إسلاميو تونس والمغرب والسيناريوهات المتشابهة
يمر الإسلاميون في كل من تونس والمغرب بلحظة أزمة متشابهة، فمع اختلاف السياقين، واختلاف النسقين السياسيين، إلا أن الذي يجمعهما هو أكثر مما يفرقهما.
في تونس، توالت ديناميات إزاحة الإسلاميين، ووصلت في محطتها الأخيرة إلى مناورة سحب الثقة من رئيس البرلمان، ثم دينامية تعيين الرئيس التونسي قيس السعيد لرئيس وزراء من خارج الأسماء التي اقترحتها الأحزاب، معروف بحساسيته الشديدة من الإسلاميين. أما في المغرب، فمساعي إزاحة الإسلاميين، تأخذ ديناميات أكثر ذكاء، اعتمدت في السابق تكتيك التقليص من الحساسية السياسية في الحكومة، والسماح بتغول التكنوقراط فيها، وهي الآن مع حالة الطوارئ، تستثمر مواجهة كورونا، وتضع البيض كله في يد وزارة الداخلية والولاة والعمال من جهة إدارة الأزمة، وتجعل الحكومة وبشكل خاص قيادتها في مواجهة الانتقادات العارمة الصادرة من الجمهور، بالنحو الذي يجعل الإسلاميين يعيشون معادلة «لا نحكم ولكننا نتحمل مسؤولية القرارات الصادرة».
النهضة في تونس، تواجه ديناميات إزاحتها بالتكتيكات المضادة، فلا تجد غير التحالفات سلاحا في مواجهة خصومها، لكنها من وجهة نظر استراتيجية، تعمق توجهها نحو اليمين، ونحو أحزاب السلطة أو أحزاب الأعيان، فمن حكومة الترويكا التي كان لها بعض المعنى بمقاييس لحظة سياسية مشحونة بتطلعات الثورة حيث تم التحالف مع القوى الديمقرطية، إلى حكومة تحالف مع «نداء تونس»، لتجد نفسها في المحصلة تحت رحمة حزب «قلب تونس» الذي خلصها من تكتيك الخصوم لسحب الثقة من رئيس البرلمان، والذي يرجى منه مرة أخرى أن يدعم بقاءها في الحكومة.
لا يختلف الأمر كثيرا في حالة المغرب، فقد بدأ التحالف مع القوى الديمقراطية غداة حراك 20 فبراير 2011(حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية)، ثم اضطر الإسلاميون بعد ذلك إلى مواجهة تكتيك الخصوم بمحاولة إخراج حزب الاستقلال من التحالف الحكومي، فوجد الإسلاميون أنفسهم مضطرين للتحالف مع حزب الأعيان القريب من السلطة «الأحرار»، لتتطور التجربة بعد ذلك بخروج التقدم والاشتراكية، ووجود الإسلاميين في تحالف أحزاب الأعيان، وحضور حزب الاتحاد الاشتراكي ذي الماضي الديمقراطي، بوظيفة دعم أحزاب الأعيان والإدارة.
وجد الإسلاميون أنفسهم مضطرين للتحالف مع حزب الأعيان القريب من السلطة «الأحرار»، لتتطور التجربة بعد ذلك بخروج التقدم والاشتراكية، ووجود الإسلاميين في تحالف أحزاب الأعيان
الفرق بين التجربتين على هذا المستوى ضئيل، فإسلاميو تونس يحافظون على مكانهم في الحكومة بالتوجه أكثر نحو اليمين، ولا يعدمون الحجة لتبرير سلوكهم السياسي هذا، سواء منها الحجة الموجهة للخارج، والتي تستند إلى مقولة التوافق الوطني وترسيخ التجربة الديمقراطية في تونس، أو الحجة الموجهة للداخل التنظيمي، والتي تستند إلى فوبيا الاستئصال وأن وجود النهضة خارج الحكومة يعني تقريب سيناريو ماضيها الأليم مع حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، في حين، لم تعد الحجة الخارجية مهمة لإسلاميي المغرب، لأن أحلام الديمقراطية تسر إليها كثير من الشك، ولم يعد الرأي العام المغربي واثقا من السياسة ووعودها بعد إعفاء الأستاذ عبد الإله بن كيران وجملة تعديلات في حكومة سعد الدين العثماني أفضت إلى واقع «حد أدنى من السياسية وتغول التكنوقراط»، في حين لا تزال الحجة الموجهة للداخل (تحصين التجربة وتأمين مكتسبات الحركة) مثار نقاش قوي في أوساط الإسلاميين، بعد أن برز صوت قوي داخلهم، يرى أن الشكل الذي انتهت إليه التجربة أفضى إلى تآكل شعبية الإسلاميين. عنصر التشابه في التجربتين، أن بعض قيادات العدالة والتنمية، لم تعد لها مشكلة مع حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الذي نشأ على عين السلطة وبرعايتها، وصارت تبرر إمكانية التحالف مع هذا الحزب بعد تغيير في قياديته، وصدور تعبيرات عنها ملتوية وغير واضحة بخصوص مطلب النقد الذاتي. ثمة إذن ثالوث مشترك يحكم تجربة الإسلاميين في تونس المغرب داخل الحكومة واحتمال بقائهم فيها، أوله الحرص على البقاء في الحكومة بأي ثمن، والثاني، هو الابتعاد عن الأحزاب الديمقراطية والميل نحو اليمين، والثالث، هو البقاء تحت رحمة أحزاب السلطة والإدارة، بدون قدرة على إدارة أي مناورة أو تكتيك سياسي من غير دعمها ومساعدتها.
ومع وجود مثل هذا التشابه في المسار والمسلكيات في التجربتين، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن مستقبلهما سيكون واحدا، ففي المغرب، ليس للإسلاميين تخوف من مخاطر سيناريو خروجهم من الحكومة، ففي الوقت الذي كان إسلاميو تونس يعيشون تجربة الاستئصال، كان إخوانهم في المغرب يعيشون تجربة الاندماج السياسي المتدرج، وكانت السلطة نفسها ترتب هذا الإدماج المراقب، وفي المغرب ليس هناك تخوف من فشل التجربة الديمقراطية، فالمغرب تحكمه مؤسسة ملكية تملك في كل مرة الخيارات لتعيد من جديد سيناريو خوض تجربة ديمقراطية جديدة، فقد فعلتها مع أحزاب الكتلة الديمقراطية، وفعلتها مع حزب العدالة والتنمية، وتملك مرة أخرى أن تفعلها عندما تنضج الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الضاغطة، بخلاف تونس، فثمة إجماع على هشاشة التجربة الديمقراطية، وأن ما يجعلها تصمد على هشاشتها، ليس رسوخها، بل قدرة الحلفاء على تشغيل آلية المحاصصة الحكومية، وقدرة بعضها (النهضة) على تقديم بعض التنازلات.
الفرق الثالث، أن الضغط الاجتماعي في تونس لا سقف له، ويمكن في أي لحظة أن يفجر النسق السياسي، في حين تملك المؤسسة الملكية في المغرب أكثر من خيار لتدبير الطلب الاجتماعي، بحكم الإجماع عليها من جهة، وبحكم صلاحياتها الدستورية ووظيفتها السياسية والدينية والتحكيمية.
هذه الفروق مهمة في تقدير أي سيناريو مستقبلي لتجربة الإسلاميين في البلدين، لكن في العموم، ثمة تقدير أنهما تسيران في مسار عام واحد، هو التقليص من حضورهما السياسي لجهة تقوية الحضور التكنوقراطي، وإبعادهما عن القوى الديمقرطية، وإغراقهما في تحالفات مع أحزاب الأعيان والإدارة، ورهن مستقبل بقائهما بها، بل جعل مبادرتهما وتحسين تجربتهما متوقفة على إسنادها ودعمها.
في تونس، لم يكن للشيخ راشد الغنوشي أي خيار للخروج من أزمة سابقة بالتحالف مع «نداء تونس»وامتلك بعض المبادرة، فناور لحظة وقوع الانشقاق في هذا الحزب، وتحالف مع نصفه، لكنه في الأخير وجد نفسه تحت رحمة «قلب تونس»، وفي المغرب أسس بن كيران تحالفه بالاعتماد على أحزاب ديمقراطية أو شعبية، واضطر لتحصين التجربة بإدخال حزب الأعيان لحكومته (الأحرار)، وإجادة فن إدارة الحكم والمعارضة للوبيات الضغطة عليه، وقدم ثمن صموده السياسي بالخروج من رئاسة الحكومة، لكن حزبه من بعده، أخرج كل القوى الديمقراطية، ووجد نفسه محاطا بخصومه، وتحت رحمتهم.