الصحافة نوعان..فرقوا بينهما تفاديا للأحكام المسبقة
إيطاليا : عبد اللطيف الباز
بعيدا عن لغة التيئيس والتشاؤم، يمكن الجزم بأن أي شخص منا بمقدوره الوصول إلى مبتغاه، وتحويل حلمه إلى واقع ملموس، باحترافه المهنة التي يرتضيها لنفسه عن قناعة واختيار، كمزاولة التعليم أو المحاماة أو الطب أو الصحافة… بيد أن إحراز النجاح في الحياة الدراسية وتحقيق الرغبات والأهداف، لا يتمان بالتهاون والتواكل أو التطفل والانتهازية، بل يلزمهما التوفر على إرادة قوية، والعمل المستمر على تنمية الأفكار وتطوير المهارات وصقل المواهب، وتعزيز المكتسبات…
ويهمني هنا في هذه الورقة، الإدلاء برأيي المتواضع حول الهجمة الشرسة، التي تتعرض لها الصحافة/مهنة المتاعب، على أيدي بعض العابثين من الدخلاء والوصوليين، وإن كنت أعلم أن الموضوع أكبر من أن يوفيه حقه، شخص عاد مثلي ومن خارج المجال.
فالصحافة وسيلة اتصال جماهيرية ورسالة إنسانية، تضطلع بأدوار أساسية في التربية والتثقيف والتوعية، تعكس مشاعر المواطنين وآراءهم، ترصد الواقع بصدق، وتقوم على جمع ما استجد من وقائع وأحداث موثوق بها، سواء ارتبط الأمر بالحياة السياسية أو الثقافية أو الرياضية أو الاجتماعية، ومن ثم العمل على تحليلها بطرق علمية حديثة، وتقديمها إلى القراء على أمل إشباع فضولهم. وهي اليوم، غير ما كانت عليه بالأمس، بغض النظر عن نوعها: مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو إلكترونية. إذ عرفت تقدما كبيرا، جراء التطور التكنولوجي السريع، تستقي أخبارها بسرعة ودقة متناهيتين، من مصادر محلية وإقليمية ودولية، عبر وسائل عصرية متنوعة كالانترنت، الفاكس، التلكس والأقمار الصناعية…
ويفترض في الصحافي المقتدر أن يكون قد حصل على شهادة علمية عليا، أو خضع لتداريب إعلامية مكثفة، تخول له حق ممارسة المهنة. ويتعين عليه للقيام بدوره الاجتماعي، والانخراط في بناء المجتمع على أسس سليمة وحمايته من المؤثرات السلبية، أن يشعر بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، ويسهر على مضاعفة جهوده الشخصية في تنمية أفكاره وتطوير نفسه عبر تجارب ميدانية، بدل الاكتفاء فقط بما تلقاه من دراسات أكاديمية، ليتمكن من الكشف عن كل ما من شأنه تنوير الرأي العام، وتقديم مادة إعلامية ذات جودة عالية في إطار من التنافس الشريف والشفافية. وأن يمتلك خلفية سياسية وثقافية واقتصادية وتاريخية، تؤهله لفهم الشؤون الوطنية والدولية، ومواكبة التطورات السياسية والاقتصادية داخل البلاد وخارجها، والتقيد بمبادئ وقيم أخلاقيات المهنة، بتحري الدقة في مصادر معلوماته أثناء معالجة ما استجمعه من أفكار وأخبار، والاتصاف بالجرأة في تناول مواضيعه وإبداء الرأي بحرية، غير مبال بمضايقات واستفزازات السلطات الأمنية وغيرها، والتميز بالفضول المعرفي والحياد، والمهارة والكفاءة المهنية في التفاعل مع جمهور القراء، دون تحريف للحقائق أو إساءة أو تشهير بأي كان… والحرص الشديد على أن تكتسي كتاباته بالجدة والجدية، واقتراح البدائل الموضوعية، تفاديا للتكرار والملل.
وكما يوجد مهنيون من حملة دبلومات المعاهد العليا للصحافة، هناك أيضا فئة من المراسلين والمتعاونين، الذين عرفوا كيف يشقون طريقهم بثبات، ويستثمرون قدراتهم المعرفية في الاتجاه الصحيح، حيث استطاعوا بفضل الممارسة اليومية، والمثابرة والاجتهاد، والصبر ونكران الذات، والاحتكاك بذوي الخبرات، وتعميق معارفهم والرفع من مردوديتهم، أن ينقشوا أسماءهم في عالم الصحافة عن جدارة واستحقاق، إلى جانب إعلاميين مغاربة مرموقين. وهو ما وجدت فيه بعض المؤسسات الإعلامية فرصة ذهبية، لاستغلال ما يبذلونه من جهود جبارة، وتكليفهم ليس فقط بالعمل على تهييء مواد معينة، بل بالكتابة في شتى المجالات: سياسية، رياضية، اقتصادية… وحتى الإشراف على ملفات تربوية وثقافية وتدبيج الافتتاحيات أحيانا. كيف لا، وهم لا يكلفونها الكثير ماديا، ولا يترددون لحظة في تنفيذ الأوامر؟
والمثير للتذمر والاستياء، أنه في ظل تهميش وإقصاء الطاقات الخلاقة، من ذوي الضمائر الحية، ابتلت « صاحبة الجلالة » بنخبة من المتطفلين، الذين حولوا المشهد الإعلامي إلى مرتع للاسترزاق، وأفقدوه شرعيته ومصداقيته، ليعم الفساد والارتباك وسوء التدبير، وتسود الفوضى كافة مكوناته، مما ساهم في الإساءة إلى الحقل الإعلامي والعاملين الغيورين، وأفرغ رسالته الإنسانية من أبعادها التنويرية. إذ بدل تسخير الأقلام لخدمة المجتمع والانتصار لقضايا المستضعفين، وتقويض قلاع الفساد والاستبداد والانبراء لانحرافات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، صار الفوز بالمغانم والامتيازات وتحقيق المصالح الذاتية ضالة الكثيرين، فمنهم من استبدل قلمه بمعول هدام وأداة لإثارة النعرات الدينية والقومية خدمة لأجندات خاصة. ومنهم من انشغل بسرقة الأفكار والمقالات، وتلميع صور أسياده من المسؤولين والحكام، والهتاف بحياتهم في الصفحات الأولى من صحيفته، بحثا لنفسه عن « مظلة » والنجومية والمال…
والأسوأ من ذلك كله، هو ما صرنا نلاحظه من تناسل عشوائي للمواقع الإلكترونية، وانتشار فظيع للجرائد الورقية الجهوية والوطنية، ليس بغرض إثراء المشهد الإعلامي وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة، وتغذية العقول بالأخبار والتحاليل المجدية، اعتمادا على التقنيات التكنولوجية الحديثة في المجال الرقمي، وإنما بهدف التكسب واستمالة القراء وإثارتهم، عبر مواضيع لا تخلو من التفاهة الرداءة، وصور عارية لفنانات وبطلات أفلام أجنبية، واختلاق أخبار زائفة وجرائم خيالية…
وفي غياب الرقابة والمساءلة، يظل الخيط الناظم بين المواقع الإلكترونية والجرائد الورقية غير المسؤولة، هو ذلك الإسفاف المفرط في انتقاء الأطباق الفاسدة من مختلف الأجناس الصحافية، واستنساخ الأخبار بنفس العناوين والصور، بل بأخطائها اللغوية والإملائية والنحوية وركاكة أسلوبها…
ومن المؤسف جدا، أن تتحول الساحة الإعلامية إلى قبلة للفاشلين من منتحلي الصفة، الوافدين من شتى القطاعات: عمومية وخاصة، وهم في الغالب بدون مؤهلات علمية، وليسوا خريجي معاهد عليا للصحافة، كما لم يسبق لهم الاستفادة من دورات تدريبية بمؤسسات إعلامية، تجمعهم الانتهازية والرغبة الجامحة في الحصول على بطاقات، تمنحهم هويات صحافية مزورة، لاستخدامها في الابتزاز والنصب والاحتيال، عن طريق صناعة الإشاعات ونشر الأكاذيب والمغالطات، وتفجير النزاعات بين الأشخاص والمؤسسات، حتى صار المواطن البسيط غير قادر على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين الحق والباطل… وكثيرا ما تنتعش حركة هؤلاء « السخافيين » الجدد من مصورين ومحررين وتقنيين… خلال الأنشطة الرسمية والمواسم الصيفية، وإبان التظاهرات الحزبية والرياضية والثقافية، وتنظيم المهرجانات الفنية والتراثية…
وكما هي حاجتنا ملحة، إلى صحافة إلكترونية وصحف جهوية هادفة، سيما بعد الشروع في تنزيل الجهوية المتقدمة، فإننا في حاجة أيضا إلى إعلام مواطن، يتميز المنتسبون إليه بمهنية عالية، يخدم قضايا المجتمع اليومية والمصيرية، ويقيه شر انزياحات المندسين، الذين لا يلتزمون بالقيم الوطنية وضوابط المهنة واحترام أخلاقياتها. وفي انتظار ارتقاء صحافتنا إلى مستوى تطلعاتنا، عبر تحسين أداء العاملين والرفع من جودة المنتوج، فإن الأمل معقود على دعمها وتأهيلها، تطوير القوانين المنظمة لها وضمان حرية التعبير، إرساء قواعد حكامة جيدة وتأطير الموارد البشرية، إقرار التربية على الإعلام بالتعليم الأساسي، وإحداث آليات حديثة لتنظيم المهنة وتطهيرها من « الطفيليات