آن الأوان لكي نكفّ عن الاعتقاد بأننا خير أمّة
لقد تغير العالم وتمازجت الثقافات أكثر فأكثر وتلاقحت الأفكار من شرق الأرض إلى غربها، ما يبشر بولادة عالم جديد أكثر تماسكا، لكن المفارقة أن هذا الواقع الجديد رافقه ظهور موجات تطرف هنا وهناك، ممن يرفضون الآخر إما خوفا على ثقافاتهم أو انغلاقا على ذواتهم أو جهلا بحتمية التطور. ومن هنا كان لا بد من البحث في طرق تحقيق الانفتاح على الآخر وخاصة من خلال تجاوز حواجز الاختلاف الديني.
أكد حمادي المسعودي، الباحث المتخصص في الدراسات المقارنة للأديان، أنّ جهل “الأنا” لدين “الآخر” والتعصّب الديني، والقول بالحقيقة المطلقة، وعدم الاعتراف بحقّ الاختلاف في الرأي والاعتقاد، كلّها عوامل مغذّية للتطاحن والإرهاب، وإنّ ما شهده تاريخ البشرية قديماً وما يشهده في بداية القرن الحادي والعشرين من إرهاب دينيّ كان ناتجاً عن غياب هذه القيم: معرفة دين الآخر والتسامح الديني والقول بنسبية الحقيقة والاعتراف بحق الاختلاف في الرأي والمعتقد وبحق الإنسان في الحياة.
وقال في كتابه “الظاهرة الدينية من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن” إنه قد “آن الأوان لكي نكف عن الاعتقاد بأنّنا ‘شعب الله المختار‘، وبأنّنا خير أمّة أخرجت للناس، وبأنّ كتابنا المقدّس هو القسطاس به نزن الكتب المقدّسة الأخرى، وبأنّ نبينا هو أفضل الأنبياء في الوقت الذي صرنا نشاهد فيه، في أغلب البلدان الإسلامية، الأرواح تُزهق والرؤوس تُحَزُّ وتُرْفَعُ في الأيادي أو تُعلّق، والمعالم الأثرية الشاهدة على حضارة الإنسان عبر التاريخ تُهدم… وكان كلّ ذلك يقع مسوَّغاً ومُبَرَّراً بعبارة ‘الله أكبر..‘. إنّ الأديان لم تأتِ للدمار والخراب والموت، وإنّما جاءت بالحياة والأمل وتعمير الكون وبالحفاظ على حياة الإنسان في جسده وعرضه وماله”.
ضد انغلاق الذات
يستهدف المسعودي في كتابه، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الارتقاء بدراسة المسألة الدينية خاصّة، والمسألة الحضارية عامّة، إلى مرتبة الدرس العلمي الذي يتأسّس على رؤية علمية موضوعية ومنهج واضح المراحل ومفاهيم دقيقة، ومن ثم وزّع الكتاب إلى أربعة فصول تدور كلّها على علم الأديان بداية بمدخل نظري ميّز فيه علم الأديان المقارن من علم اللاهوت وعلم الأديان، وركّز على الأسس والشروط التي ينبغي أن تتوافر في العلم المقارن للأديان. ونبّه الباحث إلى ما دخل المصنّفات العربيّة والإسلامية والدراسات الاستشراقية من نقائص.
أمّا الفصول الثلاثة اللاحقة فبُنيت على عمل إجرائيّ تطبيقي، يدرس حضور العهد القديم ولاسيما أسفار التوراة في النّصوص الدينية الإسلامية قرآناً ونصوصاً حافة، ويعالج استحضار القرآن وكتب التاريخ والقصص للنصوص الدينية المسيحية القانونية وغير القانونية، فبيّن في الفصلين كيفيات التفاعل بين جميع هذه النصوص والتحويلات التي طرأت على النصوص الأصول بعد حلولها في النصوص الدينية اللاحقة. أمّا الفصل الرابع فاتّصل بالبحث في متخيّل ظاهرة النبوّة وعالم ما بعد الموت بنعيمه وجحيمه. فدرس تمثّلات النصوص المقدّسة خاصّةً، والنصوص الدينية عامّةً للإشكاليّتين، ومختلف الصّور التي رُسمت لهما. وكنّا نروم تبيّن البناء المتخيّل الذي أقامه الإنسان للنبوّة وللعالم الأخروي والعناصر التي استحضرها لإقامة هذا البناء الضخم وذي الموادّ المتنوّعة.
تحكم رجال الدين بالأفراد بات مرفوضا بسبب التقدّم الذي حقّقته البشرية في مجال الحقوق والحريات الفردية والجماعية
وأسف المسعودي على أنّ البحوث المقارنة وكذلك التعليم المقارن بين الأديان والثقافات المختلفة ليسا وارديْن الآن في مجال التقسيم الشائع للموضوعات الدراسية ولا في برامج التعليم الثانوي ولا حتى الجامعي. كلّ جهة تكتفي عموماً بتدريس دينها أو تراثها كأنّه حقيقة مطلقة ولا شيء غيره في العالم. ولهذا السبب يستطيع المتطرّفون استخدام هويات مرقعة أو “قيم” موضوعة بمنأى عن أيّ تحليل نقدي من أجل خلع المشروعية على الحروب المتكرّرة بين أعداء في المجتمع نفسه، أو بين دول مختلفة على الصعيد العالمي “انظر ما يحصل بين السّنّة والشيعة مثلاً، أو بين أميركا والقاعدة وطالبان”.
وشدد على أن انغلاق الذات ودورانها على دينها وتراثها يؤدّيان إلى ضيق أفق التفكير، وإلى التعصّب الأعمى، ومعاداة “الآخر”، في حين أنّ الانفتاح على دين “الآخر” ومقارنته بالأديان الأخرى يؤدّيان إلى سعة المعرفة وإلى التسامح وقبول المخالف في الملّة.
وقال “إنّ العرب والمسلمين مطالبون اليوم بالمعرفة الجديّة والمعمّقة للديانات الأخرى، ولاسيما اليهودية والمسيحية، وما لم ينهضوا بذلك يكونون قد وضعوا سدّاً منيعاً أو حجاباً سميكاً بينهم وبين الإسلام عامّة، وبينهم وبين القرآن خاصّة، ولن يفهموا الفهم العميق الكثير من المقاطع القرآنية؛ بل إنّنا نذهب أبعد مدى ممّا ذكرنا، فنقول إنّ المسلمين لن يفهموا نصّهم المقدّس ما لم يقرؤوا النصوص المقدّسة السابقة القانونية وغير القانونية؛ لأنّ القرآن يستحضر جميع هذه النصوص في مقاطع تطول وتقصر وبطرق مختلفة، منها ما هو خفيّ، ومنها ما هو ظاهر”.
ويرى المسعودي ضرورة استفادة الدراسات العربية والإسلامية من مناهج العلوم الإنسانية بصفة عامة، ومن منهج علم الأديان المقارن بصفة خاصّة، بعد أن أضحى من اليقين أن النصّ القرآني والنصوص التي دارت عليه في مختلف الحقول المعرفية نُصُوص جامعة احتوت داخلها على روافد نصّية مختلفة المرجعيات والثقافات. وقد صار من اليقين أيضاً أنّ فهم النصّ القرآني والنصوص الحوافّ يقتضي العودة إلى نصوص سابقة تاريخياً للتراث العربي والإسلامي لتبيّن النصوص المستحضرة من ثقافات أخرى وكيفيات استحضارها والتحويلات التي أُلحقت بها لتنسجم مع طبيعة الثقافة التي انتقلت إليها تلك النصوص.
ويضيف “إنّ هذا العامل يقتضي من قارئ هذه النصوص ومن المقارن بينها أن يكون عالماً بنصوص المخالف له في الملّة، عارفاً تفاصيلها، مُلمّاً بمكوّناتها علمه بنصوصه ومعرفَتَه لتفاصيلها وإلمامَهُ بمكوّناتها. ومن شأن هذا العلم وهذه المعرفة وهذا الإلمام أن يُساعد القارئ على فهم نصوصه الدّينية، فيدرك أنّ الأديان يستعير بعضها من البعض الآخر، وأنها تشتمل على قواسم مشتركة دون أن ينصهر أحدها في الآخر، وأنّ الحقيقة الدينية ليست مطلقة، لذلك لا يمكن أن تكون مقصورة على دين دون دين”.
ويتابع أن “الأديان كلها صحيحة، وأنّ كلّ دين يحمل جوانب من الحقيقة وليس كل الحقيقة. ومن شأن هذا التصوّر أن يجعل قارئ النصوص المقدّسة متفهّماً لما يثوي داخلها من تشابه وتباين دون السقوط في الأحكام المعيارية الممجّدة لدين الذات والمستهجنة لدين ‘الآخر’. وهذا يمثّل أحد الأسس، التي ينهض عليها العلم المقارن للأديان، وهو الحياد الديني الذي بغيابه تغيب الدراسة العلمية الموضوعية للمسألة الدينية”.
الدراسة المقارنة
يشدد المسعودي على أن العلم المقارن للأديان يقتضي من القارئ أن يُنصت إلى ما يمكن أن ينطق به النصّ دون تعسّف عليه بإسقاط أفكار استُدعيت من خارجه، ودون أن يكون حاملاً لأيّ خلفية أيديولوجية من شأنها أن تؤثّر سلباً في توجيه قراءة النصّ نحو فهم مُسْبَقٍ يحمل دلالة مخصوصة نشأت في ظروف وسياقات تاريخية وثقافية مختلفة عن الظروف والسياقات التاريخية والثقافية المعيشة اليوم، فأنظمة الرقّ والاستعباد والجزية وعدم المساواة بين الرجل والمرأة، وتحكّم المؤسّستين الدينية والسياسية في حرية الإنسان، واستناد البشرية في تنظيم شؤونها إلى النصوص الشرعية، أضحت مرفوضة منذ ما يزيد على القرنين بسبب التقدّم الذي حقّقته البشرية في مجال الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحرية المعتقد.
وقد تبيّن لنا أيضاً أنّ البحث في المكوّنات النصية/الطبقات النصّية التي منها نُسجت الأسفار المقدّسة يمثل محوراً من المحاور الرئيسة في الدراسات المقارنة، لكنّ البحث يتجاوز هذا المستوى؛ لأنّ المهمّ في هذه الدراسات ليس الاكتفاء بتبيّن المصدر لهذا النصّ أو لذاك فحسب؛ بل الأهمّ من هذا هو معرفة كيفيات حلول هذه النصوص الوافدة في الثقافة المتقبّلة أو المنقول إليها. وقد أبرز لنا المنهج المقارني أن الثقافة المتقبّلة للنصوص الوافدة قد أدخلت تعديلات وتحويلات عديدة على هذه النصوص حتى تنسجم المقاطع الوافدة مع خصائص الثقافة المنقول إليها.
ويشير إلى أن البحث المقارني أبرز أنّ الإنسان خلق مقدّساته ومعبوداته آلهة وطقوساً شبيهة به في الفكر والشعور والرغبة، فكان هذا الخلق متأثراً بمختلف الظروف التي ابتُدع فيها، وبذلك تحوّلنا من مقولة: إنّ الآلهة “خلقت الإنسان على صورتها وصوّرته فأحسنت صورته” إلى القول “إن الإنسان خلق آلهته على صورته فأحسن صُوَرَها”، ومن مقولة الآلهة المُنْعِمة على البشر بخيراتها إلى مقولة الإنسان المسبغ على الآلهة أنفس القرابين والهدايا.
وقد أكّد علم الاجتماع الديني منذ إميل دوركايم أنّ الدين فعل جماعيّ اجتماعي، ومثل هذه الأطروحة تؤكّد أن صناعة المقدّس هي من إنتاج الإنسان في الأرض، وليست من وحي الآلهة في السماء، لذلك كان تصوّره لمعبوداته موصولاً بالواقع اليومي المعيش، فالآلهة تطلب القرابين الثمينة، وتفرض تقديس الإنسان واحترامه لها “أي: الآلهة”، وتشعر بالرّضا والغضب، وتعِد وتتوعّد، وتعاقب وتُثيب، وتسكن في الأرض؛ ثم رفعها الإنسان إلى السماء بعد بلوغه درجة معيّنة من التفكير الذهني المجرّد.