الجيش الجزائري لا يقبل التنازل عن نفوذه للقوى المدنية

دفعت ضغوط جائحة كورونا في الجزائر إلى اكتشاف أدوار جديدة باتت تلعبها المؤسسة العسكرية العائدة بقوة إلى مراكز القرار، بحيث أصبحت تستأثر بالنصيب الأكبر في عملية حبك العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية. وعلاوة على كل هذا، فقد أكدت تطورات الحراك الشعبي أيضا، أن الجيش ليس مستعدا للتفريط في نفوذه لأي من القوى المدنية خاصة منذ صعود عبدالمجيد تبون إلى سدة الحكم خلفا للرئيس المعزول عبدالعزيز بوتفيلقة الذي كان يعتمد سياسة مغايرة بوّأته لأن يكون القائد الأول للبلاد.

اختصر شعار “تبّون مزوّر جابوه العسكر”، الذي تردد بقوة في الأسابيع الأخيرة من عمر الحراك الشعبي الجزائري، قبل أن يضطر لتعليق مسيراته الشعبية تحت ضغط جائحة كورونا، مآلات التوازنات داخل سرايا النظام الجزائري، وترجم العودة القوية للجيش إلى مركز القرار ليكون بذلك العنوان الأكبر للمرحلة الحالية.

وتعد المؤسسة العسكرية في الجزائر المستفيد الأول من الحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير 2019، بعدما وظف مطالب الشارع في التغيير السياسي الشامل بالبلاد، في الضغط على الرجل الذي يشهد له أنه الرئيس الجزائري الوحيد الذي فكك سطوة ونفوذ الجيش داخل السلطة.

استعادة التوازن

بتنحي الرئيس بوتفليقة عن السلطة في مطلع أبريل 2019، استعاد الجيش توازنه وقوته داخل المشهد العام للبلاد، بعد سنوات من الانكفاء والتواري عن الأنظار، بسبب ظلال بوتفليقة التي سلطت على جميع المساحات الهامة في مفاصل الدولة، لاسيما وأن الرجل تمكن من تشتيت إجماع الجنرالات النافذين وفكك جهاز المخابرات، وأبقى الجنرال قايد صالح تحت عباءته لسنوات قبل أن يقلب عليه الطاولة ويرغمه على التنحي بدعوى الاستجابة لمطالب المحتجين في الشارع.

ويرى الباحث المساعد في مركز برشلونة للشؤون الدولية فرانسيس غيلس، أن “جائحة كورونا والحجر الصحي المطبق في البلاد منذ خمسة أشهر، سمحا للجيش الجزائري ببسط نفوذه على مفاصل الدولة، بشكل لافت لم يتحقق منذ حقبة الحرب الأهلية (1990 – 2000)”.

فرانسيس غيلس: كورونا سمح للجيش الجزائري ببسط نفوذه على مفاصل الدولة

لكن انتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا للجزائر في ديسمبر الماضي، سمح للمؤسسة بالانكفاء إلى الخلف بعدما استقدمت واجهة مدنية تديرها من خلف الستار، ومكنها من استعادة المبادرة من الخط السياسي الذي رسمه القائد السابق للجيش الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، لاسيما في ما يتعلق بالتوازنات داخل المؤسسة نفسها وصناعة حد أدنى من الانسجام داخل النظام بين الجيش والرئاسة.

وساهمت شخصية القائد الجديد للجيش الجنرال سعيد شنقريحة، التي تفضل العمل الميداني على التنظير السياسي وخطاب المحافظة السياسية للجيش، في رفع العبء الذي ألحقه قايد صالح بالمؤسسة، بعد شهور من تسيير شؤون البلاد خلال فترة الفراغ المؤسساتي في البلاد، حيث وجه الرجل عشرات الخطب من داخل الثكنات تصب كلها في الأزمة السياسية، وفرض منطقه على المؤسسات الانتقالية (الرئيس المؤقت والحكومة الانتقالية).

وسخر قايد صالح شخصيته الرمزية (مناضل وعسكري في جيش التحرير الجزائري) لتمرير أجندته السياسية وخط معالم مآلات المشهد الجزائري المأزوم، ولم يتوان في معاداة الحراك الشعبي الذي مكنه من التحرر من ظل بوتفليقة (1999 – 2019 )، وذهب الجنرالات المقربون منه إلى نسج كل المناورات المتاحة رغم تهديدها للاستقرار والوحدة والتماسك الاجتماعيين، في سبيل تفكيك الحراك الشعبي، قبل أن يرحل نهاية العام الماضي، ويدخل وباء كورونا على خط الأزمة الجزائرية.

وإذ استعاد الجيش الجزائري مكانته في مفاصل الدولة، حيث حسم هوية الرئيس الجزائري الذي أفرزته انتخابات ديسمبر الماضي، فإن التجاذبات الداخلية وهشاشة الواجهة المدنية تبقى أكبر عائق أمامه لتثبيت دعائمه، لاسيما وأن القبضة العسكرية والأمنية لا يمكن لوحدها أن ترسي قواعد نظام سياسي بدون صداع المعارضين في الداخل والخارج وانتقادات الشركاء الأجانب للبلاد.

ومنذ فضيحة شحنة الكوكايين الضخمة في مايو 2018، التي أطاح بها الجيش ووظفها الجنرال قايد صالح مطية لمسلسل التغييرات المفتوحة، دخل الجيش الجزائري في وطأة هزت سمعته وصورته لدى الشارع الجزائري، حيث ساهمت الحركة المنتهية في حالة إرباك داخلي، لاسيما وأن عشرات الجنرالات والعقداء باتوا تحت طائلة التنحية والسجن والفرار إلى خارج البلاد.

ولم يسبق للمؤسسة العسكرية أن عاشت على صفيح ساخن كما عاشته خلال السنوات الأخيرة، وحتى تنصيب الواجهة المدنية (الرئيس تبون)، وقدوم قائد جديد للجيش، لم ينه التجاذبات المذكورة، حيث لم يثبت في منصبه إلا بعد ستة أشهر من خلافته لقايد صالح، وأقوى الجنرالات إلى غاية شهر مايو الماضي مدير الاستعلامات الداخلية الجنرال واسيني بوعزة أحيل إلى السجن وحكم عليه بثماني سنوات نافذة في انتظار تحقيقات حول ملفات أخرى.

ويعتبر عدم تعيين نائب لوزير الدفاع الوطني لحد الآن، واستحداث رتبة عسكرية جديدة مطلع الشهر الماضي (فريق أول)، لإسدائها للفريق بن علي بن علي، المتحفظ على مسار المؤسسة العسكرية منذ تولي سعيد شنقريحة، مأمورية قيادة الأركان، أحد تجليات الارتباك القائم في المؤسسة.

ولم يبق أمام تبون، للتخفيف من حدة التجاذبات المذكورة، إلا الاستعانة برموز جهاز الاستخبارات المنحل، حيث عين الجنرال المتقاعد عبدالعزيز مجاهد كمستشار للأمن في رئاسة الجمهورية، والعقيد المتقاعد أيضا شفيق مصباح على رأس الوكالة الوطنية للتعاون الدولي والاستراتيجي المستحدثة مؤخرا فقط، لكن بؤر التوتر ما فتئت تشتعل من موقع لآخر بشكل يوحي إلى أن تعدد المصادر الموحية للواجهة المدنية شوش عليها خارطة الطريق، ولا يستبعد أن يكون جناحا برمته داخل الجيش لا يروقه تبون على رأس الجزائر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: