المغرب وأمنيستي القصة طويلة

المعطي منجب

منذ حوالي نصف قرن ومنظمة العفو الدولية تنشر تقاريرها وتصريحاتها حول أوضاع حقوق الإنسان بالمغرب.
وهي تفعل نفس الشيء مع أغلبية دول العالم. ورغم أنه أصبح للمنظمة منذ السبعينيات خبرة قوية وسمعة طيبة في ما يخص دقة وحيادية بياناتها في ميدان التعريف بواقع حقوق الإنسان في العالم، فإن المغرب أصر في الغالب الأعم ومع استثناء وحيد ـ هو حكومة عبد الرحمان اليوسفي ـ على نعت بلاغاتها بالمعادية أو غير المهنية كما أن الصحافة الرسمية، وأكثر منها الصحافة المرتبطة بالسلطة، تستغل كل أزمة بين المنظمة والدولة لتقوم بحملة تشهير وقذف ضد مسؤولي المؤسسة الحقوقية سواء منهم المغاربة أو الأجانب. ومن بين تيمات الدعاية ضد المنظمة الزعم أنها لا تدعم حقوق الشعب الفلسطيني ولا تنتقد التعسفات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين. إلا أن من يراجع بموضوعية وثائق العفو يرى بكل سرعة أن هذا التحامل لا أساس له من الصحة. فالمنظمة قامت بمجهود كبير للتعريف بأوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال رغم الضغوط والانتقادات التي واجهتها بالبلدان الغربية نفسها من لدن جزء كبير من الطبقة السياسية والإعلام المناصر لإسرائيل. كما أن تقاريرها حول الخروقات الإسرائيلية تتعدى بكثير تلك المتعلقة بالمغرب أو جيرانه. والأمر طبيعي مادامت أوضاع حقوق الإنسان الفلسطيني، كمجموعة بشرية، هي من أسوأ الأوضاع بالمنطقة فحتى حق هذا الشعب الطبيعي في تقرير مصيره على أرضه غير معترف به على أرض الواقع. كما أن اللاجئين الفلسطينيين محرومون من حق العودة إلى بلادهم منذ عقود طويلة…دعاية أخرى تقول إن أمنيستي تعتمد في تقاريرها عما تقول (أطراف معادية للمؤسسات الوطنية) والتعبير الرسمي يشير إلى جزء من المعارضة المغربية التي تعاني من قمع السلطة وضغوطاتها والتي تخرق الدستور المغربي نفسه، فماذا يريد أصحاب الحكم من أمنيستي؟ أليس من حق بل من واجب الهيئات الحقوقية، أكانت محلية أم دولية، التواصل مع ضحايا التصرفات الرسمية المنافية للقانون ليتأكد خبراؤها بأنفسهم من واقع الحال؟ هل من المنطقي أن تعتمد منظمة دولية محايدة على مصدر وحيد هو نفسه المتهم بارتكاب الخروقات التي تبحث فيها.
ولما نرجع للتاريخ نرى أن نتائج أبحاث منظمة العفو حول المغرب كانت في الأغلب الأعم قريبة جدا من الحقيقة بل إن تصريحاتها تتميز دائما بنوع من الحذر الذي لا يروق أحيانا الضحايا كاستعمال كلمة (ادعاءات) أو حرف (قد) مع المضارع. كما أن الدولة المغربية ستعترف خلال التسعينيات رسميا بوقائع الاضطهاد الرهيبة وبالخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقد أتى أحيانا هذا الاعتراف بعد فوات الأوان أي بعد وفاة الضحايا في المعتقلات السرية أو تدهور حالتهم الصحية…وكلها وقائع عنيدة نبهت إليها في إبانها أمنيستي خلال السبعينيات والثمانينيات. أحيانا أخرى قامت المنظمة العتيدة بحملات إعلامية أتت أكلها بسرعة نسبية فانتشلت الضحايا من بين براثن الطغاة صغارا وكبارا كما حدث السنة الماضية لما أُطلق سراح الصحافية هاجر الريسوني بعد شهر ونصف من اعتقالها بل وخصوصا بعد شهر ونصف من عملية تشهير وقذف كاسحة نُظمت دون خجل أو حياء من لدن الإعلام التابع للسلطة ضد الفتاة، قوة هاته الحملة اللاأخلاقية ومشاركة بعض منابر الإعلام الإماراتية فيها أظهر أنها كانت منظمة من لدن قوى نافذة داخل الدولة.

قامت المنظمة العتيدة بحملات إعلامية أتت أكلها بسرعة نسبية فانتشلت الضحايا من بين براثن الطغاة صغارا وكبارا كما حدث السنة الماضية لما أُطلق سراح الصحافية هاجر الريسوني

وهنا لا بد أن أشير إلى أن أطرافا وطنية تدعوها السلطة (بالمعادية) كانت هي أول من بادر للتعريف بالظلم الذي لحق الصحافية السجينة وهو الشيء الذي جلب أنظار السكرتارية الدولية لمنظمة العفو ولهيئات غير حكومية أخرى مما عجل بإيجاد مخرج إيجابي عاجل لهاجر. أما في ما يخص القضايا الحقوقية الأشهر والأبعد زمنا كمعتقل تازممارت الرهيب وقضية اختطاف أبناء الجنرال أفقير فإنه لم يكن للدولة المغربية موقف واقعي منها. فالملك الراحل الحسن الثاني شكك علانية على شاشة قناة فرنسية أواخر الثمانينيات في وجود مركز الاختفاء القسري المذكور والذي كان قد جَمع فيه حوالي ستين من العسكريين وبعض المدنيين والذين مورس في حقهم، ولمدة تقرب من العشرين سنة، ما تسميه الثقافة الشعبية (بعذاب القبر). كان الحسن الثاني قد أشار في تصريحه إلى أن مصدر المعلومة حول هذه القضية، أي السيدة كريستين دور جوفان، وهي زوجة أبراهام السرفاتي، غير أهل للثقة وإذن لا يمكن اعتبار شهادتها. الغريب أنه بعد حملة حقوقية حول المعتقل-المدفن شاركت فيها أمنيستي وهي التي نعتها الحسن الثاني (بالعلبة الفاسدة)، أُطلق سراح معتقلي تازممارت، كما صرح العاهل الراحل بما معناه، على شاشة قناة فرنسية أخرى، أن تازممارت كانت موجودة فعلا وأنها لم تبق موجودة الآن وهذا هو الأهم.
أمنيستي كانت قد ألحت أيضا، خلال نفس الفترة، في إثارة قضية أبناء الجنرال أفقير الخمسة المختفين والذين كانت تتراوح أعمارهم بين ثلاثة أعوام وثماني عشرة سنة يوم اختطافهم، وهي قضية رهيبة دامت حوالي تسع عشرة سنة وكان النظام يتجاهلها دون أن ينفيها صراحة… كانت هناك أيضا قضية المعتقلين اليساريين بالقنيطرة وببعض مراكز الاختفاء على امتداد خريطة البلاد والذين توفي بعضهم تحت التعذيب أو نتيجة للإهمال أو الإضراب عن الطعام. ما نريد قوله إن كل هاته الخروقات الجسيمة لحق الإنسان في الأمان والكرامة كانت تقدم أمنيستي بشأنها ادعاءاتها وكان النظام ينفيها أو يقلل من شأنها وفي الأخير اعترف الجميع بمن فيهم النظام بحقيقتها ولا قانونيتها كما تم جبر ضرر رسمي ومن المال العام لبعض الضحايا.
واليوم ماذا يمكن أن نقول عن هذه الأزمة الجديدة بين العفو الدولية والدولة المغربية؟ إنه لا يصح إلا الصحيح. إن التجسس على المعارضين بأدوات إسرائيلية واضطهادهم واقع يومي لا يرتفع بالتصريحات الحكومية، موقعة كانت أو غير موقعة، وأن الحل الوحيد هو الاعتراف –كما حدث في السابق- بالأمور كما هي إذ لا يمكن إخفاء الشمس بالغربال. كما أن كل وسائل الإعلام العالمية الكبرى والهيئات الحقوقية والأمنية المختصة تعلم أن المغرب اقتنى تكنولوجيا «إنئسأو« الإسرائيلية وأن بعض القوى النافذة فيه تستعملها بطرق إجرامية ضد منتقدين مسالمين للسلطة، كل ذنبهم أنهم يعبرون عن مواقف وتحاليل مخالفة للخطاب الرسمي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: