هل يُشفق الوطن يوماً على أبنائه العالقين ويسترجعهم من أحضان رجل غريب اسمه “غُربة”!

متجولاً فى شوارعها وأزقتها محدقاً فى تلك الوجوه وتلك التفاصيل الغريبة التى تأخذ بعقلى وقلبى إلى عالم آخر، أبحث فى تلك التفاصيل وتلك الوجوه عن أبي وأمي ، زوجتي و أطفالي ، أتامل تلك الأزقة والشوارع لأبحث فيها عن عنواناً لأبيت فيه و لكن دون جدوى لا أدري من فينا الذى أضاع الآخر!، لعل كلامي يكون مريباً ولكن لا تتعجب يا صديقي فتلك هى الغربة التي جعلتني حكومتي مجبرا للإستمرار في عيشة مظلمة بدون أي صديق و حبيب حيث كل ما هو غريب وعجيب وأيضاً كل ما هو مؤلم. في الغربة التي أصبحت عالقا أنتظر فتح الحدود لا تستطيع أن تدعي أمتلاكك لشىء، البيت الذى تسكنه غداً تسكن غيره والمدينة التى أحببتها غداً تغادرها والأصدقاء الذين تعالت أصوات الضحك معهم تأتي أمواج الحياة لتفرقكم.

تعلمت في فترة الحجر الصحي أن الاستقرار العاطفي والمكاني هما ميزان صحة الإنسان فإن للمغترب حياة وهو يعيش فوق الماء حيث لا أرض يابسة يضع عليها رجليه، في الغربة تشعر أن الوقت يمضى سريعاً ومعه تمضى الحياة وبينهما مشاعر مكبوته تكاد تصيبك بالاختناق، في الغربة خصصوا مكاناً لكل شىء إلا البكاء وباعوا كل شىء إلا العاطفة واخترعوا دواء لكل شىء إلا الحنين. فى الغربة أنت أعمى.. لعلك تتعجب يا صديقي القارىء من هذا الوصف ولكن إن كنت سائحا  و أصبحت متشردا في بروكسيل ستعرف أن الأعمى يكون لديه قدرات خارقة تتجاوز المبصرين من حيث الشم والسمع واللمس، فى الغربة همس خفيف أو رائحة عطر أو ربما لمسة رقيقة قد تذهب بك إلى عالم آخر، لا تتعجب فأنا مجرد سماع أصوات عجلات شنطة سفر على بعد أمتار منى يصيبنى بنوبة اكتئاب لأن هذا الصوت يُذكرنى بفتح الحدود  الذى أحلم به ليل نهار ، رائحة عطر فى السوق تشبه عطر أمي قد تجعلنى أذرف الدموع رُغماً عني.

في الغربة زوجتك تكون أماً وبنتاً ومعشوقةً وبالنسبة لها كل الرجال أنت، فكلاكما للآخر عالمه بدايته ونهايته. في الغربة الزوجة جيش بل وطن بل أمة كاملة تحتمى تحت رايتها من سهام الآلم ومرارة الوحشة..هذا ليس حالي و أنا غريب بدون زوجة و لا أي و لا أم .

صوت طائرة تُحلق في السماء يجعل الحنين يجتاح قلبي، تلك التفاصيل قد تكون عادية لملايين الناس الذين أعيش بينهم أما أنا فلطالما كان الأمر مختلفا، ألم أقل لك أنك في الغربة أعمى ترى ما لا يرون وتشعر بمالا يشعرون. عندما تسافر لأول مرة ستكتشف أنك تجمع ذكرياتك وأيامك فى شنطة تحملها وتمضي، كثيراً ما كنت أودع المسافرين إلا أننى لم أكن أعرف أن حرارة الوداع تبلغ ذروتها حينما تكون أنت المودَّع، تأخذ أيامك وذكرياتك وتحملها على متن طائرة وتمضي إلى مجهول و تمكت فيه في إنتظار صناع القرار ، تشعر حينها أنك نصف نائم فجسدك حتى يستوعب تلك العملية لابد له أن ينام فلو استيقظ حينها لما استطاع ركاب الطائرة أن يناموا من نحيب روحك وبكائها.

في الغربة حكايات وقصص لكل فصل أبطاله وحكاياته ومشاعره حتى صور هاتفك ستجد أنها مزيج من مشاعر مختلطة من بين صور يملؤها الحنين وصور يملؤها البكاء وصورة أو اثنتين قد إلتقطها خِلسة وأنت تضحك من قلبك، الغربة خط فاصل، فحياتك قبل أن تسافر قصة وبعد السفر رواية، الغربة لا تعرف يا صديقي وسطية المشاعر، فمشاعرك تشبة طقس جزيرة العرب، أمطار البكاء تكون هوجاء ونسمات الفرحة تكون عاتية حتى الحب فى الغربة له مذاق خاص، عندما تحب فى وطنك فإنك تبحث عن زوجة تحبها تفتح لك بيتاً وتُربى لك أولاداً، يكون الأمر بسيطاً إلى حد ما، أما فى الغربة فإنك تبحث عن رفيقاً يرافقك فى طريق لطالما كانت أشواكه أكثر من أزهاره، قال لي صديقي يوماً “في الغربة أنت لا تبحث عن فتاة تحبها، أنت تبحث عن وطن يأويك”، بهذه الصورة لخص صديقى معنى الحب للمغترب، فى الغربة تقتربان لدرجة التشابك، تتشابك أيامكم وتفاصيلها تتشاركان الوجع بقطراته والفرح بضحكاته، يشعر كلاً منكما بمسؤولية حثيثة تجاه الآخر، في الغربة زوجتك تكون أماً وبنتاً ومعشوقةً وبالنسبة لها كل الرجال أنت، فكلاكما للآخر عالمه بدايته ونهايته. في الغربة الزوجة جيش بل وطن بل أمة كاملة تحتمى تحت رايتها من سهام الآلم ومرارة الوحشة..

عند عتبة المطار وقبل إقلاع الطائرة بدقائق وأنا أحتضن أبى همس فى أذنى قائلاً “لا تأخذ الماضى معك فإن الحمولة زائدة” وسَلَّمَ علي ومضى، لم أعي ما قال جيداً ونسيت الكلمة ومضت أيام أجازتي ببروكسيل و غلقت الحدود وكلما وقعت فى ضائقة أو كرب تكالب عليا الماضى وكأنه وحش يخنقنى يُذكرنى ببيتنا وشارعنا يُذكرنى بسهرات الأصدقاء وتجمعات العائلة، يُذكرني بحضن أم وكتف أب كنت أتخذ منهما عُكازاً أستند عليه، تذكرت كلمة أبى “الحمولة زائدة”، وكأن تلك التفاصيل هي التي كانت تخفف الحمولة عني والآن أنا أحملها وحدى فلذا هي زائدة، الغربة قهوة سادة تكمن مرارتها في ذاتها، قد تكون أيامك جميلة الشوارع نظيفة والجيران لطفاء والسماء زرقاء وأكمل أنت يا صديقي القافية ولكنها تبقى غربة “مرارتها فى ذاتها”، النّاس تحسدك دائماً على شيءٍ لا يستحقّ الحسد، حتّى على الغربة يحسدونك، وكأن التشرّد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً. فالغربة يا صديقي فاجعة يتم إدراكها على مراحل، ولا يستكمل الوعي بها إلا بانغلاق ذلك التّابوت على سؤال لطالما لم يكن له إجابة، هل يُشفق الوطن يوماً على أبنائه العالقين ويسترجعهم من أحضان رجل غريب اسمه “غُربة”!

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: