الوحدة تهدد الشباب أكثر من كبار السن
احثون يرون أن ضرر الشعور بالعزلة يعادل ضرر تدخين علبة من السجائر يوميا.
الأجهزة الإلكترونية ليست السبب الوحيد لانتشار الشعور بالوحدة
يعتبر الحديث عن التأثيرات الجسدية والنفسية للشعور بالوحدة أمرا مهما في ضوء وباء تظهر الشاحنات المبردة أمام المستشفيات حجم ضحاياه، في الوقت الذي يعتبر فيه العالم أن الأشخاص، خاصة الشباب، الذين يشعرون بالوحدة الآن هم أشخاص أنانيون وضعفاء، وأن الجيل الأعظم قاوم الكساد العظيم وخاض الحرب العالمية الثانية، أما شباب اليوم، فيطلب منهم فقط الانغماس في شبكة “نتفليكس”.
هناك الكثير من التعاطف مع كبار السن الذين يشعرون بالوحدة أثناء فترة جائحة كورونا، إلا أن الباحثة الصحافية سارة غرين كارميشيل أكدت أنه دون التقليل من معاناتهم، من المهم أن نسأل ألا يمكن أن يشمل هذا التعاطف الشباب الذين يشعرون بالوحدة؟. مشيرة إلى أن الجلد الناعم والرأس المليئة بالشعر لا يقللان من آلام العزلة.
وأضافت “على النقيض، قد يشعر الشباب أنهم أسوأ من كبار السن؛ فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أجريت قبل انتشار وباء كورونا أن المعدلات الأعلى للشعور بالوحدة كانت بين الشباب، بينما كانت المعدلات الأقل بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 72 عاما. كما سجل الشباب معدلات أعلى من القلق والاكتئاب”.
وترى كارميشيل أن هذه المقارنة السطحية تتجاهل حقيقة أن الاتصال هو أحد الاحتياجات الأساسية والأكثر أهمية للإنسانية. وأنه رغم أن المحادثات الهاتفية وتبادل الأحاديث عبر الفيديو يمكن أن يساعد على الحفاظ على وجود صلة بين الناس، فإنها ليست مثل الالتقاء وجها لوجه. كما أن الأشخاص لا يمكنهم دعم كل منهم الآخر بشكل كامل من خلال التكنولوجيا.
وقالت في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء إن الجراح العام الأميركي السابق فيفيك مورثي يحذر منذ عام 2017، على الأقل، من التأثيرات الصحية لما يصفه بـ”وباء الوحدة”، ولكن صيحته تزداد أهمية هذه الأيام مع مرور شهور من العزلة التي فرضها مرض كوفيد – 19 الناجم عن الإصابة بفايروس كورونا المستجد.
وأوضحت البيانات التي نشرتها مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة أنه في شهر يوليو الماضي ذكر 47 في المئة من الأشخاص أقل من 30 عاما أنهم يشعرون بالقلق، وأن هذه النسبة تنخفض بإطراد مع التقدم في العمر، فقد سجل 13 في المئة فقط من الأشخاص البالغين من العمر 80 عاما وأكثر أعراض قلق.
وكان باستطاعة الطلاب في الغالب الحصول على الرعاية الصحية العقلية من خلال كلياتهم، ولكن هذا الأمر أصبح صعبا في ظل غلق المؤسسات التعليمية. وكان احتمال تسريح من هم في العشرينات من العمر هذا الربيع أكثر من العاملين الأكبر سنا.
الشباب هم الأكثر حاجة للصداقات التي تحس أداءهم، وإلى التواصل الذي يوطد الصلات وهي أمور يحققونها من خلال العمل
فقد واحد من بين كل أربعة من العاملين دون 25 عاما أعمالهم، كما فقد 13 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاما أعمالهم. وبذلك أصبحوا محرومين من المزايا الصحية، وفقدوا أيضا الإحساس بأهميتهم في الحياة التي يوفرها العمل. فالشباب هم الأكثر حاجة للصداقات التي تحسّن أداءهم، وإلى التواصل الاجتماعي الذي يوطد الصلات وهي أمور يحققونها من خلال العمل.
وتقول كارميشيل إن كبار السن ربما يكونون أكثر قدرة على التوافق مع العزلة وأكثر مرونة في مواجهة الأزمات. فعقل الإنسان يتغير طوال الحياة، والأشخاص ذوو العقول الأكبر يسجلون مستويات أعلى من القناعة والرضا، وهم في وضع أفضل بالنسبة لرؤية الأمور في سياقها الصحيح، والقدرة على التركيز على الجوانب الإيجابية، و هم أقل تفاعلا مع الانتقادات وأكثر دقة عند قراءة مشاعر الآخرين.
ومن المعروف أن الأشخاص الذين يبلغون من العمر أكثر من 65 عاما هم أكثر قدرة على العيش بمفردهم، وهو ما يمثل خطر الشعور بالوحدة. ومن ناحية أخرى، فقد تمرسوا على العيش بمفردهم. وقال بعض المتقاعدين إن وباء كورونا لم يغير حياتهم كثيرا على الإطلاق. لذلك تدعو كارميشيل إلى المزيد من التفهم تجاه الشباب، وترى أن الشعور بالخجل يدفع الشباب إلى عدم طلب العلاج ويشجعهم على الكذب بالنسبة إذا كانوا قد تعرضوا لفايروس كورونا مما يزيد من صعوبة الاختبار والتتبع. وإذا كنا لا نريد أن يذهب من هم في العشرينات من العمر إلى الحانات، فإنه ينبغي إغلاقها، وليس إعادة فتحها، ثم نصرخ في وجه من يرتادونها.
وقال المختصون إن السياسة العامة للسيطرة على مرض كوفيد – 19 لا يمكن أن تعتمد على جعل الناس يشعرون بالعار أو بمضايقتهم من أجل الالتزام بالإجراءات المفروضة. وفي حقيقة الأمر، هناك بعض الشباب يلتزمون بالتباعد الاجتماعي، ولكن يتعين أن نفهم أن هذا ربما يكون أمرا صعبا بالنسبة لهم.
وأكد الخبراء أن انتقال الشباب للعيش في مناطق جديدة بعيد عن الأصدقاء يجعلهم يواجهون صعوبات في التواصل والتعرف على أصدقاء جدد والتأقلم مع التغييرات التي جدت على حياتهم، مما يجعلهم يفضلون العزلة والتباعد الاجتماعي ويفاقم شعورهم بالوحدة. وأشاروا إلى أن الوحدة ناتجة إما عن أمراض شخصية يصاب بها الشباب وإما عن اغتراب عن المجتمع الذي يعيش في كنفه وعدم التفاهم مع محيطه العائلي والاجتماعي. وأوضحوا أنه قد يكون من بين أسباب الشعور بالوحدة عدم وجود علاقات وثيقة.
وأفادت الدكتورة كارول إيستون، الرئيسة التنفيذية لصندوق المرأة الشابة في بريطانيا “لا يمكننا تجاهل وباء الوحدة بين الشباب، خاصة الشابات، إن الشعور بالوحدة يمكن أن يؤدي إلى آثار سيئة وسلبية على ثقة الفتيات وصحتهن العقلية”، مضيفة “يمكن أن يؤدي هذا إلى صعوبة البحث عن وظائف، هناك حاجة ضرورية لمساعدة الفتيات على إيجاد وظائف، والحد من الوحدة يمكن أن يفيد الأفراد والشركات وحتى الاقتصاد”.
وبينت دراسة موسعة جاءت تحت عنوان “الشعور بالوحدة حول العالم: العمر والجنس والاختلافات الثقافية في الوحدة” شملت حوالي 55 ألف شخص من أغلب دول العالم تتراوح أعمارهم بين 16 و 99 عاما في السنوات الأخيرة، أن الوحدة أثرت سلبا على الصحة العقلية واقتصاد الناس.
وترى الأستاذة مانويلا باريتو من جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، والمؤلف الرئيسي للدراسة أنه “على عكس ما قد يتوقعه الناس، فإن الوحدة ليست مأزقا فريدا لكبار السن. في الواقع، يبلّغ الشباب عن شعور أكبر بالوحدة. نظرًا لأن الشعور بالوحدة ينبع من الشعور بأن الروابط الاجتماعية ليست جيدة كما هو مرغوب فيه، فقد يرجع ذلك إلى التوقعات المختلفة التي يحملها الصغار والكبار. يبدو أن نمط العمر الذي اكتشفناه ينتشر في العديد من البلدان والثقافات”.
وتضمنت الدراسة أسئلة مختلفة حول الرفقة والعزلة وفهم تقدير الذات والمشاعر وأجاب المشاركون من مقياس من واحد إلى خمسة “تعطي الثقافات الفردية قيمة عالية للاعتماد على الذات وترتبط بشبكات اجتماعية فضفاضة، تهيمن عليها في المقام الأول العلاقات المختارة؛ تشجع الثقافات الجماعية على الاعتماد المتبادل وتتميز بنماذج شبكات اجتماعية أكثر صرامة، يسيطر عليها أفراد الأسرة وأعضاء المجموعة الآخرين. في حين أن كلا النوعين من الثقافة ينطويان على مخاطر على المجتمع، إلا أنهما يميلان إلى الارتباط بالاحتياجات الاجتماعية العالية في المجتمعات الجماعية وانخفاض الاتصال الاجتماعي في المجتمعات الفردية، وكلاهما يؤثر على المطابقة بين العلاقات المثالية والواقعية”.
كما أثبتت أن العمر والجنس والثقافة كلها عناصر تفاعلت للتنبؤ بالوحدة، على الرغم من أن هذه التفاعلات لم تؤهل الآثار الرئيسية، وأبرزتها ببساطة. ووجدت أن الأكثر عرضة للوحدة هم الرجال الأصغر سنا الذين يعيشون في الثقافات الفردية.
وتوصلت دراسة سابقة أنجزتها هيئة الاذاعة البريطانية “بي.بي.سي” إلى أن الفئة العمرية الأكثر شعورا بالوحدة والانعزال هي فئة الشباب من سن 16 إلى 24 عاما، حيث ذكر 40 في المئة منهم أنهم في أغلب الأحيان يشعرون بالوحدة.
وأكد الخبراء أن الحياة العصرية والأجهزة الإلكترونية ليست السبب الوحيد لانتشار الشعور بالوحدة بين الشباب، وإنما ثمة عوامل أخرى ترتبط ببلوغ مرحلة الشباب نفسها.
وأوضحوا أن المرحلة العمرية من سن 16 إلى 24 تعتبر فترة انتقالية، فيها تحديات جديدة مثل بدء الدراسة الجامعية، أو الالتحاق بوظيفة جديدة، وهذا يعني الابتعاد عن الأصدقاء القدامى الذين تربوا معهم منذ الصغر. وفي الوقت نفسه، فإن الشباب في هذه المرحلة يحاولون استكشاف ذواتهم وإمكاناتهم والبحث عن موطئ قدم في العالم الجديد.