إريك دوبون موريتي “حاصد البراءات” وعدو الشعبويين وزيرا للعدل في فرنسا

يقال إن تاريخ استعمال بذلة المحاماة السوداء بدأ من فرنسا في العام 1791، وبعد أكثر من قرنين ها هو المحامي إريك دوبون موريتي يرتديها كوزير للعدل ضمن حكومة جان كاستكس، باعتباره شخصية قوية ومحاميا عُرفَ بالتعقل في الحالات التي تطغى فيها العاطفة.

وبعد بلوغ الفرنسي موريتي 59 سنة من عمره، لا يزال يملك مزيجا جيدا من الجرأة والخبرة والمروءة والبحث الحثيث عن الحب والفرجة، صفات أهّلته للتعامل مع جميع مهن العدالة، وساهمت في اختياره كـ”حارس لأختام للجمهورية الفرنسية”، اللقب الذي يطلق عادةً على وزير العدل.

هو المحامي الوحيد الذي يعرفه كلّ الفرنسيين، ويميزون قسمات وجهه المدور ونظراته الحادة بلحيته المشذبة التي يتخللها شيب أبيض، يتابعون مآثره داخل ردهات المحاكم. يتفاعلون إيجابا مع صراخه ويتطلعون الى الاستفادة من حنكته إذا دفعتهم الظروف إلى المشي هرولة نحو المحاكم، أما ظهوره في برنامج تلفزيوني أو إذاعي فيجعل المتابعة ترتفع عالياً، وتوقيعه على غلاف الكتاب  يكون ضمانة للناشر الأكثر مبيعاً.

الوزير موريتي يصرّ على أن مشروعه الأساسي في وزارة العدل هو تقوية استقلال السلطة القضائية وافتراض البراءة، ويتصور أنه لتعزيز سلطة وزارة العدل تحتاج وزير عدل قوي يجسد الالتزام بمتطلبات سيادة القانون

مهمته الجديدة حسّاسة وتتطلب منه استحضار كل ثباته وتوازنه الوجداني لكبح مزاجه في التعامل مع الجسم القضائي الفرنسي. وسيكون موريتي ممتنا لجدته من والده التي كان لها الأثر الكبير في اختياراته اللغوية والمعرفية إذ جعلته يتمتع بموهبة اختيار الكلمات وتطويرها وتوجيه اللكمات داخل المحاكم حسب الموقف والواقعة، ولا شك أنه سيكون مقنعا في الدفاع عن الأولويات التي جاء للحكومة من أجل الدفاع عنها وتنزيلها على أرض الواقع تمثلت في محاربة العنف المنزلي، والحزم في مواجهة الإرهاب، وإصلاح النيابة وقضاء الأحداث.

موريتي اختير وزيرا في السادس من يوليو الجاري من بوابة المحاماة حاملا أفكارا مبتكرة حول مستقبل القضاء والمحاماة معا، على الرغم من أنه لم ير العمل السياسي مجالا مغريا، مصنفا إياه مثل العمل من داخل المؤسسة الماسونية، ما يعيق حريته كشخص أولا، وهو ما لا يقبله على الإطلاق، وُصِفَ بالمبرّئ والوحش ودائما ما ردد بأن المحاماة هي مهنة احتجاج.

مساره المهني في مجال المحاماة لن ينتهي بتوزيره، وقد أحبّ هذه المهنة وسيستمر في حبها مع معرفة طويلة بمحاكم فرنسا، ولو أسعفه الزمن لكان دافع عن مجرميْ الحرب “هتلر وكلاوس باربي” على حد قوله، فهو لا يتردد في الدفاع عن جميع الشخصيات الذين يعانون من صعوبات مع العدالة سواء كانوا أبرياء أو مذنبين، وقد استطاع موريتي أن يصنع لنفسه اسما لامعا في أروقة القضاء الفرنسي، لاسيما بعد انتزاعه لأكثر من 144 حكما بالبراءة من محكمة الجنايات، في قضايا جدلية، حتى أُطلِقَ عليه لقب “حاصد البراءات“. لقب كبير استطاع أن يحصل عليه بعد معاناة ميزت رحلته الحياتية غير السهلة، فقد عرف كل المعاني القاسية والمنفّرة للفقر والحرمان، فالصدام مع عوادي الزمان بدأ مع وفاة والده جان بيير دوبون الذي عمل في مجال التعدين، وهو في سن الرابعة، الأمر الذي دفع بوالدته إيلينا إلى الاشتغال في مجال التنظيف لتغطية نفقاتهما حتى يتمكن ابنها من متابعة دراسته وبعدها استطاع الاعتماد على نفسه كي يحقق طموحاته.

غول المحامين

مهمته الجديدة حساسة جداً، وتتطلب من موريتي استحضار كل ثباته وتوازنه الوجداني لكبح مزاجه في التعامل مع الجسم القضائي الفرنسي

غير أن الوزير موريتي يصر على الذهاب في طريقه، مبرّراً أن مشروعه الأساسي في وزارة العدل هو تقوية استقلال السلطة القضائية وافتراض البراءة ويتصوّر أنه لتعزيز سلطة وزارة العدل تحتاج وزير عدل قوي ويجسد الالتزام بمتطلبات سيادة القانون، إذ غالبًا ما تكون هناك ردود فعل شخصية مع دوافع للانتقام كبشر.

يصفه الفرنسيون بغول المحامين وينظر لنفسه كمحام ناجح مهنيا ولا يشكك في قدراته مع حفاظه على هامش مهم من التواضع دون استعلاء فج، فلا زال يتذكر أنه عندما كان في الرابعة من العمر توفي والده فتكفلت به والدته، وعليه بنى قناعاته معتقدا أن بإمكانه تقديم المساعدة ليس لتغيير العالم نحو الأفضل، بل لمن أنابوه عنهم لاستجلاب صك البراءة.

منطلقا إلى فضاءات هائلة رحيبة وغير مقيدة للحرية لازال موريتي يزاول مهنة المحاماة بحماس شديد بعد ما يزيد عن 34 سنة، وهي من بين المهن سيئة السمعة في نظر العديد من الفرنسيين، وفي نظره توجد علاقة عناق كبير بين مهنتي المحاماة والتمثيل على اعتبار أنهما يفترضان نوعاً من الأداء المسرحي، ومن هذا المنطلق دافع عن الكثيرين وسوف نرى كيف سيكون موقفه بعد ما سيتعرض له من حملات إعلامية تستهدف حياته العامة والخاصة.

تبلورت شخصيته العملية من خلال تفانيه في الدراسة وعمله في عدد كبير من المهن، فقد عمل حفّار قبور ثم عامل بناء وأخرى حمّالا لأكياس الرمل ونادلا في ملهى ليلي ومطعم، فكان خير معين لوالدته حيث تميّز في جميع مراحل دراسته، وكانت الوفاة المأساوية لجده من جهة الأم باولو موريتي عام 1957 سببا في أن يكرس جهده كي يصبح محاميا.

محامي البلاط الملكي

موريتي يملك مزيجا جيدا من الجرأة والخبرة والمروءة والبحث الحثيث عن الحب والفرجة، وهي صفات أهلته للتعامل مع جميع مهن العدالة، وساهمت في اختياره وزيراً للعدل

ترافع  المحامي موريتي في قضايا استأثرت باهتمام الرأي العام، وإشرافه على ملفات قضائية لأشخاص معروفين وعاديين، فقد دافع في العام 2004 عن روزلين غودار، الملقبة بـ “الخبازة” والمتهمة في قضية الانتهاك الجنسي ضد الأطفال، وبعد ثلاثة عشر عاما من تلك القضية دافع عن عبدالقادر مراح شقيق محمد مراح الذي قتل سبعة أشخاص في تولوز عام2012، كما كان موريتي محامي وزير الخارجية الأسبق جورج ترون الذي اتهمته مساعدته بالاغتصاب، واستطاع المحامي الشهير أن يفوز بالبراءة لموكّله ويتهم السيّدتين بالرغبة في الانتقام من الوزير، وربما لهذه الأسباب وغيرها، تم اختياره وزيرا للعدل، فالخبير الجيد في المهنة لا ينتج بالضرورة وزيرًا جيدا لكن مع موريتي يبدو أنه مؤهل للتعامل مع صعوبات الموقع الجديد، وهذا ما أظهرته ردود الفعل الأكثر تباينا بخصوص تعيينه وعلى رأسها ردود فعل القضاة.

ليس سهلا أن تحظى بثقة البلاط الملكي المغربي للمرافعة في قضايا ومعارك تكون ساحاتها ردهات المحاكم، لكن موريتي، استطاع أن يكسب ثقة العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي منحه شرف ترافعه في قضايا تخص القصر الملكي، وذلك لتواصله الجيد داخل قاعات المحكمة وخارجها وبحثه الحثيث عن الحجج المقنعة، إلى جانب امتلاكه القدرة على الإنصات وتتبع مسارات الملفات وتحليله المنطقي ومعرفته بأحجيات القواعد القانونية والتنقيب عن الوثائق والشهادات المعقدة.

وكانت قضية ابتزاز العاهل المغربي من طرف الصحافيين الفرنسيين إريك لوران وكاترين غراسييه، في العام 2015 فرصة لارتفاع أسهم المحامي بعد أن واجههما في ملف عرض على القضاء بعد طلبهم 3 ملايين دولار مقابل عدم نشر كتاب عنه بدعوى أنه يتضمن أسرارا عنه وعن الأسرة الملكية، ليغلق الملف بعد عامين بانتصار البلاط على ابتزاز الصحفيين الفرنسيين وادعاءاتهما، وبعدها اعترفا بتهمة محاولة ابتزاز العاهل المغربي أمام النائب العام الفرنسي، وقد برر إريك لوران قبوله العرض بظروفه ومعاناته مع سرطان زوجته، بينما أرجعت كاثرين غراسييه الصفقة المالية إلى الضعف البشري أمام المال.

منذ البداية عبّر موريتي، محامي المغرب في القضية، عن تفاؤله بإدانة الصحافيين، مشيرا إلى أن المغرب يريد حقه، ورد الاعتبار إلى ملكه الذي تعرض للابتزاز من طرف الصحافيين المذكورين. وبثقته أكد أن المغرب ليس خائفا من هؤلاء، ثم إن المعلومات التي كان ينوي نشرها كل من إريك لوران وكاترين غراسييه في كتابهما هي معلومات عادية ومعروفة لدى الشعب المغربي، وكلها تتمحور حول شركات في ملكية الملك وارتباطها بالاقتصاد المغربي.

العلاقات التي تجمعه مع القصر الملكي المغربي قوية، وهو مطلع على الملفات المشتركة بين باريس والرباط في شق التعاون القضائي والامني المرتبط بالمجال الجنائي، لهذا سيكون مفيدا في تسهيل العديد من الملفات العالقة

ومرة أخرى يظهر موريتي مدافعا عن البلاط المغربي ضد إشاعات مغرضة ضد العائلة الملكية، عندما أسكت الكل قائلا إن الملك محمد السادس وزوجته السابقة للا سلمى يرفضان تماما كل الإشاعات التي نشرت مؤخرا من طرف مواقع معادية للمغرب، وتحاول أن تسيء لصورة المملكة. وتكون الرسالة قد وصلت لكل من أراد المتاجرة في ملف علاقة ملك وزوجته، وأدرجه المحامي تحت بند السب والقذف.

ونظرا للعلاقات القوية التي تجمعه مع القصر الملكي المغربي فقد عبرت مصادر دبلوماسية ، أن المحامي مطلع على الملفات المشتركة بين باريس والرباط في شق التعاون القضائي والأمني المرتبط بالمجال الجنائي، لهذا فسيكون مفيدا في تسهيل العديد من الملفات العالقة وقناة في مجال الدبلوماسية القضائية قد يحتاجها البلدان لتدارك الخلافات وتجنب العواصف التي لا داعي لها.

ابتعاده عن العمل السياسي وقربه من الشأن المغربي الفرنسي لم يقفا حائلين دون اهتمامه بمجالات تصب في مجال اهتماماته كمحام يترافع في قضايا يتقاطع فيها الجنائي والأمني والسياسي، ومن خلال تجربته يعتقد أن العمل الاستخباراتي ساعد فرنسا في إحباط العديد من المشاريع الإرهابية، بفضل تعاون الأجهزة المغربية، وهو ما وجب التنويه به.

حبه لمهنته المحاماة دفعه للقول إنه لا يتوفر على الخصائص الضرورية لمزاولة مهنة القضاء، رافضا وسام جوقة الشرف معللا موقفه بأنه لا يجب أن يعطى لمن يزاول مهنته، ويؤمن بقاعدة التخفيف أحيانًا من مواقف، لهذا لا يحب إطلاق المعلومات في الهواء دون تحليل سوسيولوجي، وإلا فسنفتح الباب أمام كل أشكال العنصرية، وقد أطر صراعه مع بعض القضاة الذين يتجاوزون الحدود والمعايير القانونية، ما دفعه للقول إننا نعيش الآن في جمهورية قضاة مستقلة مع حصره الإصلاحات التي تعهد بتنفيذها تلك الخاصة بمكتب المدعي العام، فهو يريد أن يرى المدعين العامين مثل القضاة.

معروف عنه انتقاده الشديد للقضاة وقال إنهم الوحيدون في مجتمعنا الذين لا يتحمّلون المسؤولية القانونية عن أعمالهم، وبعد تنصيبه وزيرا للعدل حتم عليه منصبه القيام بطمأنتهم بشأن مشاريعه الإصلاحية، كونه لا ينخدع بالوقت المحدود لولايته ومع ذلك فهو عازم المضي قدما في الإصلاح الذي يمنح المجلس الأعلى للقضاء الموافقة على تعيين المدعين العامين ويسمح بمواءمة الإجراءات التأديبية.

العدالة داخل جمهورية القضاة

مساره المهني في مجال المحاماة لن ينتهي بتوزيره، وقد أحبّ هذه المهنة وسيستمر في حبها مع معرفة طويلة بمحاكم فرنسا

قبل أربع سنوات دعا إلى إلغاء المدرسة الوطنية للقضاة التي يعتبرها غير قادرة على تدريب قضاة المستقبل مهنيًا ومن الناحية الإنسانية، لهذا قالت سيلين باريزو رئيسة اتحاد نقابة القضاة “إن تسمية هذه الشخصية الخلافية التي تحتقر القضاة إلى هذا الحد هي إعلان حرب على القضاء، فهو دائما يشوه سمعتنا ووضعنا”، وتساءلت “هل هو الشخص نفسه الذي سيتكلف بإدارة مسيرة قضاة النيابة؟”. نظريته تتلخص في أنه حين يصبح الشخص قاضيا في سن الـ24، مع ما يصاحب الوصول إلى هذا المركز من نفوذ، من المحتمل أن يلامسه غرور سيؤثر على مهنيته، ويجادل بأنه لو أن القضاة مارسوا لعقد من الزمن أو أكثر مهنة المحاماة، لتعلموا معنى التواضع ولأصبحوا أكثر علما بمسؤوليات القاضي الجيد وطبيعة شخصيته، وهو متأكد من أنه لا يتهجم بشكل عدمي على المدرسة الوطنية للقضاء، فرأيه يؤسسه على دلائل ثابتة، وهو مستعد لمناقشتها بكل حيادية.

وكان اختيار رئيس الجمهورية في محله حسب السياسية إليزابيث جيجو، التي تجده اختيارا جيدا جدا فيجب حسب رأيها “أن تتجسد العدالة من خلال شخصية قوية في وزارة العدالة وهي وزارة لا يعرفها الفرنسيون إلا أن لها مكانًا مركزيًا في بلدنا ويجب على وزير العدل أن يتكلم وأن يكون قادراً على التأثير على جهاز الدولة، ولاسيما مقابل وزارة الداخلية”.

موريتي اختير وزيرا في السادس من يوليو الجاري من بوابة المحاماة حاملا أفكارا مبتكرة حول مستقبل القضاء والمحاماة معا، على الرغم من أنه لم ير العمل السياسي مجالا مغريا، مصنفا إياه مثل العمل من داخل المؤسسة الماسونية

العدالة بالنسبة إليه موجودة لوضع مسافة من خلال فرض عقوبات تتناسب مع الفعل المرتكب، وتحتاج دائما إلى التراجع ومناشدة العقل، كما يمكن أن تحتفظ ببعد إنساني رائع عندما تتجلى كعقد يوقّعه من يقيمونها عندما يحققها قاض رائع، وبالتالي فهي تختلف كثيرا عن الحكم الذي يصدره قاضي سيء، وعندما أصبح وزيرا للعدل لم يَعِد بثورة في مجال إصلاح قطاع العدالة، لكنه مؤمن بأن العدالة دائما في خدمة المتقاضي وليس العكس، لهذا فالحاجة إلى الموارد الهائلة ضرورية  للمحاكم ويؤكد حصوله على تأكيدات أن ميزانية 2021 ستزيد من وتيرة خلق فرص العمل من أجل العدالة.

إذا كان تعلقه بالعدالة نابع من ارتباطه بوالدته كامرأة والتي كانت عادلة معه في سنوات طفولته الأولى، فهناك جمعيات مدافعة عن حقوق النساء وناشطات ندّدن بتعيينه وزيرا للعدل، وقالت عنه زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان إنه في وزارة العدل تم تعيين ناشط يساري متطرف يأمل حظر حزب التجمع الوطني، لكنه لم يلتفت إلى ما تطلقه الشعبوية السياسية، ووعد بأن يقود معركة ضارية لا ترحم في ساحة العنف ضد المرأة بأن يتم الاستماع للضحايا من النساء، وأن يتلقين استقبالاً أفضل في أقسام الشرطة والدرك ورعاية هؤلاء النساء في أقرب المستشفيات من منازلهن، وسيحقق رغبتهن في إنشاء وحدات محلية في المستشفيات بعدما حصل على ضمان التمويل.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: