جماجم المقاومين عادت إلى الجزائر، لكن التاريخ لا يمكن أن يُمحى
وفق روايات تاريخية، فإن الاستعمار الفرنسي عمد في منتصف القرن التاسع عشر، بعد إخماد ثورات شعبية ضد الاحتلال في الجزائر إلى قطع رؤوس قادة المقاومة ومرافقيهم انتقاما منهم، ونقلها إلى فرنسا، إلى أن عرضت في متحف “الإنسان” بباريس.
في 26 نوفمبر 1849، وبعد حصار دام أربعة أشهر، اقتحم 6 آلاف جندي فرنسي بقيادة الجنرال هيربيلون واحة زعتشة المحصنة في جنوب شرق الجزائر. اقتصرت قائمة الناجين آنذاك على ثلاثة أشخاص فقط من أصل 800 شخص. نجا الشيخ أحمد بن زيان ونجله البالغ من العمر 15 عاما ومرابط. أما الباقون فقد قطعت رؤوسهم ورُفعت على الرماح في بلدة بسكرة المجاورة.
ووفق روايات تاريخية، فإن الاستعمار الفرنسي عمد في منتصف القرن التاسع عشر، بعد إخماد ثورات شعبية ضد الاحتلال في الجزائر إلى قطع رؤوس قادة المقاومة ومرافقيهم انتقاما منهم، ونقلها إلى فرنسا، إلى أن عرضت في متحف “الإنسان” بباريس.
كان هذا السلوك مألوفا من قوات الاستعمار الفرنسي للجزائر طيلة 132 عاما (1830 – 1962). وقد تحدّث الحكام العامون الأوائل عن رغبتهم في القضاء على العرب مثلما كان المستعمرون الأوروبيون يفكّرون في محو الأميركيين الأصليين.
وكتب الجنرال توماس بوغود، وهو حاكم فرنسي في أربعينات القرن التاسع عشر، إلى صديق بعد استسلام أحد مقاتلي المقاومة الجزائرية البارزين، الأمير عبدالقادر، “لقد سئموا القتال… ولا عجب في ذلك مع الخراب والدمار”.
حينها، كان حرق المحاصيل وقطع الأشجار وتسميم الآبار سياسة مدروسة وصفها المؤرخ جيمس ماكدوغال في كتابه “تاريخ الجزائر” بأنها إهدار للقاعدة البيئية الجزائرية. كما كتب السياسي والمؤرخ الفرنسي المشهور أليكسيس دي توكفيل في تقرير إلى مجلس النواب في باريس سنة 1834، “الجزائر هي فرنسا دون القوانين والنفاق… لقد تجاوزنا في البربرية البربر الذين أردنا قيادتهم إلى الحضارة. ثم نشتكي من عدم قدرتهم على التحضّر”!
لم يتوقف الاستعمار الفرنسي في حدود ذلك، بل دمرت أيضا عاصمة الشرق الجزائري، قسنطينة، بعد أن استولى عليها الفرنسيون في محاولتهم الثانية سنة 1837. وقاتلت الجيوش الفرنسية محاربي منطقة القبائل في ستينات القرن التاسع عشر ودمرت قراهم عندما تمرد سكّانها في عام 1871.
حينها، لم تعد أعداد الضحايا معروفة. وبالإضافة إلى الخسائر البشرية، فقدت الجزائر أفضل أراضيها الزراعية التي أصبحت ملكا للمستعمرين الفرنسيين. ووفقا لماكدوغال، قد تكون حصيلة القتلى 650 ألفا وربما حتى 825 ألفا. لكن تزامن عمليات القوات الفرنسية، مع انتشار المجاعة والمرض ينبئ بأن العدد كان أكبر من ذلك بكثير.
بغض النظر عن الأعذار التي قد تعتمدها فرنسا لتبرّر سلوكها السابق في الجزائر، فإنّ على المجتمع الفرنسي أن يطلع على تاريخه
وفي هذا السياق التاريخي الذي يَجمع فرنسا والجزائر مع إعادة النظر في العنف الذي مارسته الدول الأوروبية وأميركا على الذين استعمرتهم واستعبدتهم على مرّ القرون، طالبت الجزائر باستعادة رفات 40 مقاتلا ضد الاستعمار إلى أرض الوطن وذلك في وقت لا تزال البلاد تنتظر اعتذارات من باريس لتسوية الماضي الاستعماري الأليم.
وفي اليوم المصادف للذكرى الـ58 للاستقلال، وارت الجزائر رفات 24 مناضلا ضد الاستعمار استعادتهم من فرنسا، فيما ظلت الحقبة الاستعمارية عالقة في ذاكرة الجزائريين بسبب الفظائع التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حقهم.
وقد استعمل المحتلّون الفرنسيون مادّة النابالم الحارقة، وكانوا وراء “اختفاء” الآلاف. ولن يكون من السهل طي صفحة تلك السنوات المريرة. وجعلت الكتب الأخيرة جمهورا فرنسيا أوسع يدرك ما حدث بين عامي 1954 و1962، حيث تعمدت المناهج المدرسية إخفاء فضائع التاريخ.
ومنذ مطلع القرن الحالي، أعاد متحف الإنسان في باريس “تذكارات” استعمارية أو أنثروبولوجية سابقة إلى نيوزيلندا وجنوب أفريقيا. وفي 2011، عثر عالم الأنثروبولوجيا الجزائري فريد بلقاضي على أربعين جمجمة من بين 18 ألف مخزنة في متحف باريس وطالب بعودتها إلى وطنه.
لكن فرنسا لم تتحرك إلا بعد ارتفاع أصوات كبار المؤرخين مثل باسكال بلانشار وبنجامين ستورا مع عريضة نشرتها صحيفة لوموند اليومية في 2016. وخلال زيارته للجزائر في ديسمبر 2017، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه على استعداد لإعادة الجماجم إلى الجزائر. وفي يناير 2020، تقدّمت الجزائر بطلب رسمي لاستعادة الرفات ومحفوظات أخرى.
وبعد التكريم العسكري وعرضها في قصر الثقافة، دفنت الجماجم في مقبرة العالية إلى جانب الشهداء الآخرين، والأمير عبدالقادر والرؤساء السابقين.
فاضت المشاعر في الجزائر ولسبب وجيه. فعلى عكس تونس والمغرب المجاورتين، اللتين احتلتهما فرنسا في ما بعد تحت وضع “الحماية” ضمن وزارة الخارجية الفرنسية، انهارت الدولة الجزائرية وتمزق نسيجها المجتمعي إلى أشلاء. ولا تزال آثار الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر بادية حتى اليوم، فقد ظلّ أهلها “هباء منثورا” من البشر مثلما وصفها الجنرال ديغول بازدراء، ووكرا للصوص كما قال أحد المعلقين الإنجليز في 1728. وبغض النظر عن الأعذار التي قد تعتمدها فرنسا لتبرّر سلوكها السابق للجزائر، فإنّ على المجتمع الفرنسي وأيضا المجتمعات الإنجليزية والأميركية، أن تطّلع على تاريخها. ففي الوقت الذي كانت الليبرالية النامية، البرجوازية الأوروبية، تميل فيه إلى تقييد سلطة حكامها غير الخاضعة للمساءلة وتوظيف القانون لتقويض إساءة استخدام السلطة وحماية أبسط حقوق الشعوب، كانت تنتهك هذه المبادئ في تعاملها مع الشعوب التي استعمرت أراضيها.
واستمر هذا لأكثر من قرن. ولكن اللافت هو أن الضحايا هم الذين يعيدون كتابة التاريخ اليوم ليصوّروا انتهاكات المنتصرين السابقين، أي القوى الاستعمارية. أما في الشرق الأوسط الكبير، لا بد أن يحدث ذلك عاجلا أم آجلا، مع التاريخ الفلسطيني والصراع على الأرض المستمر مع إسرائيل.