الوباء يزيد من جحافل العاطلين في الحزائر

الوضع من سيء إلى أسوأ

فاقمت الإجراءات الوقائية من وباء كورونا أزمات الجزائر الاجتماعية والاقتصادية. وتسببت الظروف الاستثنائية في إنتاج بؤر توتر اجتماعي جديدة تنضاف إلى جحافل قديمة تعاني الفقر والبطالة ثارت على نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. وباتت أعداد العاطلين عن العمل في القطاعات الموسمية والحرفية تقدر بالملايين. وتتهم هذه الفئة مؤسسات الدولة بتجاهلها وعدم التفكير في مصيرها على شاكلة موظفي القطاع العام الذين يتمتعون برواتبهم إلى الآن رغم مرور أربعة أشهر على بداية أزمة كورونا.

دفعت جائحة كورونا بطوابير جديدة إلى جحافل العاطلين عن العمل في الجزائر، بعدما أقرت الحكومة منذ منتصف شهر مارس الماضي، حزمة من الإجراءات الوقائية، شلت العديد من الأنشطة المهنية والحرفية، وسط استفهامات حول مصير تلك الفئات الاجتماعية، التي كانت تكسب رزقها من مهن موسمية وحرف يدوية.

ويمكن وصف حميدو مشان (40 عاما) من العاصمة، بالنموذج اللافت في التكيف مع جميع الأوضاع وترصد الفرص والمواسم المعيشية، إلا أن جائحة كورونا أحالته على بطالة مفتوحة، رغم أنه لم يتأثر بذلك في توفير الحاجات الضرورية لأفراد أسرته، إلا أنه يعد مثالا حيا على فئة اجتماعية مسكوت عنها في الجزائر.

ولأن أفراد هذه الفئة المهمشة يعيشون في صمت وعلى هامش الأضواء، فإنهم الآن يواجهون مصيرهم لوحدهم دون أن يلتفت إليهم أي أحد من المسؤولين. وبات أملهم الوحيد في زوال الوباء وعودة الحياة العادية.

موسم الفرص الضائعة

يعد حميدو مشان، من بين العمال الموسميين، الذين يترصدون الفرص لكسب رزقهم وإعالة أسرهم، فكان بالإمكان بحسب قوله لـ”أخبارنا الجالية” أن يجد في تجارة الحلويات التقليدية خلال شهر رمضان أو حتى “السمسرة” في بيع أضاحي عيد الأضحى ملاذا آمنا، لكن الإجراءات الوقائية من كورونا فوتت عليه كل تلك المواسم.

ولأن المسألة تتعلق بمصدر رزق عائلة، فإن مشان، متابع وفي لتحاليل المختصين بشأن الوباء، على أمل الاستفاقة يوما ما على خبر زوال الوباء وعودة الحياة العادية، من أجل العودة إلى نشاطه ورزقه الذي افتقده منذ نحو أربعة أشهر.

وإلى أن تعود الحياة إلى طبيعتها في الجزائر سيجد البلد نفسه أمام أرقام جديدة في مؤشرات الفقر والبطالة التي أفرزها الوباء منذ الدخول في إجراءات الوقاية منتصف شهر مارس الماضي، حيث كانت المهن الموسمية والحرف اليدوية من أكبر ضحايا الجائحة وإجراءات الحكومة.

وإذا حافظت التدابير الوقائية على إجراء الإجازة المدفوعة الأجر لموظفي القطاعات الحكومية، فإن تفريطها في الفئات العاملة لدى القطاع الخاص، والناشطين في المهن الموسمية والحرف اليدوية التي عصفت بها الجائحة، دفع بأصحابها إلى جحافل البطالة قبل دخولهم دائرة الفقر.

وفي ظل غياب إحصائيات رسمية عن العمالة الهامشية أو الموازية، فإن تقديرات مختصين ذهبت إلى نحو ثلاثة ملايين عامل في المهن الموسمية والحرف اليدوية تضررت كثيرا من الوباء وتحولت تدريجيا إلى بؤرة توتر اجتماعي تفاقم متاعب السلطة في مواجهة الاحتجاجات المتصاعدة خلال الأسابيع الأخيرة.

تكلفة الحجر

استفهامات حول مصير الفئات الاجتماعية التي كانت تكسب رزقها من مهن موسمية وحرف يدوية
استفهامات حول مصير الفئات الاجتماعية التي كانت تكسب رزقها من مهن موسمية وحرف يدوية

ولم يكن عبدالكريم (34 عاما)، الحرفي في الجبس، يعرف أن كورونا سيقذف به إلى شراك البطالة وانقطاع الدخل بعد أربعة أشهر من الحجر المطبق في البلاد، فقد كان يعتقد في البداية أن الأمر لا يتعدى حدود أسابيع محدودة، إلا أن استمرار التدابير أفقده رصيده الذي كان يختزنه للأيام السوداء أو المناسبات، وبات على أعتاب المجهول.

وذكر في حديثه لـ” أخبارنا الجالية، أن “حرفته مرتبطة بحركية قطاع البناء في الورشات ولدى الخواص، ولأن البلاد صارت في حالة شلل تام، فإنه وجد نفسه عاطلا منذ الأيام الأولى لدخول الإجراءات الوقائية حيز التنفيذ”.

ولفت إلى أن الوضع الاجتماعي للكثير من أمثاله بات صعبا ومعقدا، وأن السلط المختصة لم تلتفت إليهم بالمساعدة أو التكفل لحمايتهم وتأمين حياة كريمة لهم، عكس عمال وموظفين آخرين ينتسبون للوظيفة العمومية، احتفظوا برواتبهم رغم دخولهم في إجازة مفتوحة.

ورغم تفاوت التأثير بين حرفيي المهن اليدوية وبين العمالة الموسمية، إلا أن تقارير محلية أشارت إلى تضرر فئات واسعة من المجتمع جراء الحجر الصحي المطبق في البلاد منذ عدة أشهر، وعددت منهم الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة وحرفيي البناء والبلاط والدهن وعمال المقاهي والمطاعم والفنادق.. وغيرهم.

وفيما يأمل هؤلاء في العودة إلى ممارسة مهنهم، فإن أصحاب المهن الموسمية لم يبق أمامهم إلا انتظار مواسم قادمة، وحتى فرصة عيد الأضحى التي كان يستغلها بعضهم في مهنة الوساطة في أسواق بيع المواشي تكاد تتبخر في ظل مؤشرات عن استمرار غلقها إلى أجل غير مسمى.

جحافل جديدة

نقل تقرير لوكالة الأنباء الرسمية في الجزائر، عن عينة استجوبت في عاصمة غرب البلاد (وهران)، بأن أثارا وخيمة ظهرت على فئات اجتماعية عديدة في المدينة التي يقيم فيها نحو مليوني ساكن، وذلك بسبب استمرار تدابير الحجر التي استنزفت مدخرات الفئات الهشة وعلى رأسها العمال الموسميين وأصحاب الحرف اليدوية.

وذكر حلاق في ضاحية بئر الجير شرق المدينة “لقد كانت في البداية مجرد صدمة بسيطة، لكن وبعد مرور عدة أشهر استنفذت كل مدخراتي ولم يعد أمامي إلا الاقتراض لإعالة أفراد العائلة وتوفير الحاجيات الضرورية، ورغم رفع الحظر عن الحرفة إلا أن الارتباك الاجتماعي لا يزال قائما والمحل لم يعد يعج بالزبائن كما كان في السابق”.

وذكر محمد (52 عاما) العامل المتعدد الحرف، بأنه “رغم قناعتنا في أول الأمر بأننا سنتغلب على هذه المحنة عاجلا أم آجلا، إلا أنه مع مرور الوقت اعترف أن الوضع صار أكثر صعوبة وتعقيدا، فلقد حاولت خلال شهر رمضان بيع الزلابية والحلويات الشرقية، إلا أن حظرها أحالني على البطالة، وكنت انتظر فرصة العيد للاشتغال في سوق المواشي إلا أنه لا شيء تغير إلى حد الآن”.

ويضيف تقرير الوكالة بأن تطبيق الحجر المستمر والمتفاوت بين المحافظات والمدن حسب الوضعية الوبائية، قد عصف بمختلف المهن والحرف وأحال جحافل كبيرة على ساحات البطالة والفقر، وأن غياب تكفل حقيقي ومنظم بتلك الفئات أفرز أوضاعا اجتماعية صعبة.

ونقل عن غرفة التجارة والصناعة، المسؤول عن خلية الأزمة لناحية وهران رشيد شرشار، قوله “الوضع مع الحجر الصحي يبدو صعبًا بالنسبة للعديد من القطاعات بما في ذلك قطاعات البناء والأشغال العامة والخدمات على غرار السياحة، واستدل بمؤسسة خاصة كانت توظف نحو 400 عامل، وتحوز عدة ورشات لإنجاز تجهيزات عامة بعدد من مدن غرب البلاد، ورغم التقيد بآجال تسليم محددة، إلا أنها تتواجد في حالة شلل تام، بسبب التداعيات التي أفرزها الوباء على النشاط الاقتصادي والخدماتي”.

وأضاف المتحدث، بأن “الشركة دفعت في بداية الأمر رواتب العمال، إلا أنها عجزت عن ذلك في الأشهر الموالية، ولم تسجل أي تدخل للجهات المختصة لمساعدة الشركة أو العمال رغم الوعود التي أطلقتها السلطة المركزية”.

الطبقة الصامتة تتحدى في صمت

فئة مهمشة تعيش في صمت
فئة مهمشة تعيش في صمت

يعد هذا النموذج عينة حيّة من قطاعات اقتصادية وخدماتية دخلت في أزمة معقدة بسبب وباء كورونا، وكان العبء أثقل على الطبقة العمالية، وإذا كان لهؤلاء أمل التعويض أو التدخل لتخفيف الآثار الناجمة عن الجائحة العالمية، إلا أن الأمر يكون أكثر تعقيدا للنوع الآخر من العمالة الموسمية.

ويشكل غياب التأطير لهؤلاء، أبرز عائق أمام إحصائهم أو إطلاق بطاقات اجتماعية لهم، فلا نقابة ولا جمعية ولا منظمة تهتم بأوضاعهم المهنية والاجتماعية، وفي الغالب يدرجون في خانة الفئات الهشة التي تتلقى مساعدات رمزية في المناسبات والأعياد، لكن لا أمل لهم في التكفل بهم أو مساعدتهم في هذا الظرف الاستثنائي.

وحول سؤال في هذا الشأن لحميدو مشان، أكد بأنه “لم يتقدم يوما إلى مصالح البلدية لطلب مساعدة اجتماعية، لأنه يعتمد في حياته على نفسه وعلى ابتكاره الشخصي، ولا ينتظر مساعدة من أي جهة في ظروف الوباء”.

وهذا التصريح يعكس تفكيرا مقتنعا بحياة الهامش. واختصر الجواب بقوله “نحن ‘حشيشة طالبة معيشة’” وهو مثل شعبي يضرب في الجزائر عن القناعة والرضا بالنصيب، وعدم القدرة أو الاستعداد لإثارة اهتمام الآخرين من أجل غاية ما.

ويصف منسق ناحية وهران في اتحاد التجارة والحرفيين الجزائريين عابد معاذ، الوضع بـ”المقلق” نتيجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لوباء كورونا، حيث بات أكثر من 15 ألف عامل على حافة الفقر نتيجة البطالة القسرية التي فرضت عليهم، وهو رقم مخيف إذا انضاف إلى إحصائيات أولية في عموم محافظات ومدن الجمهورية، مما يشكل رافدا قويا للاضطرابات الاجتماعية في البلاد.

وإذا غلب الطابع المرتبك في تسيير شؤون الأزمة الصحية وتداعياتها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، فإن الأمر يختلف في منطقة القبائل حيث يدخل عادة نظام “تاجماعت” (مجلس لأعيان القرية)،على خط الأزمات والأوضاع الاستثنائية، كبديل لجهود المؤسسات الحكومية.

نموذج فريد للتضامن

يرى في هذا الشأن أستاذ الأنتروبولوجيا في جامعة تيزي وزو عزالدين كنزي، بأن “الدور الفعال الذي تلعبه ‘تاجماعت’ (مجلس القرية) في تنظيم الحجر الصحي عبر منطقة القبائل منذ ظهور وباء كورونا، يؤكد على نجاعة التنظيم في إدارة الأزمات والكوارث”.

ولفت إلى أن التنظيم المتوارث في مجتمع البربر يعبر الأجيال، ويبقى حافظا للتضامن بين الأشخاص في الأزمات والكوارث، قبل قدوم المؤسسات الحكومية، وعادة ما يكون دوره مكملا وحتى بديلا للآليات الرسمية، ولذلك تغيب مظاهر التفاوت الاجتماعي أو تضرر البعض كما هو مسجل في بعض مناطق البلاد.

وأشار أستاذ الأنتروبولوجيا، إلى أن “‘تاجماعت’، هو تنظيم اجتماعي في كل قرية من قرى المنطقة، يتشكل من الأعيان والعقلاء، لتسيير شؤون المجتمع المحلي، وتنظيم الحياة في الحالات الاستثنائية في الأزمات والكوارث”.

وأضاف “التنظيم هو تقليد متوارث في المجتمع البربري، وأحد معالم الهوية والعمق التاريخي والهوياتي للمنطقة والاتحاد المتجذر في العمق التاريخي والثقافي للمنطقة، وظهر ذلك في تجندها خلال الجائحة التي تضرب البلاد والعالم، عبر مخطط عمل مدروس يتم بالتنسيق مع الجمعيات المدنية والمؤسسات الحكومية”.

تقديرات جديدة  تشير إلى بلوغ عدد العاطلين نحو 3 ملايين ما يفاقم متاعب السلطة في مواجهة الاحتجاجات

وتابع “في الغالب لا تظهر أثار وخيمة في المنطقة خلال الأزمات والكوارث بفضل نظام ‘تاجماعت’، الذي يسهر على ضمان التوزيع العادل للإمكانيات والتكفل بمختلف الوضعيات، وتم تعبئة أفراده في مراقبة حركة الدخول والخروج من القرى، وتوفير وتوزيع مواد التعقيم والتنظيف ومستلزمات الوقاية، فضلا عن التكفل بالحالات الاجتماعية المتضررة نتيجة فقد أصحابها لمناصب العمل، أو شح مداخيلهم لتقلص فرص الشغل في المهن الموسمية والحرف المختلفة”.

وعادة ما يتوفر مجلس كل قرية على حساب مالي تضخ فيه مساهمات شهرية للسكان وتبرعات الميسورين، من أجل توظيفها في الصالح العام للقرية وتوفير الخدمات كالماء والنقل المدرسي وتزويج الفقراء وبناء المساجد، والتكفل بالمعوزين أو المتضررين كما هو جار الآن بسبب وباء كورونا.

ويرى في هذا الشأن الأستاذ عزالدين كنزي، بأن “الدور الفعال الذي لعبته وتلعبه ‘تاجماعت’ (مجلس القرية) في تنظيم الحجر الصحي عبر منطقة القبائل منذ ظهور وباء كورونا، يؤكد على نجاعة التنظيم في إدارة الأزمات والكوارث”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: