أميرة بوراوي طبيبة متمردة تناهض السلطة والإسلاميين في الجزائر
بوراوي ناشطة جزائرية متمردة على التقاليد المحافظة وواحدة من الأيقونات التي أفرزها الحراك الشعبي تختار النضال من أجل التغيير السياسي.
حين التحقت الطبيبة والناشطة السياسية المعارضة أميرة بوراوي، ببقية الناشطين القابعين في سجون السلطة، في إطار حملة قمعية لم تشهدها الجزائر منذ سنوات طويلة، لم يكن يخلد ببالها أنها ستغادره في ثوب البطلة القومية، وتحت هتافات وأهازيج الأنصار والمتعاطفين، تاركة وراءها غصة في حلق سجانيها الذين أودعوها الزنزانة، لكنهم لم يدروا أنهم بسجن المناضلين والناشطين يصنعون بطولات جديدة استقطبت الأضواء من رموز السلطة.
بوراوي ليست كغيرها من أبناء وبنات كبار ضباط الجيش، ففيما انخرط هؤلاء في عقيدة آبائهم عمّا يتصل بالسلطة والمصالح، اختارت هي النضال من أجل التغيير السياسي في البلاد، وحينما كان ظل بوتفليقة يعمّ ربوع البلاد، كانت تبحث عن مكان تحت شمس الحرية بالعاصمة في العام 2014، للتنديد بترشحه للرئاسة، ولم تخش في ذلك الزجّ بها خلف أسوار السجن، فقد دخلته مناضلة وغادرته بطلة تحت هتافات الأنصار والمتعاطفين.
ولم يشفع للناشطة المتمردة على التقاليد المحافظة، كونها طبيبة توليد النساء، ولا انحدارها من عائلة تنحدر بدورها من مؤسسة الجيش. حكم عليها قضاء العاصمة بسنة سجنا نافذا مع الأمر بالإيداع الفوري، بتهمة إهانة رئيس الجمهورية والتحريض على التجمهر واختراق الحجر الصحي المطبق في البلاد، لمواجهة تفشي وباء كورونا، فضلا عن نشر منشورات كاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي، من شأنها المساس بالوحدة الوطنية والأمن العام.
نموذج استثنائي
أودعت بوراوي الأم لطفلين، سجن الحراش الشهير، حيث يلتقي هناك من انتفض على النظام الحاكم، مع رموز النظام نفسه من مسؤولين كبار ووزراء ورجال أعمال محسوبين على سلطة بوتفليقة، وهناك تصطدم تهم الفساد المالي والسياسي مع تهم التجمهر والمساس بأمن واستقرار البلاد، والتحريض وإهانة مؤسسات الدولة، في مفارقة توحي بأن الجزائر لا تزال في مربع الصفر بعد أكثر من عام من الثورة السلمية ضد النظام.
كانت بوراوي قد اختارت مسار توليد الحرية في بلادها، فانتفضت ضد الولاية الرئاسية الرابعة للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في العام 2014، برفقة مجموعة من المناضلين والإعلاميين والناشطين المنحدرين من التيار الديمقراطي العلماني، تحت يافطة حركة ”بركات“ أي ”يكفي“، إلا أن قبضة السلطة وتفكك الحركة السريع سرعان ما أنهيا حالة الغضب السياسي ضد السلطة، لكنهما لم ينهيا فكرة ضرورة كسر حاجز الخوف وافتكاك الشارع للمبادرة ضدّ النظام السياسي القائم.
ثباتها على موقفها يلفت انتباه العديد من المراقبين، في حين لان كثير من رفاقها، على غرار الأديب والإعلامي احميد عياشي، الذي عيّن مستشارا في وزارة الثقافة الحالية، والإعلامي عبداللطيف بلقايم الذي يشغل الآن مهمة بمديرية الإعلام في رئاسة الجمهورية
ورغم ذكورية المجتمع إلا أن تقاليد احترام المرأة واقترانها بشرف العائلة والمجتمع لا تزال أساسية فيه، ولذلك أثار توقيف بوراوي وإيداعها السجن استنكارا مضاعفا لدى الشارع ولدى المناضلين والنشطاء، فنظرة الاستقواء على المرأة مهما كانت الذرائع لا تزال سلوكا منبوذا لاسيما وأن مصدره هو مؤسسات الدولة.
ولئن قطعت حبل التواصل مع الفئات الموالية للنظام والمتخفين وراء الوطنية والدين، بمواقفها ومنشوراتها وتصريحاتها المتمردة على التقاليد المتوراثة، فإنها استقطبت تعاطفا حتى من الذين لم يكونوا يقاسمونها نفس الأفكار والتوجهات سواء داخل الحراك الشعبي أو خارجه.
عُرفت عنها صراحتها وجرأتها اللتان لم تعجبا الكثير في السلطة أو في التيار الإسلامي والمحافظ، فمواقفها المناهضة للسلطة منذ سنوات عديدة هي نفسها ضد التيار المذكور، لكن وفاءها لقيم الحرية والديمقراطية حتى لمّا تعلق الأمر بخصومها أكسبها احتراما وتعاطفا كبيرين من قبل الجزائريين.
سبق لمناضلات أخريات أن أوقفن في إطار الحملة الأمنية المفتوحة على الناشطين المعارضين، على غرار الطالبة نور الهدى عقادي من محافظة تلمسان بأقصى غرب البلاد، وسميرة مسوسي، من محافظة تيزي وزو، وغيرهما، إلا أن سجن بوراوي، حمل عدة رسائل سياسية تنطوي على عزم السلطة تفكيك الحراك وتفريق نشطائه، قبل العودة من الحظر المضروب في البلاد لمكافحة وباء كورونا.
لكن الذي لم يهضمه الشارع الجزائري، هو الصمت المطبق للتنظيمات الطبية والصحية، على قرار سجن زميلتهم، عكس مختلف الفعاليات الاجتماعية والشعبية الأخرى، حيث لم يصدر أي موقف عن أي تنظيم نقابي أو جمعية مدنية يدين أو يتضامن مع المرأة المسجونة، التي هي أصلا طبيبة توليد وتركت وراءها طفلين. ويأتي ذلك رغم حملة التعاطف التي حظيت بها الاحتجاجات والإضرابات التي شنها ما يعرف بـ”الأطباء المقيمون”، خاصة حين وقع الاعتداء الجسدي عليهم من قبل قوات الأمن في عدة مرات خلال العام 2018، الأمر الذي وصفه مدونون على شبكات التواصل الاجتماعي بـ”الموقف المتخاذل” تجاه الثورة السلمية وتجاه زميلة لهم، كثيرا ما نددت بما تعرض له هؤلاء بإيعاز من الحكومة.
ثمن الصمت
كبير المحامين والحقوقيين في الجزائر مصطفى بوشاشي أعلن أن “الحكم الصادر في حق أميرة بوراوي، غير مبرر، لأن الملف فارغ وقد قررنا استئنافه”، وأضاف “إن مثل هذه الملاحقات القضائية التي تستمر منذ شهور، لا يمكن أن تهدّئ النفوس من الناحية السياسية. هذه ليست الطريقة المثلى للانفتاح على المجتمع، وعلى الناشطين وعلى الثورة السلمية، التي يخوضها الجزائريون منذ أكثر من عام”.
تعدّ بوراوي من جيل الشباب الذي حمل على عاتقه مهمة مناهضة النظام السياسي القائم في البلاد، ورغم الأحكام النمطية التي أطلقت من قبل الدوائر الموالية للسلطة ضد حركة ”بركات“، وتقديمها في ثوب الأقلية العلمانية المناهضة للسلطة وللثوابت الوطنية، إلا أن اللافت كان صمود بوراوي إلى غاية توقيفها وسجنها خلال الشهر الماضي، في الحين الذي انحنى فيه العديد من رفاقها، على غرار الأديب والإعلامي احميد عياشي، الذي عيّن مستشارا في وزارة الثقافة الحالية، والإعلامي الآخر عبداللطيف بلقايم، الذي يشغل الآن مهمة بمديرية الإعلام في رئاسة الجمهورية.
وكثّفت السلطة في الأيام الأخيرة الملاحقات القضائية والمحاكمات ضد الناشطين في الحراك، بهدف منع عودة تظاهرات الحراك بعد رفع الحجر الصحي، ومنذ فرض التدابير الاحترازية بدعوى مواجهة الجائحة الوبائية في منتصف شهر مارس الماضي، أغلقت الحكومة المدارس والجامعات والمساجد ومنعت كل التظاهرات السياسية والدينية والثقافية والرياضية.
وكما جاء سجن بوراوي، لينسف بوادر الانفراج التي بشر بها رئيس حزب “جيل جديد” المعارض جيلالي سفيان، الذي أعلن عن استعداد الرئيس تبون، لإطلاق سراح السجينين السياسيين كريم طابو وسمير بلعربي قريبا، فقد جاء الإفراج عنهما كرسالة من السلطة لتهدئة الأجواء والتخفيف من حدة الاحتقان السياسي القائم في البلاد، مما يترجم الثقل الذي اكتسبه رفاق بوراوي في تحقيق الاستقرار السياسي وحلحلة الأزمة.
ويبدو أن السلطة التي حثت الخطى من أجل تفكيك رؤوس الحراك الشعبي وفعالياته قبل أي عودة للحياة العادية في البلاد، اتخذت مسارا آخر لتجريب حلول مغايرة، فصراحة وجرأة الناشطة على انتقاد السلطة والتيارات الإسلامية والمحافظة الموالية لها، رغم التضييق الممنهج على المدونين وشبكات التواصل الاجتماعي، لم يعد بالإمكان كتمه أو تغييبه عن المشهد بتهم باتت محفوظة من طرف سجناء الرأي والمحامين والحقوقيين.
وأحصت في هذا الشأن، الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، مئات الموقوفين خلال مظاهرات الأسابيع الأخيرة، ولفتت إلى أن الإفراج عنهم لا يترجم أي نية لدى السلطة لتصعيد القمع في خضمّ انتشار الوباء. وقد تزامن سجن بوراوي مع حملة أمنية موسعة أفضت إلى إحالة حوالي مئة شخص على النيابة العامة، التي قررت حبس نحو 20 منهم والبقية إما أدينوا بالحبس النافذ أو غير النافذ، أو أفرج عنهم في انتظار محاكمتهم، أما الأكثر حظا فغادروا المحكمة بغرامة مالية فقط.
أما التنسيقية الوطنية للدفاع عن الموقوفين، وهي منظمة أهلية تأسست في خضم الحراك الشعبي، فقد أحصت نحو ستين سجين رأي يقبعون حاليا خلف القضبان، بعدما انضمت بوراوي إلى العديد من الناشطين البارزين ككريم طابو وسمير بلعربي وكريم حميطوش قبل أن يغادره هؤلاء بعفو رئاسي.
نسف بوادر الانفراج
وتبقى بوراوي واحدة من الأيقونات التي أفرزها الحراك الشعبي، على غرار زهرة بيطاط، وجميلة بوحيرد، والعديد من النسوة الجزائريات اللائي استقطبن الأضواء خلال الأشهر الماضية من خلال مشاركتهم المستمرة في الثورة السلمية المناهضة للنظام.
ولم تسلم بوراوي في العديد من المرات من التوقيفات الأمنية، إلا أنه كان يطلق سراحها بعد تغييبها المتعمد عن المشاركة في الاحتجاجات التي أوقفت فيها، وصرحت في إحدى المناسبات “لقد صرت أعرف كل مخافر الشرطة المتواجدة بالعاصمة”، في إشارة إلى كثرة التوقيفات التي تعرضت لها.
وظلت بوراوي تعتبر توقيف المناضلين والناشطين المعارضين فرصة للتعارف وتبادل الأفكار والتصورات، الأمر الذي خلق نسيجا نضاليا لم يكن ليتحقق لولا تلك التوقيفات، وسمح بتوسيع قنوات التواصل بين هؤلاء، على اعتبار أن العاصمة كانت تستقبل أسبوعيا مئات الآلاف وحتى الملايين من المحتجين يأتون إليها من كل ربوع الجمهورية.
وإذ ارتبطت المعارضة السياسية النمطية في الجزائر خلال العقود الماضية، بتيارات سياسية وأيديولوجية معينة، حيث كان طرف منها في المعارضة وآخر متخندقا في معسكر السلطة، فإن الحراك الشعبي خلط جميع الأوراق، لما وضع الانتماء السياسي والأيديولوجي في الخلف، وركز نضاله على تحقيق مطالب أساسية اختصرها في الرحيل الجماعي للسلطة، والتغيير السياسي الشامل في البلاد.
وهو الذي وضع تيار أميرة بوراوي، في خندق واحد مع تيارات أخرى، كانت بالأمس يستحيل عليها اللقاء على طاولة واحدة أو في فضاء واحد، الأمر الذي أفضى إلى تحول اجتماعي وسياسي غير مسبوق في الجزائر، فاجأ السلطة وكل المتابعين للشأن المحلي، فالاحتجاجات التي كانت تنتهي بالعنف والتخريب باتت سلمية وهادئة، والفرقاء السياسيون المتخاصمون صاروا حلفا واحدا مناهضا للسلطة.