عالقـون … قصـص وحكايـات

منهم من فقد والدته وحاول الانتحار ومنهم من تحول شهر عسله إلى سواد ومنهم من طرده أبناؤه

تكاد معاناة العالقين خارج أرض الوطن، تتشابه في العديد من تفاصيلها الدرامية. غير أن حكايات وقصص البعض منهم، لديها طعم خاص، هو مزيج من المرارة والإثارة والغرابة. حكايات كثيرة لم تتسع صفحات الجريدة لاستعراضها كلها، اخترنا من بينها هذه النماذج التي ارتأينا أنها قد تثير اهتمام القارئ، وحاولنا أن تأتي متنوعة، منها ما يحز في النفس، ومنها ما يبعث فيها الأمل، رغم الألم. في ما يلي بعض من قصص عالقينا في الخارج، الذين نتمنى لمن لا يزال منهم عالقا، عودة سالمة إلى أرض الوطن..

عاشت فتيحة، أقسى لحظات حياتها خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، التي قضتها عالقة في دبي، بعد أن توقفت الرحلات تماما بسبب انتشار وباء “كورونا”، واضطرارها إلى البقاء في الإمارات، التي وصلت إليها في أبريل 2018، لتشتغل بأحد فنادقها، قبل أن تضيق ذرعا بالغربة، خاصة حين مرضت والدتها التي كانت في حاجة ماسة إلى وجودها، لتقرر العودة إلى أرض الوطن.
هيأت فتيحة جميع الظروف من أجل العودة إلى بلدها. قامت باتصالاتها من أجل الحصول على عمل في المغرب، يمكنها بفضله أن تعيل نفسها وعائلتها، واستطاعت فعلا الحصول على وظيفة “ماركوتينغ ماناجير”، مع إحدى الشركات بالعاصمة الرباط، التي انتقلت إليها قبل شهور من أجل وضع آخر اللمسات على العقد الجديد، وكان من المفترض أن تبدأ العمل بداية أبريل الماضي، قبل أن تحل الكارثة وتقفل جميع البلدان حدودها، خوفا من عدوى المرض.

تذكرة بدون عودة

ألغت فتيحة عقد إيجار المنزل الذي كانت تكتريه في دبي وسوت وضعيتها مع مشغلها القديم ولم تجدد وثائق إقامتها وجمعت حقائبها وحجزت تذكرة ذهاب إلى المغرب، بدون عودة، لتجد نفسها في ورطة كبيرة بعد أن أقفلت الحدود في وجهها، ومعه جميع أبواب الأمل والمستقبل: “كحالت الدنيا في وجهي. ولم أصدق ما يقع. كنت أمني النفس في البداية بأن الأمور ستأخذ بعض الوقت قبل أن تعود إلى سابق عهدها، قبل أن أكتشف أن المدة تطول دون أن تلوح أي بارقة أمل. اتصلت بالقنصلية والسفير وبمعارفي وأفراد من عائلتي، دون جدوى. لا أحد كان يمكنه أن يخبرنا عن موعد زوال هذا الكابوس. كنت في حاجة فقط إلى أفق… إلى أحد يعطيني تاريخا أو موعدا محددا، لكن والو…”.

“لا حنين لا رحيم”

استطاعت فتيحة أن تدبر أمورها في الأسابيع الأولى بفضل بعض مدخراتها، التي سرعان ما تبخرت في مدينة من أغلى المدن في العالم. لم يعد من الممكن بعد مرور الشهر الأول، أن تدفع أجرة الشقة الصغيرة التي اكترتها، ولا صديقات أو أصدقاء لها في هذا البلد الذي لم تستطع أن تتأقلم فيه جيدا، ولم تعد تملك درهما تشتري به ولو قنينة ماء صغيرة. إحدى صديقاتها من المغرب، التي كانت على تواصل معها، توصلت إلى طريقة من أجل تقديم المساعدة إلى فتيحة، حين أطلقت نداء عبر صفحتها على “فيسبوك”، تهيب من خلاله بالمغاربة المقيمين بدبي، إلى مد يد العون إلى صديقتها والتكفل بها. فلبت النداء مغربية مقيمة مع عائلتها التي آوت صديقتنا وتكفلت بمأكلها وشربها وطلباتها.تحكي  عن معاناتها قائلة “أقفلت جميع الأبواب في وجهي. ولات كا تبان ليا الضلمة. عمرني عشت شي حاجة بحال هاكا فحياتي. وجدت نفسي في رمضان بلا مأوى ولا مأكل ولا مال. لاجئة متشردة في بلد ليس بلدي، بعيدا عن والدتي وأهلي وأصدقائي، لا حنين لا رحيم. لولا شفقة المغربية التي آوتني في بيتها منذ ماي الماضي، الله يجازيها بخير، والتي كنت أجد نفسي محرجة كل يوم وأنا أستفيق في منزلها، خوفا من أن أكون أثقلت عليها”.
عانت فتيحة أيضا بسبب المرض، فهي تعاني مشاكل في العمود الفقري، وكانت خضعت لتوها إلى عملية جراحية. مما جعلها تعد ملفا طبيا كاملا قدمته إلى المصالح القنصلية في دبي من أجل أن تكون من بين أول المستفيدين من العودة، لأنها في وضعية هشاشة، لكنها للأسف لم تتمكن من العودة ضمن الفوج الأول من العائدين، لتضطر إلى الاستدانة من الأصدقاء والعائلة لشراء تذكرة العودة إلى البلد، والتي بلغت أكثر من 10 آلاف درهم.

ماتت والدته فقرر الانتحار

محمد، نموذج آخر من معاناة العالقين خارج أرض الوطن. لقد أمضى هذا الشاب شهورا في السعودية وهو يمني النفس برؤية والدته التي تركها على فراش المرض، والتي ازدادت حالتها سوءا بعد أن علمت بورطة فلذة كبدها في بلاد الغربة. كان يتصل بها بشكل يومي للاطمئنان على حالها، في الوقت الذي كانت حاله “تشفي العديان”، بعد أن لم يعد له أي مورد رزق ولا مأوى له سوى بيت أحد المقيمين العرب في مملكة آل سعود، إضافة إلى مشاكله مع زوجته التي طلبت الطلاق وسمحت له في حضانة الأولاد. باءت جميع محاولاته للعودة بالفشل. طرق جميع الأبواب وعرض مشكلته أمام كل من تعرف عليه، عل وعسى يعينه على إيجاد حل لمصيبته، دون جدوى. فقد كان خطر الإصابة بالعدوى وانتشارها أكبر بكثير من أي حس إنساني لدى السلطات.
سيصاب محمد، مثلما أكد أحد المقربين، باكتئاب مع مرور الأيام، ازدادت حدته بعد أن تلقى خبر وفاة والدته ذات صباح من رمضان، فما كان منه إلا أن تناول مادة سامة محاولا وضع حد لحياته، قبل أن ينقذه أحد معارفه الذي كان على تواصل معه هناك عبر “واتساب”.

“عسل” أسود

من جهتها، عاشت حنان، معلمة بالرباط، “دراما” حقيقية، بعد أن علقت في مصر بسبب انتشار جائحة كورونا، وإقفال الحدود. سافرت إلى “المحروسة” قبل شهور من أجل إتمام إجراءات عقد قرانها بزوجها المصري الذي يقيم في ألمانيا، وقضاء فترة “شهر العسل”، بعد أن استعصى عليهم الأمر في بلد أنجيلا ميركل بسبب تعقد الإجراءات، لتجد نفسها، بعد مدة، عالقة هي وزوجها الذي يحمل الجنسية الألمانية، لكنه لم يتمكن من الالتحاق بالعالقين المغادرين إلى ألمانيا، ويترك زوجته في بلد غريب عنها، في عز الأزمة.
ستكتشف حنان، بعد مدة، أنها حامل في شهورها الأولى. لم يكن لديها أي مال، وزوجها صرف كل مدخراته، وطرد من عمله في ألمانيا بعد أن رفض الالتحاق به، تاركا زوجته وأم ابنه وحيدة.

لا حياة لمن تنادي

أمضت حنان مدة الحجر الصحي مع زوجها في الشقة التي تركها له والداه. كانت طيلة شهور تتردد على مصالح السفارة المغربية في القاهرة، للحصول على أي معلومة حول تاريخ العودة إلى الوطن. في كل مرة كانت تخبرهم أن وضعيتها الصحية صعبة، وفي كل مرة كانت تسمع الإجابة نفسها “فاش تكون شي حاجة غادي نعيطو ليك”. وما زالت حنان، إلى حدود كتابة هذه السطور، عالقة في مصر، تنتظر فتح الحدود بين البلدين، لتركب أول طائرة، تعود بها إلى المغرب.
تقول حنان: “لا يوجد أدنى اهتمام بنا من السفارة. لا حياة لمن تنادي، رغم أننا لم نطلب منهم لا فندقا للإقامة ولا مالا ولا أكلا. تحملنا مصاريفنا لوحدنا، لمدة أربعة شهور، ولم نستفد من أي امتياز من تلك الامتيازات التي خص بها العالقون المغاربة الآخرون، الذين عادوا بهم في أول طائرة في حين لم نفهم المعايير التي ارتكزوا عليها في ترحيلهم”.

عالم في حاجة إلى مساعدة

حالة أخرى تستحق الوقوف عندها لخبير مغربي في الزراعة والمناخ، حاصل على العديد من الجوائز الدولية العريقة، والذي سافر في يناير الماضي إلى باماكو في مالي، في إطار مهمة ميدانية لمشروع بيئي كبير من تمويل هيأة الأمم المتحدة بشراكة مع الاتحاد الأوربي، وكان يفترض أن تنتهي في مارس الماضي، لكنه وجد نفسه عالقا هناك. ورغم وضعيته المادية المحترمة، إلا أن مصاريف العيش على نفقته أثقلت كاهله، خاصة أنه مصاب بالسكري، وحولته من عالم كبير إلى عالق يحتاج المساعدة.
قصة أخرى أكثر ألما، من أحد أعضاء مجموعة “العالقون المغاربة خارج أرض الوطن”، التي تحولت إلى “اللاجئين المغاربة”، لشيخ قدم إلى بروكسيل من أجل زيارة ابنته المقيمة هناك، بغرض إجراء بعض الفحوص الطبية، قبل أن تقفل الحدود في وجهه، ويجد نفسه عالقا في بيت ابنته التي آوته خلال الشهر الأول، قبل أن تطرده إلى الشارع، بعد أن ضاقت ذرعا به وبحالته الصحية “المتضعضعة”.

“سمفونية” تشكيلية من رحم الحجر

أما فاطنة شعنان، ابنة البيضاء العالقة في إسبانيا منذ شهور، فأبدعت من رحم المعاناة لوحات تشكيلية جميلة قررت أن تعرضها في بهو الفندق الذي كانت تقيم فيه منذ مارس الماضي، حيث نظمت معرضا فرديا للوحاتها تحت عنوان “سمفونية الحجر الصحي”. لقد حولت فاطنة الأزمة التي مرت بها إلى فرصة للتعبير عن ذاتها من خلال الفن والجمال، متحدية المرض والحزن وألم البعد عن الأحبة والأهل.
تحكي فاطنة، كيف وصلت إسبانيا، وتقول: “جئت رفقة ابني تلبية لدعوة من نادي ديبورتيفو ويلفا لكرة القدم، الذي كان يرغب صغيري في الانضمام إليه. وفي الوقت نفسه الذي توصلت بخبر مفرح عن الانطباع الجيد للمسؤولين بالفريق، سمعت خبر إغلاق الحدود الذي نزل علينا مثل الصاعقة، خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ، إذ أقفلت في وجهنا جميع الأبواب”.

الرسم لتوازن نفسي

اقترحت السفارة على فاطنة وابنها الإقامة في مسجد أو في شقة رفقة عائلة أخرى، لكنها رفضت خوفا من العدوى، وفضلت المكوث في الفندق الذي كانت تقيم فيه بعد أن تفاوضت مع إدارته حول سعر معقول. اعتقدت أن الأمر لن يطول، قبل أن تكتشف أن الأيام تمر سريعة، ولا أمل بالعودة في الأفق.
لم تستسلم فاطنة لليأس، وكان عليها أن تتحلى بالكثير من الصبر والطاقة الإيجابية، خاصة أن الحالة النفسية لابنها لم تكن على ما يرام، وكان يشعر بخوف كبير، بسبب الفيروس وبسبب الوضعية التي وجدا فيها. تقول “كان علي أن أتأقلم وأن أحافظ على توازني النفسي حتى لا يتأثر ابني. فلم أجد غير الفن والرسم سبيلا. ساعدني على ذلك، الإطلالة الرائعة للفندق حيث أقيم، على البحر والمناظر الخلابة التي كانت توفرها الرؤية من شرفته”.
حولت فاطنة غرفتها إلى ورشة رسم. كانت ترسم بما هو متوفر لديها… أحمر الشفاه… صباغة الأظافر… بن وقهوة… واستطاعت طيلة مدة الحجر الصحي أن تبدع 32 لوحة، كانت تنشرها على صفحتها ب”فيسبوك”، إلى أن اقترح عليها مدير الفندق إقامة معرض للوحاتها، بعد أن رآها وأعجب بها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: