أي عالم للمرحلة القادمة؟ نحو بلورة قطبية جديدة تحليل جيوسياسي للدكتور المهدي طالب
الدكتور مهدي طالب
يندرج هذا الموضوع في سياق التحولات الجديدة التي يعرفها العالم، بحيث أصبح توازن النظام العالمي في الوقت الراهن أقل استقراراً مما كان عليه الأمر قبل نهاية القرن الماضي، وبداالتحول فيه متسارعًا موازاة مع تسارع التقدم التكنولوجي. لقد مهدت العولمة الطريق لظهور عدة قوى، فأصبح نظام القطبية متغيرًا جدًا.
إن نهاية النظام الثنائي القطب، الذي كانت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قوتين قادرتين على فرض سيطرتهما على جميع البلدان الأخرى، التي لم يكن لديها خيار سوى الخضوع لإحداهما، فسح المجال للولايات المتحدة بوصفها قوة وحيدة في نظام أضحى أحادي القطب، منذ تفكك الكتلة السوفيتية. وهكذا أصبح عراب العالم يسيطر على المؤسسات الدولية ويصدر بمفرده القرار الذي يجب اتخاذه: حرب الخليج الأولى، حرب كوسوفو، التدخل في أفغانستان، حرب الخليج الثانية، العقوبات ضد إيران وكوريا الشمالية…
أن تكون ساموراي هو عبئ ثقيل. لذا فالولايات المتحدة أنهكت بسرعة، مما جعل صمويل هنتنغتون يعلن عن عالم جديد أحادي-متعدد الأقطاب، تظهر فيه خمس قوى أخرى، إلى جانب القوة العظمى الأمريكية: الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الهند والبرازيل. استطاعت واحدة من بين هذه القوى: الصين، أن تقلص الفارق بشكل صارخ مع الولايات المتحدة.
كما يوضح كينيث أورجينسكي في كتابه “نظرية انتقال السلطة”: العالم أحادي-متعدد الأقطاب هو النظام الذي يكون توازنه الأقل استقرارًا من بين جميع الأنظمة، لأن القوة المهيمنة لم تعد قادرة على اتخاذ القرار بمفردها، بل أصبحت في حاجة الى لآخرين، خوفا من مواجهة تحالفات ضدها. وقد تم اختبار حالةعدم استقرار التوازن هذا بشكل أكبر من خلال حجم الأزمة الصحية الحالية المرتبطة بفيروس كورونا المستجد، والتي غذت التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وكشفت عن نوع من الأحادية بين الدول.
وقد حدد أورجينسكي ثلاثة أنظمة محتملة للحكم: نظام القطبية ونظام التسلسل الهرمي ونظام الفوضى. لذلك، فإن التساؤلالذي يطرح نفسه هو:
أي من هذه الأنظمة الثلاث سيحل محل النظام الحالي؟
للإجابة عن هذا السؤال بشكل موضوعي، آثرت تناول هذا الموضوع من جانبه الظاهر، منطلقا من تذكير الحقائق. وسأواصل تحليلي بافتراض ما يمكن – وليس ما يجب – أن يحدث. وبالتالي سيكون نهجي واقعيًا وليس مثاليًا؛ سأقوم بربط الحقائق كما هي، وليس كما يجب أن تكون. سأتطرق أيضًا لأزمة فيروس كورونا المستجد الصحية وتأثيرها على الجغرافيا السياسية العالمية.
تثير كل أزمة اقتصادية مسألة تراجع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإنها في الواقع مجرد استعارة، لأن الأخيرة ليست هي التي تراجعت، بل القوى الأخرى هي التي برزت. يطرح هذا البروز سؤالاً: لماذا تركت الولايات المتحدة المجال لهذه القوى حتى تبرز؟
للإجابة عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أن القوة تمارس على ثلاثة مستويات: المستوى العسكري، المستوى الاقتصادي، ومستوى العلاقات الدولية. ويتعلق المستوى الأخير بتدبيرالمشاكل المرتبطة بالهجرة والمخدرات والإرهاب والأوبئة وغيرها. في هذا المستوى الثالث على وجه الخصوص، يمكن أن تفشل القوة، لأن معالجة هذه المشاكل تتطلب ذكاء في الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. فاستخدام القوة الناعمة غالبا ما يحقق نتيجة إيجابية، لأن الدبلوماسية الجيدة تكون مربحة لجميع الأطراف. العكس كذلك صحيح، فاستخدام القوة الصلبة يؤدي في أفضل الأحوال إلى منتصر ومنهزم، وفي أسوأ الأحوال إلى نتيجة سلبية، تكون جميع الأطراف فيها خاسرة.
تتدخل الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ضد ما تسميه “محور الشر”، لأنها تحسب جل العالم الى جانبها. فوصول تيار المحافظين الجدد قادها إلى استعمال القوة لقيادة هذه المعركة، من أجل فرض النموذج الثقافي الأمريكي، النموذج الذي أطلق عليه الإنجليز اسم “المصير الظاهر” وهم في طريقهم إلى امريكا على ظهر “ماي فلاور” عام 1620.
ثم ان هذه السياسة وضعت الولايات المتحدة في مأزق، وجها لوجه ضد الميليشيات المسلحة، في شكل جديد من أشكال الحرب. شكل لم يسبق لها أن واجهته من قبل، والذي استحضره مارتن فان كريفلد في كتابه “تحول الحرب“: “في رأينا، إن أقوى الجيوش وأفضلها تجهيزًا، هي نفسها الأقل استعدادا للحرب الحديثة: في الحقيقة تكيفها يتناسب عكسيا مع حداثتها“. رد المحافظون الجدد باستراتيجية تسمى: “خريطة البنتاغون لبارنت“. مفادها أن يكون في كل منطقة من العالم دولة لحام تسمى “المحور الجيوسياسي“، قادرة على أن تتدخل ضد “الدول المارقة“ وتساهم في التكاليف. بالنسبة لمنطقة الخليج، على سبيل المثال، المملكة العربية السعودية هي الدولة المحورية لمواجهة إيران.
بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية، تظل الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، ولكن كما يؤكد كريستيان تشافانيو في “الاقتصاد السياسي الدولي لعام 2004“: “إنهم يستفيدون من العولمة ولكنهم لا يسيطرون عليها”. تم تأكيد هذا البيان إلى حد كبير، حيث في الوقت الذي ابتعدت فيه الولايات المتحدة عن الأساسيات، بشن حرب في أفغانستان والعراق، اغتنمت بعض الدول الفرصة لملء الفراغ الاقتصادي والاستراتيجي، ولا سيما دول آسيا، التي يمثل إنتاجها الآن أكثر من نصف الإنتاج العالمي.
من جانبها، استفادت الصين من انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، ووسعت حصتها من السوق التجارية في جميع القارات، وذلك بفضل استراتيجية القوة الناعمة (إلى حين يثبت خلاف ذلك): استراتيجية “لعبة الويتشي“. للتذكير، أشهر لعبة لوحية في آسيا هي “لعبة الويتشي” التي، على عكس “لعبة الشطرنج” السائدة في الغرب، لا تسعى للقضاء على الخصم بل لاستيعابه؛ بحيث يسعى كل طرف في هذه اللعبة إلى كسب الأرض، من خلال إحاطة الخصم الذي يصبح سجينًا.
في حين أن الرؤية الغربية هي رؤية ازدواجية، ترى العالم إما في حالة خير، وإما في حالة شر، فإن الصينيين يتكيفون مع الموقف ويسبحون في اتجاه الموج، يظهرون تارة ضعفاء وتارة أقوياء، تارة مخفقين وتارة نشطين: هذا هو مبدأ “اليين واليانغ” في استراتيجية “فن الحرب” التي كتبها سون تزو (500 قبل الميلاد)، والتي تناولها ماو تسي تونغ في كتابه بعنوان “الفن الأسمى للحرب”. يهدف هذا المبدأ إلى إخضاع العدو دون قتال: “الحرب تقوم على الأكاذيب؛ هاجم عدوك حين تعرض عليه السلم، تحاشاه حين يتوقع منك الهجوم؛ حين تواجه عدوا قويا لا تتحرك حتى تجد فرصة سانحة ولا تحارب حتى يخرج عن طوره ويهاجم؛ احتفظ بقوتك وقدراتك سرا، فكلما كنت غامضا كلما هابك العدو وضخم قدراتك؛ حين تحاصر العدو أترك له منفذا للهرب، فالضغط بقسوة يجعله يستأسد في القتال”.
بالإضافة إلى ذلك، وبفضل امتناع الصين عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كسبت هذه الأخيرة ثقة شركائها وتمكنت من توسيع مجال نفوذها في جل أمكنة العالم تقريبًا. هذه الظروف ساعدتها على نمو من نقطتين لعدة سنوات، وبنحو 6٪ حاليًا. ورغم أن معدل الناتج الفردي أقل بكثير من الولايات المتحدة، فإن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي ولّد احتياطيًا في الميزانية بأكثر من 2.5 تريليون دولار، مما مكّنها من زيادة ميزانيتها العسكرية بنحو 8٪ عامًا بعد عام، وتطبيق “سياسة الخروج“، أي الاستثمارفي كل مكان في العالم، ومنح قروض بمليارات الدولارات لا تستطيع أي دولة أخرى فعله. على سبيل المثال، أقرضت الصين جمهورية الكونغو الديمقراطية 9 مليارات دولار.
سنحت هذه السياسة للشركات الصينية بالاستقرار في الخارج وجلب التكنولوجيا الغربية إلى الصين، الأمر الذي دفع هذه الأخيرة، للمرة الأولى، إلى تقديم أكبر عدد من براءات الاختراع في العالم في عام 2019. وتعتقد الولايات المتحدة أن الصين تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية، وتتهمها بانتهاك حقوق الملكية الفكرية لشركاتها، من خلال فرض نقل التكنولوجيا عليها مقابل ولوج السوق الصينية.
إلى جانب ظهور الإمبراطورية الوسطى، نلاحظ أيضًا، ولكن بدرجة أقل، ظهور قوى أخرى:
من بين هذه القوى الناشئة، يمكن اعتبار الصين القوة الوحيدة التي يمكن تصنيفها ندا نظيرا للولايات المتحدة. في الواقع، تستوفي الصين الصفات الأربعة المطلوبة لتصبح القوة المهيمنة:
1. تتبدى قوتها في شكلين:
أ. القوة الناعمة بنموذجها الثقافي المسمى “المكان الصالح تحت السماء”، وهو بديل للنموذج الأمريكي “المصير الظاهر”. يهدف هذا النموذج إلى طمأنة جيرانها الذين يشعرون بالقلق بشأن التهديد المتزايد، لكن إذا عدنا الى التاريخ، نجد أن الصين توسعت بفضل حملاتها العسكرية، عندما كانت إمبراطورية قوية في عهد المينغ والتشينغ.
ب. القوة الصلبة المتجلية في قوتها العسكرية، وخاصة البحرية. ففي عام 2019، حصلت الصين على ثاني حاملة طائرات، الأولى صينية بنسبة 100 ٪.
2. رغبتها في مراجعة الوضع الراهن.
3. تجليها في جميع أنحاء العالم، وخاصة في المناطق الحساسة والمناطق الغنية بالمواد الأولية.
4. كون انتصار الولايات المتحدة في حال وقوع حرب، غير مضمون.
لتعزيز موقفها كمنافس نظير، شرعت الصين في الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والإدارية، وتطوير الجهات النائية مع الرئيس السابق هو جين تاو. كما عززت التماسك الاجتماعي لسكانها، وتطور مجتمعها المدني، والعودة إلى الثقافتين البوذية في نسختها الصينية والكونفوشيوسية. تعزز هذه العودة النموذج الهرمي لكونفوشيوس (500 قبل الميلاد): “على الملك أن يقوم بواجباته بصفته ملكا، والوزير بواجباته بوصفه وزيرا، والأب بواجباته باعتباره أبا، والابناء بواجباتهم بحسبانهم أبناء”. في الواقع، رؤية الصين الهرمية هذه، لا تقتصر على مجتمعها، بل إنها تعتبر العالم بأسره هرمًا تكون هي القمة فيه وتكون الدول الأخرى شريكة لها، عكس الرؤية الغربية التي تفضل عالم الأقطاب.
إلى جانب هذه الإصلاحات الداخلية، طورت الصين نطاق نفوذها الأجنبي من خلال العلاقات الاقتصادية، مما جعل العديد من الدول تعتمد عليها إلى حد التعرض لخطر الانهيار إذا أنهت علاقاتها معها. يمكننا أن نذكر كمثال: دول الآسيان، والمملكة العربية السعودية التي تعد الصين زبون النفط الرئيسي لها، إيران، العراق، تركيا، جنوب إفريقيا، أنغولا … والولايات المتحدة نفسها. أما مع القوى الصاعدة الكبرى فقد أقامت الصين تحالفات داخل دول البريكس، في إطار سياسة جنوب-جنوب التي تروج لها المدرسة السياسية الصينية “مدرسة الجنوب العالمية”، وداخل منظمة شنغهاي للتعاون OCS)) التي تروج لها مدرسة “آسيا أولا”، ناهيك عن المشروع الفرعوني لطرق الحرير الجديدة. يتضمن هذا المشروع العديد من الطرق البحرية والبرية والسكك الحديدية عبر العديد من الدول الأورو-أسيوية والإفريقية، بهدف التنمية، ولكن أيضًا لتجاوز بحر الصين إذا قام هنالك صراع. يهم هذا المشروع 160 دولة وأكثر من 2/3 الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وسيكلف عدة تريليونات دولار.
يمكن أن يقارن ما حصل للولايات المتحدة بما قد يحصل مثلا في سباق 400 متر أربع مرات، حيث أحيانًا عندما يكون العداء الأول في الفريق متقدمًا على خصومه بعدة خطوات، يميل العداء الثاني من نفس الفريق إلى الاسترخاء إلى أن يفقد الإيقاع. آنذاك يتم تقليص الفارق بينه وبين خصومه، فيصعب عليه التقاط النفس الثاني. تحت ضغط الوقت، يحاول العداءان الثالث والرابع من نفس الفريق تدارك الموقف، فينتقلان بشكل يائس من تكتيك إلى تكتيك لتأمين مركزهم. هكذا عانت الولايات المتحدة من نفس المصير الذي عانى منه هؤلاء المتسابقون، فقد كانت متقدمة على غيرها بعدة خطوات في نهاية الحرب الباردة، إلا أن سياسة المحافظين الجدد في منطقة الخليج قللت من تركيزهم على بقية أنحاء العالم، في الوقت الذي قلصت فيه الصين الفارق في السباق. بعد ذلك تخلت الولايات المتحدة على المحافظين الجدد وسياستهم القسرية (70٪ عصا، 30٪ جزرة)، وعادت إلىالسياسة الواقعية مع وصول التيار الهاميلتوني في شخصأوباما. ورغم بذل قصارى جهدها لالتقاط أنفاسها، فإنهااضطرت للانتقال من استراتيجية إلى أخرى ومن تيار سياسي إلى تيار سياسي. فنهجت سياسة التوفيق الدبلوماسي من خلال استراتيجية تسمى “المنظومة البسماركية“، في إشارة إلى المستشار الألماني بسمارك، حيث تقيم الولايات المتحدة تحالفات قوية مع جميع القوى الناشئة لجعلها تابعة، وتمنعها من التحالف مع بعضها البعض. لم تكن هذه الاستراتيجية كافية لإبطاء العداء الصيني. يشير وصول ترامب إلى تغيير سياسي جديد، هذه المرة نحو التيار الانعزالي المسمى “التيار الجاكسوني“ في إشارة إلى أندرو جاكسون، والذي باسم المصلحة الوطنية، لا يتردد في اللجوء إلى 70٪ جزرة و30٪ عصا. وقد ظهرت هذه السياسةمؤخرًا بضغط الولايات المتحدة على الصين. وبسبب التغييرالمتكرر للتيار وللاستراتيجية نجد أن هذا الانقطاع في السياسةالأمريكية يتعارض مع الاستمرارية التي تعرفها السياسةالصينية، المنسوبة إلى الحزب الواحد ومركزية القرارات.
يشهد التوتر المتزايد بين القوتين، كما أوضح أبرامو أورغنسكيفي “نظرية انتقال السلطة“، عن عدم استقرار توازن هذا العالم الأحادي-متعدد الأقطاب، الذي يمر بمرحلة انتقالية يحتد فيها السباق بين القوة المهيمنة أمريكا ومنافسها النظير الصين. الخطر هنا يكمن في احتمال تراجع إحداهما عن الاعتراف بالمؤسسات الدولية الضامنة للاستقرار. يذكرنا هذا الوضع بالانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس للمناخ، وانسحابها من معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، وانسحابها من الاتفاق النووي الإيراني، وانسحابها الذي أعلنت عنه مؤخرًا من منظمة الصحة العالمية، وخصوصا تعطيل هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية في ديسمبر 2019، التي اتهمها ترامب بالاختلال الوظيفي وهدد بالانسحاب من المنظمة إذا لم تقم بمراجعة وضع الصين، التي تستغل في رأيه وضعها بصفتها دولة نامية للاستفادة بشكل أفضل. وفي هذا الصدد، يشارك الاتحاد الأوروبي موقف الولايات المتحدة ذاته. إذا حصل هذا الأمر، فإن الخطر الكبير هو الانزلاق إلى نظام الفوضى وإلى معضلة أمنية تسعى من خلالها كل دولة إلى تسليح نفسها من أجل البقاء، وهذا هو ما سماه والتز: الحماية الذاتية.
قبل دراسة سبل الخروج من عدم الاستقرار المرتفع لهذا التوازن، يجدر فحص رؤية كل من القوتين العظميين:
الولايات المتحدة تحبذ نظام القطبية لأنه في نظرها أكثر استقرارًا إذا ما احترمت القواعد التي ذكرها عالم السياسة مورتون كابلان في كتابه “النظم والسبل في السياسة الدولية”. هذه القواعد هي:
1. التفاوض.
2. عدم إذلال الخصم، لأن المصالح أبدية عكس التحالفات، حيث يمكن أن يصبح عدو الأمس صديق اليوم.
3. منع أي قوة من السعي الى الهيمنة.
ولتحقيق ذلك، تستخدم الولايات المتحدة “المنظومة البسماركية“، التي تحدثنا عنها أعلاه، الاستراتيجية الثلاثية، حيث تشكل القواعد البحرية مثلثات للسيطرة على البحار، كما فعل البريطانيون من قبل، وما يسمى: “قوة الموازنة الخارجية”، أي إنشاء مجمع أمني إقليمي للدفاع عن أي دولة تم تهديدها من قبل دولة أخرى أقوى منها. وقد أفادت هذه الاستراتيجية أفغانستان ضد الهند وكوريا الجنوبية واليابان ضد الصين ودول جنوب شرق آسيا ضد الصين في صراعها في بحر الصين الجنوبي. وتخشى هذه الدول جميعها من هيمنة الصين، وترحب بوجود أكبر أسطول أمريكي في المنطقة.
إذا كانت الولايات المتحدة تميل إلى نظام القطبية، فإن الصين من جهتها، تميل إلى النظام الهرمي الذي تحدثنا عنه أعلاه، ولديها أيضًا وسائل ضغط على الولايات المتحدة وحلفائها، نذكر منها على سبيل المثال، السيطرة على 90 ٪ من الأراضي النادرةالأساسية للتكنولوجيا العالية، وإعادة شراء ديون الولايات المتحدةالأمريكية (800 مليار دولار) والاتحاد الأوروبي (630 مليار يورو) …
من الناحية النظرية، يمكن أن يؤدي هذا التفاوت في وجهات النظر بين القوتين إلى الأسوأ، والأسوأ هو الحرب من أجل الهيمنة. وفي حالة نشوب هذه الحرب، فمن المحتمل أن يكون العامل المسبب لها هو الصراع على جزر سبراتلي وباراسيلسبين الصين وجيرانها في رابطة أمم جنوب شرق آسيا، وهو صراع حساس للغاية، لأنه يهم كذلك الولايات المتحدة التي تطبق في المنطقة سياسة الاحتواء والمشاركة وإدارة الطريق البحري من مضيق ملقا إلى مضيق تايوان. تعتبر دول الآسيان ريملاند آسيا: مفهوم الريملاند جاء به عالم السياسة سبيكمان عام 1942 ليشير به إلى المنطقة العازلة بين القوة البحرية والقوة الأرضية (الهارتلاند). إذا سيطرت قوة بحرية على الريملاند، فلن يكون بمقدار الهارتلاند السيطرة على العالم. ولهذا السبب تقوم القوتان الأمريكية والصينية بكل شيء للسيطرة على دول الآسيان.
للتذكير، من بين آخر خمسة عشر انتقال للسلطة التي عرفها العالم، إحدى عشر انتقالات تمت عن طريق الحرب من أجل الهيمنة. أما تلك التي حدثت بدون حرب، فكانت كذلك لأن النموذج السائد آنذاك لم يكن موضع تساؤل. أحدث مثال هو الانتقال الأخير بين البريطانيين والأمريكيين.
أما حاليا، ورغم أن للصين ثقافة يزيد تاريخها عن 5000 سنةً يجعلنا نتوقع أنها ستفرض نموذجها الخاص، إلا أنها في الواقع، تواجه العديد من القيود:
1. رسوخها في النظام الحالي وفي المؤسسات الدولية.
2. اعتمادها الاقتصادي الكبير على الطاقة المستوردة.
3. ترابطها مع المشاعات العالمية.
4. تواجد الناتو على حدودها في دول آسيا الوسطى.
5. تنافسيتها مع جارتها الهند النووية كذلك.
6. مقاومة اليابان وتايوان.
تعني هذه القيود أنه لن يكون أمام الصين خيار سوى الالتزام بالتعددية واختيار القوة الناعمة. هذه هي رؤية أهم تيار سياسي صيني: التيار الواقعي، الذي يؤكد على السيادة والبيئة الدولية وعزيمة محو قرن من الإذلال. لذلك، من المرجح أن الصين لن تشكك في مجمل النموذج الحالي. وكدليل على ذلك، حضورها المتزايد في المؤسسات الدولية، حيث نجد 4 صينيين على رأس هيئات الأمم المتحدة الخمس عشرة، إضافة إلى أن الصين هي ثاني مساهم مالي للأمم المتحدة والأول لليونسكو، وتزود المزيد والمزيد من قوات حفظ السلام … ففي كل مرة تنسحب الولايات المتحدة من المسرح العالمي، تنتهز الصين الفرصة للسباق على القيادة. ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، فقد قررت مؤخرًا التبرع بملياري دولار لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة فيروس كورونا المستجد، ردا على قرار واشنطن بقطع العلاقات مع المنظمة.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الصين تريد تجنب إثارة حرب من أجل الهيمنة، من خلال تجنب الدخول في صراع مسلح مع جيرانها في الجنوب الشرقي فيما يتعلق بالسيطرة على بحر الصين. في الواقع، تبحث الصين عن بدائل أخرى لتجاوز مضيق ملقا، مثل بناء أنبوب يمر عبر ميانمار ليصل إلى المحيط الهندي، وطريق الحرير البحري والبري.
بالنسبة للولايات المتحدة، إذا لم يتغير النموذج، فإن مصالحها ستظل محفوظة، ولن تكون هناك أسباب كثيرة لإثارة حرب من أجل الهيمنة، خاصة وأن القوتين نوويتان، ومن حيث المبدأ، قوتان نوويتان لا تخوضان حربًا مع بعضهما البعض، لأن العكس يؤدي إلى إبادة بعضهما البعض، فيكون المصير تدميرا متبادلا مؤكدا.
إذا عرّف كلوزفيتز الحرب بأنها استمرار السلام بوسائل أخرى، ففي العصر النووي، أصبحت هذه الصيغة معكوسة: السلام هو استمرار الحرب بوسائل أخرى. يجدر هنا الحديث عن سلام بارد يستبعد أي استخدام للقوة، على عكس الحرب الباردة، وعلى الرغم من تميزه بمستويات مماثلة من التوتر وعدم الثقة.
إن بداية هذا السلام البارد تظهر جلية من زاوية التوترات التجارية المتزايدة بين الولايات المتحدة والمملكة الوسطى. ومع ذلك، لا يوجد خيار أمام هاتين القوتين العظميين سوى التعاون. والدليل هو أن البلدين رغم مراجعتهما المتواصلة للاتفاقات المبرمة بينهما، لكنهما لا يستطيعان كسر الحبل بشكل دائم. في مايو 2020، وعلى الرغم من الأزمة الصحية، توافقا على تنفيذ اتفاقهما المبرم في بداية العام، والذي يلزم الصين برفع مشترياتها للمنتجات الأمريكية ب 200 مليار دولار في غضون عامين.
إن الأزمة الصحية الحالية ذات حجم لم يشهده العالم منذ 75 عامًا، بحيث عطلت حياة الأفراد وعرضت الاقتصاد العالمي للخطر. وفوق كل شيء، أوضحت صعوبة التفاهم وقلة تلاحم الجهود بين الدول لإدارة مشاكلها المشتركة ومنع عواقبها. لقد كشفت هذه الأزمة عن الافتقار إلى القيادة العالمية، والانفرادية الصارخة الناجمة عن النزاع الصيني الأمريكي. ونتيجة لذلك، فإن إعادة توزيع البطاقات بين القوى العظمى أكثر من المحتمل. سوف نشهد، ربما لفترة معينة، عودة الدول إلى السيادية والانعزالية النسبية.
يوجد بالفعل نظام ثنائي-متعدد الأقطاب، مع قوتين عظميين: أمريكا والصين، تليهما أربع قوى كبرى هي روسيا والهند والاتحاد الأوروبي والبرازيل. ولا يزال هذا النظام في حالة توازن غير مستقر للغاية، بسبب تقارب المتنافسين من حيث القوة. هذا التقارب يمكن أن يغري كل دولة لبدء الحرب، إذا رأت فرصة للفوز بها. الفرق بين ثنائية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وثنائية الولايات المتحدة والصين، هو أن الأولى كانت في شكل قوة بحرية ضد قوة برية، بينما في الثانية، القوتان بحريتان وتنافسان من أجل نفس مناطق النفوذ.
في القانون الطبيعي للكائنات الحية، لكي يكون هناك توازن أكثر استقرارًا، إما يجب أن يكون هناك نوع من الداروينية الاجتماعية، بحيث يكون هناك مهيمن ومهيمن عليه، وإما يجب أن تكون الجماعات المتنافسة حذرة من بعضها البعض بسبب التغيرات غير المتوقعة في التحالفات. الوضع الأول غير محتمل، لأن الولايات المتحدة لن توافق على أن تصبح رقم اثنين، ولن توافق الصين على البقاء رقم اثنين. لذلك فإن السلام الدافئ، بين رقم واحد ورقم اثنين ليس هو الخيار. الوضع الثاني مع تقارب محتمل للدول الناشئة الأخرى وتوجه نحو نظام متعدد الأقطاب، وحده يجعل من الممكن إيجاد توازن أكثر استقرارًا بفضل لعبة التحالفات، كما كان الحال في مؤتمر فيينا عام 1815 حيث تعايشت عدة قوى. هذا التقارب محتمل جدا بسبب التباطؤ الاقتصادي في نمو القوتين العظميين. فالصين على سبيل المثال، من المرجح أن تتراجع بسبب فقاعة العقار ونقص في اليد العاملة وارتفاع في الأجور مع انخفاض أرباح الشركات، مما قد يغري هذه الأخيرة للانتقال إلى خارج الصين. ومن بين نقاط الضعف التي تعاني منها الصين، نجد عدم كفاية موارد الطاقة، المشكلات البيئية، عدم المساواة الاجتماعية والجغرافية، والتوتر القائم في المناطق التي تأوي الأقليات العرقية التي تدعي استقلالها، مثل التبت و اليوغور. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الدول ترى الإمبراطورية الوسطى كأنها قوة مهيمنة بدلاً من أن تكون قوة زعيمة. وتخشى هذه الدول من حضورها الملحوظ بشكل متزايد في المؤسسات الدولية. كما تدهورت صورة الصين في إفريقيا تدريجيًا، وبدأ وجودها في القارة يقلق بعض الأفارقة أنفسهم، الذين أدركوا أن الشراكة التي تم الإعلان عنها في البداية على أنها مربحة للجميع، ليست سوى سوق خداع.
في الواقع، إن اعتماد النظام المتعدد الأقطاب، يجعل الردع النووي ولعبة التحالفات المتغيرة للغاية، يثيران عدم الثقة بين القوى المختلفة التي لن يكون أمامها خيار أجدى من التعايش وتجنب أي نزاع مسلح قد يوصل الى انتحار نووي.
إن عدم الثقة هذا، يذكرنا في الفيزياء بقانون التوازن الديناميكي الأكثر استقرارًا، حيث تقف القوى الموجودة ضد بعضها البعض وتبطل مفعول بعضها البعض مع حد أدنى نسبي من الطاقة الكامنة، أي حد أدنى من القدرة على التصرف. إذا انحرفت إحدى القوى عن موقع التوازن، فإن القوى الأخرى تعيدها إلى وضعها الأصلي. الجانب السلبي لأنظمة التوازن الأكثر استقرارا هو افتقارها إلى الديناميكية. بالمقارنة مع هذا المبدأ المادي، في حالة نظام متعدد الأقطاب يتميز بالردع النووي، فإن القدرة على التصرف ستتحول على الأرجح من المستوى العسكري إلى المستوى الاقتصادي حيث ستستعيد قوتها. سيكون هناك توازن اقتصادي أكثر ديناميكية ولكن غير مستقر للغاية، وتوازن عسكري أقل ديناميكية وأكثر استقرارًا. لن تكون المواجهة مسلحة، بل ستكون اقتصادية. سيأخذ الصراع شكل سباق لإيجاد أسواق جديدة وتوسيع مجال النفوذ. من الآن فصاعدا، سيتم قياس القوة بجاذبية النموذج الذي ستقدمه (القوة الناعمة).
وبالتالي ستصبح معظم الدول الضعيفة معتمدة اقتصاديًا على القوة التابعة لها، فتكون أكبر الخاسرين في النظام العالمي الجديد. ستقاس قوة الدولة بزخمها الاقتصادي، فنرى قوى عظمى تفقد قوتها، بينما تنمو دول أخرى قادرة على استباق هذا النظام الجديد، وتنضم إلى دائرة العظماء. سيكون الفائزون هم الذين لن يسمحوا لأنفسهم بالانجرار إلى مواجهة اقتصادية غير سليمة. ستفتح لعبة التحالفات الطريق أمام اقتصاد تعاون وانفتاح تجاري إيجابي مربح لكل الأطراف.
إن القوى المكونة لهذا النظام المتعدد الأقطاب لن يكون أمامها خيار آخر سوى ضمان النظام السياسي الجديد معًا من خلال المشاركة في إعادة كتابة قواعد لعبة العولمة. في الواقع، توضح المشاكل المشتركة التي لم يتم حلها والتي تواجه العالم أن المؤسسات والاتفاقيات لا تزال غير كافية. لذا يجب مراجعة القواعد المتعلقة بالملكية الفكرية وحماية المشاعات العالمية كالطاقة الطبيعية والموارد المائية وانبعاث غازات الاحتباس الحراري. ومن أجل السيطرة على الأنشطة غير المشروعة، سيتم لا محالة تعويض الأموال النقدية بالعملة الافتراضية لتسهيل التتبع ومراجعة الحسابات. من ناحية أخرى، يجب أيضًا معرفة كيفية الحفاظ على المكاسب، مثل المنظومة التشريعية الكاملة داخل منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك على وجه الخصوص هيئة تسوية النزاعات.
في الختام، من المحتمل أن يظل النظام الثنائي-متعدد الأقطاب قائما لفترة قصيرة مثل الفترة التي دام عليها النظام الأحادي-متعدد الأقطاب الذي يقترب من نهايته، وذلك بسبب الطبيعة غير المستقرة لتوازن هذين النظامين. سيكون من الضروري بناء نظام متعدد الأقطاب لأنه أكثر استقرارًا، إلا أن بناءه مشروع كبير لا يخلو من عواقب. ولا شك أنه سيؤدي إلى فوارق متزايدة بين البلدان، ودور متزايد للجهات الفاعلة الخاصة مثل البنوك وشركات مراجعة الحسابات … وهو دور أبرزه روبرت كوكس في كتابه “دور الطبقات الاجتماعية المهيمنة كمنظمة للعولمة”. فمثلا، رأينا مؤخرًا أن مؤسسة بيل وميليندا جيتس تمول مليارات الدولارات في مجال البحث في وباء فيروس كورونا المستجد. وهذا يثبت أن الولايات المتحدة ليست غائبة حقاً، حتى لو انسحبت من منظمة الصحة العالمية.
حتى لو كنت أعتقد أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في 3 نوفمبر يجب أن تبقي في السلطة السياسة الجاكسونية الانعزالية الضرورية للولايات المتحدة على المدى القصير لمواصلة الضغط على المنافس الصيني، فإن المدى المتوسط سيعرف لا محالةتغييرا جديدًا في السياسة الأمريكية. إن التيار السياسيالجاكسونى سوف يفسح المجال للتيار الويلسوني، في إشارة إلىالرئيس وودرو ويلسون الذي دعا إلى التعددية. سوف يتم استبدالالأحادية بتعددية الأطراف، الطريق الوحيد للازدهار في عالم به العديد من اللاعبين الرئيسيين. لم يكن الرئيس ويلسون هو أول من طرح نظام التعددية، فقبله بوقت طويل وبالضبط في عام 1795، صاغ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في “مشروع السلام الدائم” شروطًا لخلق سلام دائم حقيقي. كانت هذه الشروط هي بداية “نظرية السلام الديمقراطي”. لا يمكن دعم ذلك إلا إذا احترم اللاعبون المهيمنون سيادة الدول الأخرى بما فيها الدول التابعة اقتصاديًا. أما إذا تم عكس ذلك، فحتى أقوى الدول عسكريا يمكن أن تواجه صعوبات في حرب متغيرة مرتبطة بفشلها في إدارة المشاكل المتعلقة بالهجرة والمخدرات والإرهاب والأوبئة.
تعددية الأطراف وتلاحم الجهود يبقى هو الطريق الوحيد لمعالجة المشاكل الوبائية والمناخية والاقتصادية والأمنية المتصاعدة. في انتظار ذلك، فإن الأحادية الحالية أضعفت التعددية وأدت إلى تعددية بهندسة مغايرة بين مجموعات الاتصال غير الرسمية.