المسجد والتاريخ سلاح أردوغان الأخير
تريد المنظومة الأردوغانية استعادة إرث إمبراطورية العثمانيين، وهذا في نظرنا تحدّ معقد للغاية لاعتبارات جيواستراتيجية، يجعل من المستحيل الذهاب إلى أبعد نقطة في تبني الحلول المؤسسة على دغدغة العواطف من منطلقات عرقية ودينية، وعليه، فمحاولات الانتقام من تقسيم ذلك الإرث إلى دول وطنية محكوم عليها بالفشل دائما وقد جربها أردوغان في عدد من الملفات وليست ليبيا آخرها.
ومع ذلك، يمكن تمييز إغراء العاطفة الدينية الطاغية في الخيال السياسي لبعض الناس الذين لا يميزون جيدا الخطوات الأردوغانية. وإذا عدنا إلى واقعة تحويل المتحف إلى مسجد تقام فيه الصلاة كرونولوجيا، نقرأ أنه تمت عملية فتح المسجد تدريجيا بالجزء الخلفي من المبنى، وتم رفع الأذان من مبنى يقع في ساحة “آيا صوفيا”، وفي العام 2016، كان هناك قرار بتلاوة القرآن بشكل يومي وبرامج دينية.
ويبدو أن إعادة شعائر صلاة الجماعة والجمعة إلى آيا صوفيا بتركيا، في ظاهره انتصار للهوية الإسلامية، لكن في السياقات التي تمر بها المنطقة حاليا فإنه يتطلب منا الحذر كثيرا من الانسياق العاطفي وراء حدث أرادت الرئاسة التركية إضفاء نوع من القداسة والبطولة والجرأة على من تبناه ووصل به إلى هذا المستوى من التجييش الإلكتروني والإعلامي تمهيدا للاكتساح على المستويات الأمنية والتجارية، ولِمَ لا العسكرية؟
القرار لم يتم اتخاذه فجأة ولكن بعد إنضاج شروطه السياسية، فبالعودة إلى تاريخ 27 مايو من العام 2012، نرى احتجاج أنصار أردوغان أمام مبنى آيا صوفيا، على قانون حظر إقامة الشعائر الدينية فيه، رافعين شعار “اكسروا السلاسل.. وافتحوا مسجد آيا صوفيا.. المسجد الأسير”.
وبعدها بسنة أكد باحثون أكاديميون تابعون للمنظومة الأردوغانية التي كانت في طور تقوية مواقعها، أن إعادة الصلاة إلى آيا صوفيا أصبح أكثر إلحاحا على اعتبار تحويلها إلى متحف تم بطريقة “غير شرعية” عبر تزوير توقيع أتاتورك على القرار المتعلق بالموضوع.
وبعد قراءة الواقع الجيوسياسي قبل وبعد القرار نجد أن أردوغان آثر عندما كان رئيسا للوزراء في العام 2013، أن ينتظر التوقيت المناسب ويستعمل سياسة تمويهية، قائلا إنه لن يفكر في تغيير وضع آيا صوفيا ما دام هناك صرح إسلامي عظيم آخر في إسطنبول شبه خاو من المصلين وهو مسجد السلطان أحمد الذي يرجع بناؤه إلى القرن الـ17ميلادي، لافتا إلى أن المدينة فيها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد.
بنيت آيا صوفيا التي تقف اليوم في الأصل ككاتدرائية لعاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في القرن السادس، وأصبحت مسجدا عام 1453 مع الفتح العثماني للقسطنطينية وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية، قام مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها، بتحويل آيا صوفيا إلى متحف.
لهذا ينطوي الانتقال من كتدرائية إلى مسجد ثم متحف وأخيرا إلى مسجد على أولوية السياسة الخارجية التركية ورؤية الحكام الجدد في ما يتعلق بإعادة تقييم دور مؤسسات الدولة والشركات الاستثمارية في العالم وأهميتها في العلاقات الدولية وبناء مصالح لتقوية مجالها الحيوي، باستغلال المشاعر الدينية معبرا للأردوغانية للسيطرة على مشاعر الأتباع كخطوة أولى في المشروع الأردوغاني كمنظومة.
بشكل عام، إن التعاطي العاطفي مع قرار أردوغان جزء من مشكلة أكبر تتطلب من النخب السياسية في بلدان شمال أفريقيا بشكل خاص، أن تتكيف مع التغيرات في حجمها الحالي لضبط سلوك تركيا الأردوغانية حتى لا تصبح مشكلة بعيدة عن الحل.
نقول إن ما يقوم به أردوغان يتكامل في شقه الأمني والسياسي مع قيامه بتصدير الصراع السوري إلى ليبيا بعدما نشرت تركيا ما يقدر بـ7 آلاف من المرتزقة العرب والتركمان على الأرض في ليبيا منذ يناير الماضي، مدعومين بطائرات طويلة التحمل من دون طيار وبطاريات مضادة للطائرات.
ونعتقد أن الفوضى في ليبيا محفز رئيسي للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا وتغذي انتشار الجهادية المتطرفة في جنوب وغرب أفريقيا والآثار المزعزعة للاستقرار على المنطقة الأوسع، وليست أقلها تونس، وهذا ما يحاول أردوغان التغطية عليه بمحاولة دغدغة الشعور الديني لدى قاعدة واسعة للمجتمعات العربية الإسلامية.
قرار أردوغان له أبعاده السياسية القريبة ومتوسطة المدى، داخليا يهدف إلى تحقيق نقاط مع أتباعه المتدينين والقوميين، وعينه على تحقيق نتائج مهمة لحزبه وحلفائه في الانتخابات الرئاسية في يونيو 2023، وتعزيز قاعدته الانتخابية ومشاريعه التوسعية.
ومع ذلك، فإن العلاقات المتضاربة لتركيا مع جميع جيرانها عامل قد يلحق بأردوغان هزيمة مباشرة ولن يستطيع إعادة تاريخ إمبراطوري لا تسعف الظروف في إعادة تحقيقه.
وأخيرا استغل أردوغان رمزية آيا صوفيا سياسيا ودينيا، كي يُنظرَ إلى تركيا على أنها تجسد روح الإمبراطورية العثمانية دون التفريط في قيم الحداثة، وهدفه استعادة نفوذها على الأراضي التي كانت تسيطر عليها ذات مرة خصوصا في شمال أفريقيا والتوغل داخل غرب القارة.
والصراعات التي تعصف بمنطقة الساحل على سبيل المثال لها جذور سياسية وعشائرية ومناخية عميقة، وتعمل تركيا من منطلقات دينية وسياسية على التأثير ولو عن بعد لاستغلال هذا المعطى الأمني خدمة لأجندتها التوسعية داخل أفريقيا.