إسبانيا… ما بعد مغادرة الملك

لن يهدأ الجدل في إسبانيا حول مغادرة الملك السابق خوان كارلوس الأول للبلاد خلال فترة قريبة، بل هو مرشح لكي يستمر مدة أطول بكثير وسيلقي بظلاله على الحياة السياسية لزمن طويل؛ وبطبيعة الحال، لا بد أن ينعكس على صورة المؤسسة الملكية هنالك، وعلى العلاقة بينها وبين الأحزاب السياسية، وأخيرا ستكون لذلك الحديث غير المسبوق تأثيرات على الساحة الثقافية الإسبانية.

وقد بدأت أولى الانقسامات السياسية داخل الحكومة الائتلافية المشكلة منذ شهر يناير الماضي، بين الحزب الاشتراكي العمالي العريق بقيادة بيدرو سانشيز رئيس الحكومة، وحزب”بوديموس” الذي أنشئ في 2014 بقيادة بابلو إيغليسياس، نائبه. ففي الوقت الذي صرح فيه بيدرو سانشيز في ندوة صحافية بأنه يحترم قرار الملك السابق ومواقف العائلة الملكية، التي عبرت عنها في بيانها إلى الرأي العام الإسباني، مثنيا على شفافية الملك فيليبي السادس في التواصل مع المواطنين، وصف بابلو إيغليسياس مغادرة خوان كارلوس بـ”الهروب المُذل”؛ وقد رأى الكثيرون في تلك التصريحات المتناقضة بداية انشقاق التحالف الحكومي.

وفي حقيقة الأمر، تشكل تلك التصريحات المتضاربة تباينا في المواقف بين الحزبين حيال المؤسسة الملكية، وتعكس رؤية جيلين مختلفين من النخبة السياسية الإسبانية تجاه النظام الملكي القائم في البلاد منذ العام 1975، تاريخ نهاية الدكتاتورية العسكرية للجنرال فرانسيسكو فرانكو.

فالحزب الاشتراكي العمالي تعود نشأته إلى نهاية القرن التاسع عشر، وبدأ المشاركة السياسية منذ 1936، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية، وهو حزب القادة التاريخيين الذين رافقوا تأسيس الدولة الإسبانية الحديثة وبلورة قيمها السياسية والثقافية، ورافق مسيرة الانتقال الديمقراطي وكان أحد بناتها، لذلك فهو ينظر إلى النظام الملكي كحزب من هوية الدولة الإسبانية سياسيا وثقافيا.

في المقابل، لم يظهر حزب بوديموس إلا قبل ست سنوات، وهو يعكس تطلع الجيل الجديد من الشباب الإسباني الذي لا يأبه للماضي كثيرا، ولا يتوفر على قيادة حقيقية ولا رؤية ثقافية وطنية واضحة، بقدر ما هو تنظيم شعبوي ظهر في إطار موجة الشعبوية التي عمت أوروبا في الفترة ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية.

ويبدو أن ما حصل سوف يؤدي إلى صياغة رؤية جديدة عصرية للمؤسسة الملكية داخل إسبانيا، لكن من دون التخلي عن الملكية باعتبارها عربون الاستقرار ورمز الديمقراطية في البلاد.

فبالرغم من اتهامات الفساد التي تحيط بالملك السابق هناك شبه إجماع على دور الملكية ومركزيتها في النظام السياسي بإسبانيا، كما أن تلك الاتهامات لن تمس الملك الحالي الذي عرف كيف يدبر الأزمة حينما أقر في البيان الذي أصدرته العائلة المالكة بأن خوان كارلوس اختار قراره بنفسه احتراما للبلاد ولوضع مسافة بينه وبين الملكية، بما يعني أنه يتحمل مسؤولية تلك الاتهامات شخصيا ويبرئ المؤسسة منها.

وقد وُصف خوان كارلوس دائما بأنه الملك الذي وضع أسس الديمقراطية وقاوم الاستبداد العسكري وفكك البنية السلطوية للدكتاتورية الفرانكوية، بعد تعيينه عام 1975 إثر وفاة فرانكو، وأطلق عليه لقب “الملك الذي عرف اتجاه الرياح”.

وفي عام 1981 صار رمزا للديمقراطية وتم إبداع مصطلح “الخوانكارلوسية” بديلا لمصطلح “الفرانكوية” الذي ساد طويلا، وذلك بعد فشل المحاولة الانقلابية التي كانت تريد الرجوع بالبلاد إلى المرحلة السابقة، وصمود الملك داخل البرلمان في مواجهة إطلاق الرصاص وهو يلقي كلمته، الأمر الذي عزز صورته كنصير للديمقراطية.

بيد أن ما قام به خوان كارلوس كان أبعد من ذلك. فقد غير حتى صورة الملكية في أوروبا الحديثة نفسها، وأحدث انقلابا في المفهوم الكلاسيكي للملكية الذي تكرس بعد الثورة الفرنسية والقضاء على الأنظمة الملكية، بحيث أصبحت هذه الأخيرة مرتبطة بالاستبداد السياسي ومعاداة الديمقراطية والحكم الفردي.

لكن الدور الذي لعبه الملك السابق في نقل البلاد إلى الديمقراطية وإنقاذها من الدكتاتورية غير هذه الصورة النمطية، ذلك أن الملك في إسبانيا لم يكن مجرد مشهد خارجي كما في البلدان الأوروبية ذات التقاليد الملكية، بل كان فاعلا ومشاركا في البناء الديمقراطي، وتم النظر إليه دائما على أنه “مناضل” من داخل النظام ضد نظام قديم.

لقد رافقت الملك خوان كارلوس تلك الصورة المشرقة طيلة مساره كرئيس للدولة منذ توليه الحكم. لكن، سنتين فقط قبل تنازله عن الحكم لنجله فيليبي السادس عام 2014، وقع في موقف حرج صدم الرأي العام الإسباني وأطلق أولى شرارات الانتقاد العلني للملكية من داخل البرلمان، وذلك بعد تسرب خبر إصابته خلال رحلة للصيد خارج البلاد تبين أن الأموال التي أُنفقت فيها لم تكن نظيفة، فانطلقت الألسنة بالنقد، خصوصا وأن تلك الحادثة حصلت في مرحلة صعبة مر بها الاقتصاد الإسباني، ووسط سياسة التقشف التي نهجتها الحكومة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: