روتيني اليومي: “يوتيوبرز” يثبتن الصورة التقليدية للمرأة العربية
طرق تحضير الوجبات صارت شيئا من الماضي
دفع الهوس بتحقيق الربح السريع الكثير من السيدات والفتيات لنقل تفاصيل من حياتهن اليومية إلى موقع يوتيوب، لكن روتين البعض منهن اليومي فتح جدلا واسعا بسبب تقديمهن لفيديوهات تعزز تسليع جسد المرأة عبر تمرير محتويات تافهة تشجع على الإباحية.
يُعرف اليوتيوبرز على أنهم صانعو محتوى على موقع يوتيوب، الذي فتح لهم منصة لنشر فيديوهاتهم، وجعل منهم نجوما يقتدى بهم، وهو ما ساهم في ظهور الكثير ممّن يعرضون تفاصيل حياتهم اليومية عبر قنواتهم، ممررين مصطلحات بعضها غير مرغوب فيه، بالإضافة إلى العديد من السلوكيات التي قد لا تتوافق مع مجتمعاتهم.
ووجدت بعض السيدات والفتيات في نشر فيديوهات تحت وسم ما يعرف بـ”روتيني اليومي” على يوتيوب نافذة يستقطبن من خلالها قطاعا واسعا من الجمهور، يتابع مختلف تفاصيل نشاطاتهن اليومية باهتمام.
وشكلت هذه الظاهرة مجتمعا أنثويا مثيرا للجدل، لأنها لا تناقش قضايا ومشكلات النساء، بقدر ما تقدم محتوى غير مفيد يرتكز غالبا على مبدأ الإغراء، حيث تلجأ صاحبات الفيديوهات إلى الإثارة من خلال تصوير مناطق حساسة من أجسادهن، بهدف استقطاب أكبر عدد من المشاهدات.
وخلقت فيديوهات “روتيني اليومي” في الآونة الأخيرة جدلا كبيرا وانتقادات واسعة لاسيما في المغرب.
ويرى عدد من النشطاء والأكاديميين والمهتمين بقضايا المرأة أن الظاهرة تساهم في تكريس صورة نمطية عن النساء زادت قتامة مع تزايد عدد الفيديوهات التي تستخدم فيها بعض اليوتيوبرز إيحاءات جنسية، تنأى بالمحتوى عن المواضيع التي تستقطب الاهتمام في العادة كالتعريف ببعض الحرف اليدوية وعرض أساليب جديدة في الطبخ.
وتشير الدراسات إلى تحول انتباه عدد متزايد من الشباب من القنوات الإعلامية الكلاسيكية إلى منافذ مواقع التواصل الاجتماعي التي يسهل التعامل معها في أي وقت وأي مكان، وهو ما ساهم في سرعة انتشار مثل هذه المواد.
حملات ضد التفاهة
هذا ما دفع عددا من النشطاء على المواقع الاجتماعية إلى الانخراط في حملة ضد تفاهة محتوى بعض الفيديوهات، التي أصبح يوتيوب يعج بها، وذلك بهدف محاربتها، لأنها تسيء إلى حقيقة المرأة العربية التي تناضل من أجل فرض مكانتها داخل مجتمعاتها.
ودشن نشطاء حملة فيسبوكية ضد صناع التفاهة في يوتيوب تطالب بإعادة النظر في المحتوى وحماية الذوق العام، تحت وسم “#باراكامنالتفاهة (كفى تفاهة)”، و#لنرتقي_ بمحتوى_يوتيوب”، للتبليغ عن عدد من الفيديوهات والقنوات بهدف دفع إدارة يوتيوب إلى إغلاقها، من بينها “أسماء بيوتي” و”دنيا بيوتي فلوغ”، وكافة فيديوهات الإيحاءات الجنسية.
وحذرت لطيفة أخرباش، رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب، من مخاطر هذه الظاهرة، مشيرة إلى أنها تجعل المرأة نفسَها تكرّس الصورة النمطية السائدة عنها في المجتمع، عبر نشر محتويات على مواقع التواصل تحصر المرأة في مجالات تقلل من شأنها وتدنّي من مرتبتها.
ولفتت أخرباش إلى أن مقاطع الفيديو التي تبثها بعض السيدات والفتيات دون أن تكون لمحتواها أي فائدة،
قد تساهم في تفشي العنف ضدهن، قائلة إن محاربة العنف ضد النساء في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي “لا يمكن أن تثمر نتائج إذا اكتفينا فقط بالاستنكار والشجب، بل علينا أن نُنعش الممارسات الفضلى ونشجع عليها”.
ولا تتوانى بعض السيدات عن اتباع أي سلوك في سبيل تحقيق أرباح مادية، إذ أن هناك زوجات على سبيل المثال اتهمن أزواجهن بالخيانة وخرجن يبكين ويشتكين في فيديوهات ويطالبن بالطلاق وذلك لاستدرار تعاطف الناس وزيادة المشاهدات واللايكات، وأخريات عمدن إلى الإيحاءات الجنسية وظهرن بملابس شفافة أثناء تنظيف المنزل.
وأصبحت فيديوهات “روتيني اليومي” تجارة مربحة تدر على صاحبة القناة أموالا مهمة من موقع يوتيوب، إذ أن هناك سيدات تحقق قنواتهن أكثر من مليون مشاهدة يوميا وهذا ما يطرح علاقة هؤلاء بجسدهن وكيفية الترويج له في نظام تجاري يعتمد مكافآت مالية يمكن أن ترقى إلى دعارة رقمية.
إغراء الربح السريع
بحسب عالم النفس الاجتماعي مصطفى الشكدالي يكون الغرض الواضح من ذلك المحتوى هو الاسترزاق، وهو ما يدفع البعض إلى استعراض المفاتن من أجل الحصول على المال، وهو دعارة مقنعة. وتكمن الخطورة في أن هذه المحتويات ذات طبيعة تنشيئية، إذ أنها لا تتلاشى رقميا لعقود وبالتالي فهي تنمط دور المرأة.
وإجراءات الأداء في يوتيوب لا تؤدى على كل فيديو على حدة، بل وفقا لمجموع المشاهدات التي حققتها القناة في أسبوع أو أسبوعين أو شهر، ما يعني أن اليوتيوبرز اللواتي يلجأن إلى طريقة الإيحاءات الجنسية واللباس الكاشف للمفاتن خطة لحرق المراحل وتحقيق نسبة مهمة من المشاهدات.
ودفع إغراء الربح المادي السريع والسهل بسيدات وفتيات إلى صنع ونشر فيديوهات مفرغة من أي محتوى مفيد، وكانت اليوتيوبرز أسماء بيوتي بالمغرب وإكرام بلانوفا بإيطاليا، قدوة للبعض منهن في ذلك .
وهذا ما يكشف أنه لا حدود تفصل بين ما هو أخلاقي وقيمي وما هو خارج دائرة الحشمة والاعتدال أمام إغراء عدد المشاهدات، فالأسلوب لا يهم مقابل كسب المال برفع حصة اللايكات والتعليقات والانضمام إلى جوقة المتابعين، حتى وإن كان ذلك سيسمح لكل من هب ودب بالاطلاع على الحياة الحميمة لبعض نجمات يوتيوب بموافقة أزواجهن الذين لا يمانعون ظهور زوجاتهم بملابس شفافة أثناء تنظيف المنزل.
وأشار عبدالرحيم العطري، باحث في علم الاجتماع، إلى أن نجمات “روتيني اليومي” هن الأكثر متابعة، وأن ما يحصلن عليه ماديا وحتى رمزيا، لن تحققه أبرز روائية إذ قد لا تتجاوز مبيعات أعمالها 500 نسخة في أفضل الأحوال، فيما الأخريات يحظين بالمتابعات المليونية والمداخيل الخيالية.
وأضاف العطري أن الروتين اليومي لربات البيوت، وهن يُعِدْنَ إنتاج صورة نمطية عن المرأة حيث لا مكان لها إلا في دائرة الطبخ “والشقاء المنزلي”، صار محل اهتمام الجميع، حيث لا حديث في المغرب وخارجه إلا عن تسليع الجسد الأنثوي واغتصاب حقها في التحرر من لعنة الروتين اليومي الذي أنتجته الميديوقراطية وعضدته قيم الاستهلاك والتوحش الرأسمالي.
وتابع أن البحث عن الشهرة والانشغال بحصد اللايكات والمشاهدات لأجل المال، دفع بالكثير من السيدات إلى ”استعراض أشغال البيت” ولِمَ لا ممارسة نوع من “الاستعراء الجنسوي” أيضاً، في سباق محموم لا يُفهم منه سوى ”انتصار” عصر التفاهة والتسطيح.
ومع تصاعد حركات النضال المتعددة لتحرير المرأة في الوطن العربي، يرى أكاديميون أنه لا يجب أن ننمط دور النساء داخل البيت وكل ما يتعلق بالمطبخ.
ولفت الشكدالي إلى أن خطورة فيديوهات “روتيني اليومي” تكمن في أنها تعيد تنميط المرأة بتعزيز تصور أنها لا تصلح سوى للطبخ والكنس، مضيفا أن الذين يستعملون التكنولوجيا لصناعة مثل هذه المحتويات ولا يظهرون في الصورة يريدون أن يعيدوا تحنيط أدوار المرأة الحقيقية وتنميطها بواسطة حضور الجسد كوسيلة.
وظهرت منذ أن فرضت أغلب الدول حظر تجوال للحد من انتشار فايروس كورونا، أزمات اليوتيوبرز بشكل واضح، حيث تم حبس المصريات حنين حسام المعروفة باسم “هرم مصر الرابع” ومودة الأدهم وسما المصري، بتهمة نشر مقاطع تحرض على الفسق والفجور.
وكانت قد انتشرت فيديوهات لحسام وهي تدعو الفتيات إلى الاشتراك معها في تطبيق “تيك توك” وفتح كاميرات هواتفهن من داخل غرف نومهن، مقابل مبالغ سيحصلون عليها أسبوعيا، وفق وسائل إعلام محلية.
كما تداولت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، مجموعة من الفيديوهات المثيرة للجدل والمخلة بالآداب لفتاة تدعى منار سامي تسير على نهج الأدهم وحسام والمصري.
ودفع انتشار فيديوهاتهن التي لا تليق بالذوق العام في مصر، بالعديد من المتابعين إلى مهاجمتهن.
وفي الكويت مثلت الفاشينيستا سارة الكندري وزوجها أحمد العنزي أمام النيابة العامة بتهم تتعلق بمخالفة الآداب العامة، حيث قام الزوجان بنشر مقطع فيديو ظهر فيه العنزي وهو يقوم بتسريح شعر زوجته، بشكل لم يرق لبعض متابعيها.
ولا يكتفي الكثير من منتقدي هذه الفيديوهات بإلقاء اللوم على من يتبنونها ويروجون لها، بل ويوجهون اللوم نفسه للذين يستهلكون هذا النوع من المحتوى الخالي من الفائدة العامة إلا من الإيحاءات الجنسية والتعري والكلام النابي.
وأجمع المتابعون لهذه الظاهرة على أن انخفاض جودة المحتوى وتفاهته سيطرا منذ سنوات على الترندات في المغرب وخارجه، وازدادت وتيرتها مع ظهور فتيات ونساء بدل أن يتحدثن عن طرق تحضير وجبات الغداء وعن الزيارات العائلية والخروج للتسوق أو القيام بنزهات في حدائق ومتاحف والتعريف بأماكن تاريخية أو طبيعية، ظهرن بملابس شفافة أثناء تنظيف المنزل، أو عند إرضاع أطفالهن.
المتابع في قفص الاتهام
لا يوجد موضوع تافه وإنما طريقة تناوله تكون عادة تافهة، والتفاهة هي إفراز للاشعور يعبر عن معنى معين، وفي صناعة المحتوى الرقمي يتساءل الشكدالي، مَن التافه هل الصانع أم من يقبل عليه؟ موردا أنه يجب أن ننظر إلى المسألة من زاوية هذا التفاعل الثنائي، ويرجع ذلك إلى انحطاط على المستوى الفكري الثقافي وتنشئة اجتماعية معطوبة، مع غياب مناعة فكرية، وغياب مؤسسات التنشئة في عملية تحصين الفرد حتى لا يكون هناك إقبال على محتوى تافه.
وقال الأكاديمي أمين رغيب، التقني المحترف، إن بعض نساء وفتيات “روتيني اليومي” يمارسن ما أسماه ”العهر” العلني، مضيفا أن متتبعي هذا النوع من الفيديوهات هم من الرجال والمراهقين، وصاحبات هذا المحتوى يدركن ذلك.
واللافت أن الفيديوهات التي تقدمها بعض السيدات والفتيات ناقلات روتينهن اليومي بمحتوى غير محتشم بمعايير مجتمع محافظ، يتابعها في الغالب جمهور من الذكور وهو من يتفاعل ويعلق ويضع اللايكات. وذكرت دراسات عالمية سابقة أن يوتيوب يؤثر على فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة أكثر من أي قناة تلفزيونية.
ودق متابعون وباحثون في العلوم الاجتماعية ناقوس الخطر تحذيرا من الانجراف مع هذه الموجة التي تتنافى بالمطلق مع صورة المرأة العربية بالمنازل والتي يروج لها كل من صاحبة المحتوى والجمهور الذي يدافع عنه.
وعبر العديد من النشطاء عن غضبهم من الإقبال على هذا النوع من المحتوى وفئة المتابعين، واضعين مقارنة بين متابعة الفيديوهات التوعوية الهادفة ومتابعة الأخرى التي تنهل من قاموس التفاهة والدعارة، مبينين أن الإقبال على هذه الأخيرة مكثّف.
ويعتقد العطري أن من يتحكم في وسائل الإنتاج والإكراه هو الذي يحدد محتوى الروتين اليومي للمواطنين، ما بين أن يكون مفتوحا على التدافع السياسي والتناظر الفكري والإبداع الفني، وأن يكون متصلا بالتفاهة والرداءة والفراغ، فالتفاهة بالنسبة إليه تقود إلى إنتاج جمهور “مُستقيل” غير منشغل بالصراع السياسي، فقط همه الأساسي هو: هل قامت المغنية الفلانية بالشفط أو الزرع؟ وهل تزوج الممثل الفلاني أم طلّق؟ وما جديد نجمات يوتيوب؟ في إطار الروتين اليومي.
ويرصد زهير العوري، باحث في علم الاجتماع، هذا التحول الجارف الذي أصبحنا بسببه نستمد قيما فكرانية من داخل الوسائل التكنولوجية الحديثة التي هي في نهاية المطاف إفراز للمكبوت اللاشعوري، الذي نستنبطه في دواخلنا لكننا عندما نجد المكان المناسب لذلك نقوم بإفرازه بطريقة مشوهة.
ولرفع منسوب المحتوى الناضج وغير التافه طالب نشطاء وحقوقيون بتحريك المسطرة القانونية ضد كل من ثبت أنها تنشر الفساد والعري وزجرها كمرحلة أولية لأنها تسيء إلى المرأة.
واعتمد هؤلاء على الفصل 483 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على أن ”من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة مالية”.
وفي مصر ينص القانون رقم 146 لسنة 2019، على أنه في حالة نشر صور ومقاطع فيديو خادشة للحياء يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة مالية أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وطالب عدد من النشطاء بفرض رقابة على ما يتم تقديمه على يوتيوب، على غرار مراقبة القنوات التلفزيونية العمومية والإذاعات الخاصة، وذلك تجنبا لاستفحال هذه الظواهر الخادشة للحياء، في المقابل أكد آخرون أن الحل يكمن في الإكثار من نشر المحتوى الذي لا تراه هذه الفئة “تافها” حتى يكون هناك تنوع.
وأعلنت منصة يوتيوب عن فرض شروط أكثر صرامة على صناع المحتوى، ما سيجعل تحقيق الربح من الفيديوهات التي ينشرونها في قنواتهم أكثر صعوبة، خاصة بالنسبة إلى الناشرين الجدد.
وقالت إدارة يوتيوب إن شروطها الجديدة ستتيح التعرف على منشئي المحتوى الذي يساهم بشكل إيجابي في بناء المجتمع، ويساعد على تحقيق المزيد من العائدات الإعلانية بعيدا عن المحتوى المسيء.
ومع ذلك لا يمكن تصنيف كل محتوى “روتيني اليومي” في ذات الخانة، إذ أن هناك بعض القنوات تقدم من خلالها اليوتيوبرز تفاصيل من حياتهن اليومية ينتجنها ويصغنها في قوالب جيدة ومواضيع متنوعة تمس حياة الجيل الجديد بأفكار غير تقليدية، واشتهرن بتقديمهن لفيديوهات تعليمية وسكتشات في التمثيل والكوميديا، وتجارب طبخ ونصائح، وهو ما مكن بعضهن من منافسة مشاهير الإعلام التقليدي.