خطة الاتحاد الأوروبي: تمويل المصرف قبل إنقاذ الآدمي

جرت العادة أن ينقسم العالم إلى شمال (غنيّ نسبياً، أو على نحو فاحش)، وإلى جنوب (فقير إجمالاً، وجائع مراراً)؛ أو أن ينقسم، ثقافياً على الأقلّ، وضمن تنميطات متكلسة، إلى شرق (التقاليد، والتراثات الروحية، المستعمرات، الاستبداد، التشدد…)، وإلى غرب (الأنوار، الفلسفات السياسية، الديمقراطيات، الحروب العالمية، الاستعمار والنهب الخارجي…). غير أنّ بروكسيل شهدت، مؤخراً، انقسام أوروبا ذاتها، في أعلى هرم الاتحاد الأوروبي، إلى شمال وجنوب وشرق وغرب؛ طبقاً لموقع الدول الجغرافي، ولكن أيضاً استناداً إلى مواقفها من خطة الإنعاش الاقتصادي التي ولدت بعد مخاض شاقّ عسير.

ولقد قيل سريعاً، ليس من دون مسوغات كافية في الواقع، أنّ الاتحاد الأوروبي شهد أخيراً تلك “البرهة الهاملتونية” المنتظَرة؛ نسبة إلى ألكسندر هاملتون (1755-1804)، أوّل وزير خزانة في تاريخ أمريكا، ومهندس الصفقة التاريخية التي أتاحت لحكومة الولايات المتحدة الوليدة احتضان ديون المستعمرات السابقة وتحويلها إلى التزامات مشتركة للاتحاد الفدرالي. فهل، حقاً، يمكن لخطة الإنعاش أن تكرر تلك البرهة؛ بما يسمح بالقول إنّ جائحة كوفيد-19 كانت، في نهاية المطاف، ضارّة نافعة؟

ليس تماماً، خاصة إذا توغل المرء أعمق في تفاصيل الخطة، وعلى خلفية ما تحمله من محاسن ومساوئ تتجاوز بكثير معضلات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية المزمنة، القديمة والراهنة والمقبلة؛ ثمّ على خلفية أخرى تخصّ مكاسب وخسائر كلّ جهة جغرافية/ سياسية/ اجتماعية على نطاق القارة، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. وإذا صحّ أنها خطة تَعِد القطاعات الخاصة والشركات العملاقة والمصارف الكبرى بهدايا كثيرة يُعتدّ بها، فإنّ ما تقترحه على مستوى الميزانيات المتصلة بالحياة اليومية للشعوب (الزراعة، البطالة، الصحة، التقاعد…) متواضع أو محدود أو هزيل، بل يُنذر بما هو أدهى في المستقبل القريب!

وليس تماماً لأنّ استحقاقات كثيرة، بعضها عراقيل جدية، تنتظر وضع الخطة قيد التنفيذ؛ ابتداء من تصويت البرلمان الأوروبي، ثمّ البرلمانات الوطنية في جميع الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد؛ وليس انتهاءً بالشرط الذي وضعته ما سُمّيت “الدول المقتصدة”، هولندا والنمسا والسويد والدانمرك وفنلندا، من حقّ الاستئناف بعد ثلاثة أشهر من مراقبة أداء الدول المقترضة أو الحاصلة على المساعدات. وكان لافتاً، في المقابل، أنّ هذه الدول ذاتها التي تزعم الحرص على التقشف وعدم انقلاب الاتحاد الأوروبي إلى صندوق إعانات، حصلت على مكاسب سخية من الخطة؛ فعلى سبيل المثال، حصة هولندا سترتفع من 1,57 مليار إلى 1,92، والنمسا أضافت 565 مليار فضاعفت ما كانت تحصل عليه سابقاً.

وليس تماماً، أخيراً، لأنّ “البرهة الهاملتونية” الأوروبية لا تستولد طرازاً من الولايات المرشحة للتعاضد الفدرالي، على غرار أمريكا القرن الثامن عشر، بل تعيد عملياً تثبيت استقلالية المراكز مقابل خضوع الأطراف، وتجعل من الدَيْن سيفاً مسلطاً على رؤوس الدول المدينة: في الاقتصاد والمال والصيرفة أوّلاً، ولكن أيضاً في التشريعات والحقوق وبعض السيادة عبر ممارسة الرقابة والتحقق من حسن الأداء. وإذا كانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل قد عدّلت موقفها من مسألة الإقراض غير المشروط، وكان قبلئذ اشبه بالعقيدة الراسخة المقدسة، فذلك لاقتناعها بأنّ أوجاع كوفيد-19 لا تعرف الحدود، ويمكن أن تخترق المصرف المركزي الألماني بسهولة اختراقها للمصارف المركزية في جنوب القارّة العجوز وشرقها.

ومن جانب آخر، يصعب أن ترى “برهة هاملتونية” النور في ضوء معطيات راهنة مثل تراجع التجارة الأوروبية البينية بنسبة 20%، وهبوط مداخيل الأسهم والعملات والصكوك بنسبة 40%، واستئثار الدولار بنسبة 60% من التعاملات الدولية مقابل ركود اليورو أو انحداره… وكلّ هذا بمعزل عن احتمال اندلاع موجات عارمة من الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية في دول مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، ودول أوروبا الشرقية عموماً؛ إذا اتضح أنّ ترجمة الخطة على الأرض الاقتصادية – الاجتماعية إنما تبدأ من تمويل المصرف، قبل إنقاذ الآدمي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: