” بنسختيها العربية والفرنسية، لعبدالحميد سي عفيف، و”البلاغ” و”البلاغ الرياضي” لرابح ماجر، حيث حصلوا على ملايين الدولارات على مر السنوات الأخيرة، رغم أنه لا يتعدى سحب الصحيفة الواحدة الثلاثة آلاف نسخة.
وعمقت التصريحات الصادمة، أزمة مصداقية الإعلام المحلي، الذي تقهقر في السنوات الأخيرة، تاركا مكانته لوسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت مصدر الجزائريين الأول في الاطلاع على الأحداث المحلية، وهو ما دحرج ترتيب الجزائر في التصنيف الأخير لحرية الصحافة إلى المرتبة 146 من مجموع 180 دولة.
واستغرب إعلاميون في الجزائر الأرقام المقدمة من طرف مدير الوكالة، وتحول القطاع إلى مستنقع حقيقي للفساد المالي، لاسيما ملكية شخصيات غريبة عن الإعلام لمؤسسات هدفها الوحيد الاستحواذ على عائدات الإعلان الحكومي، والمساهمة في تقديم تعددية شكلية لوسائل الإعلام في البلاد.
ووجهت أصابع الاتهام إلى نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، الذي استطاع رشوة الإعلام المحلي بأموال الإعلانات، وتدويرها بين الحلقات المحيطة به، حيث سادت لعشريتين كاملتين معادلة الإعلان مقابل الولاء للسلطة، وسمح لغرباء عن القطاع بامتلاك مؤسسات وهمية من أجل شرعنة تبديد المال العام.
وطرحت الحقائق المعلنة، مستقبل المشهد الإعلامي المحلي، ومصير العلاقة بينه وبين السلطة، فنفس العناوين التي كانت تروج لنظام بوتفليقة، هي التي تروج للسلطة الحالية بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون، وهي التي مارست التعتيم والتشويه للاحتجاجات السياسية المناهضة للسلطة طيلة الأشهر الماضية.
وتشكل وضعية الإعلامي الناقد سعد بوعقبة، المبعد من صحيفة “الخبر” الخاصة بسبب عموده اليومي “نقطة نظام”، عمق العلاقة، حيث تعرضت الصحيفة المذكورة لضغوطات فوقية وهددت بسحب حصتها من الإعلانات اليومية، في حال استمرار الرجل في نشر عموده على صفحاتها.
وتحدث العربي ونوغي، عن استهلاك صحف معينة لمبلغ يفوق المليار دولار خلال العشريتين الماضيتين، وعن استحواذ بعض العناوين المقربة من السلطة آنذاك على عشرات الملايين من الدولارات خلال السنوات الأخيرة، على غرار صحيفة “النهار” الخاصة المتوقفة التي حازت على 27 مليون دولار، و”الشروق” الخاصة أكثر من 11 مليون دولار، وتبقى الاستفهامات مطروحة بشأن الفترات السابقة التي لم يتم تناولها إلى حد الآن.
وتجري الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، تحقيقات بشأن الوقائع المشار إليها، لكن تُجهل الفترة التي تشملها في ظل الحديث عن السنوات الأخيرة فقط، كون الفساد في المؤسسة يعد من أكبر البؤر التي استنفدت أموالا طائلة من مقدرات الدولة، حيث يعيش العاملون في القطاع وضعا اجتماعيا ومهنيا مزريا.
وذكر العربي ونوغي بأن “ثلاثة تحقيقات مفتوحة في مؤسسته، الأولى من مصالح الدرك الوطني، والثانية من المفتشية العامة للمالية، والثالثة من طرف خبراء في المحاسبة والمالية”، وألمح إلى توسيعها إلى “المستفيدين وللمتواطئين معهم”، في إشارة إلى مسؤولين سـابقين وكـوادر في المؤسسة.
وركز في تصريحه على الوزير السابق للاتصال والمدير السابق أيضا للمؤسسة جمال كعوان، بسبب تنافي وظيفته الحكومية مع المنصب الذي استقدم منه، حيث كان يدير مجمع “الوقت الجديد” الإعلامي، المملوك لرجل الأعمال المسجون علي حداد.
ويبقى الفساد الذي يلف بالإعلان الحكومي في الصحف الورقية جزءا من مستنقع متعفن، فهناك ملفات أخرى بقيت مسكوتا عنها على غرار ديون المطابع التي كانت تفاضل بين العناوين في تحصيل مستحقات الطبع، أو تتلقى أوامر فوقية للطبع بالمجان للبعض الآخر، مما راكم ديونا تقدر بملايين الدولارات قد تعجز عن تحصيلها لأسباب مختلفة، فضلا عن شركات الإنتاج الفني والتلفزيوني المتعاقدة مع التلفزيون الحكومي، وتعود ملكيتها في الغالب لمسؤولين كبار في الدولة أو لأفراد عائلاتهم.
وأدى المستنقع، الذي امتزجت فيه المصالح الضيقة واللوبيات الفاعلة، مع التوجهات السياسية للسلطة التي اعتمدت على بناء إعلام مطيع بواسطة عائدات الإعلان، مقابل تهميش العناوين والصحافيين المعارضين أو الناقدين لها، إلى سقوط حوالي 320 مليون دولار من مستحقات الوكالة بالتقادم، حسب تصريح مديرها العربي ونوغي.
ولم يفوت ونوغي الفرصة، للتطرق إلى تبديد ملايين أخرى من الدولارات في حملات الدعاية العامة، التي كانت توظف في تلميع صورة السلطة بكبرى العواصم كواشنطن وباريس، حيث استفادت صحف أميركية وفرنسية وحتى عربية من أغلفة هامة للقيام بالغرض المذكور، على غرار “لوفيغارو”، “لوموند”، و”جون أفريك”، فضلا عن تمويل عناوين ومؤسسات أخرى كـ”أفريكا آزي”، و”أورونيوز”