“كوماري” النيبال آلهة صغيرة تغادر القداسة عند البلوغ

ينتشر تقليد عبادة الفتيات الصغيرات بين البوذيين والهندوس في النيبال، هؤلاء يمثلن الطاقة الإلهية الأنثوية، والتي ترمز إليها الآلهة “كالي” بالتحديد، وهي آلهة القوة في الديانة الهندوسية، لكن بمجرد بلوغهن سن الحيض يعدن إلى الحياة الطبيعية وسط عائلاتهن ما يشكل لهن متاعب نفسية وجسدية.

كاتماندو – انتابت كهنة المعبد أحاسيس في وقت مبكر بأن الصغيرة بريتي شاكيا مميزة عن قريناتها، فلاحظوا أولا أن البرج السماوي الذي ولدت فيه يماثل نفس برج الملك في ذلك الحين، ثم أنها حققت 32 من معايير الكمال، ومن بينها أن ساقيها تشبه سيقان الغزال، وصدرها مثل صدر الأسد وصوتها كأنه صادر عن بطة، ورموشها تشبه رموش البقر، وتتمتع بلون العينين المناسب، وغيرها من المعايير غير الاعتيادية.

حتى إذا كانت الطفلة لديها كل الخصائص المذكورة، فيجب أن يكون الرسم الفلكي للصغيرة إيجابيا.

وتشكل الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهم بين ثلاث وأربع سنوات من مجتمع “نيوار” من السكان الأصليين في كاتماندو فئة الآلهة الحية المحتملة. ويمكن للوالدين إرسال بناتهم إلى الكهنة الهندوس للنظر في أمرهن.

ويتم اختيار الفتاة “المقدسة” في طقوس سرية، أما الدليل النهائي على تميز هذه الطفلة بريتي شاكيا فقد ظهر منذ 19 عاما ذات ليلة مباركة.

وتقيّم الفتيات منذ سن صغيرة لمعرفة ما إذا كنّ يلائمن معايير الآلهة العذراء، الملقبة بـ”كوماري” وتعني كوماري حرفيّا “عذراء”.

ويعود السبب في اختيار الإناث بلا الذكور إلى سبب اعتبار النيباليين أن رحم المرأة يمثل أصل الحياة. ورغم تعدد آلهة “كوماري” في النيبال، إلا أن آلهة كاتماندو، هي الأكثر أهمية.

طقوس غريبة
آلهة بكامل أناقتها
وتم اصطحاب الصغيرة بريتي إلى المعبد ليلا، وأضاءت الشموع الطريق الذي سلكته بين رؤوس الجاموس المفصولة عن أعناقها، وظلت الطفلة هادئة ورابطة الجأش وبذلك نجحت في الاختبار النهائي، وتيقن الكهنة بشكل مؤكد أن بريتي هي تجسيد لآلهة الهندوس ذات القوة والنفوذ.

وجرى هذا الاختبار عام 2001 عندما أصبحت بريتي، وفقا لتقليد متبع طوال قرون في وادي كاتماندو،هي “كوماري” الجديدة في سنها الغض الذي لا يتجاوز ثلاثة أعوام.

ولا تستطيع بريتي أن تتذكر أحداث تلك الليلة، ولكنها علمت بذلك من أسرتها الجديدة في معبد “كوماري” حيث ترعرعت بريتي مثلها في ذلك مثل الإلهات الصغيرات اللاتي سبقنها.

وقال لها أبواها في ما بعد، إنهما شعرا بالفخر وقتذاك، وإن أمها بكت عندما سلمت ابنتها الصغيرة للمعبد.

وبعد أن دخلت بريتي المعبد خضعت لضوابط صارمة بعكس ما تمارسه نظيراتها الصغيرات في حياتهن العادية؛ فعندما تُصبح الفتاة “كوماري”، تُعزَل عن الحياة العامة وتبقى في المعبد، وتتوقف عن الذهاب إلى المدرسة، ولا يُسمح لقدميها بلمس الأرض، وتُحمل كل الوقت على الأيدي. وكان يتعين عليها أن تلتزم الحرص، فمثلا لا يجب أن تتعرض الطفلة التي تجسد الآلهة لأي خدوش دامية، حيث وفقا للمعتقدات فإنه في حالة حدوث ذلك ستخرج الآلهة الهندوسية من جسم الطفلة، وذلك وفقا لما يقوله جوتام شاكيا.

طلبا للبركة
وتعتني عائلة شاكيا بالإلهات الصغيرات في معبد كوماري منذ أحد عشر جيلا. ويشير شاكيا إلى أن القواعد الخاصة بالآلهة الصغيرة تتيح لبريتي أن تخرج من المعبد 13 مرة في العام لحضور الاحتفالات الدينية.

وتظل الآلهة الحية في المعابد، حيث تواجه روتينا يوميا مرهقا يتضمن طقوسا دقيقة تبدأ بوضع كحل ثقيل للعينين تليه صلوات، ثم فيض لا ينتهي من الزائرين الطامحين إلى الحصول على البركات.

ويعبد المخلصون الآلهة الحية، وبعضهم يطلب حتى أن تلمس قدم الصغيرات جبهاتهم طلبا للبركة. وعلى خلاف بنات سنها، فإن كوماري تعيش طفولة غير طبيعية.

وعند خروجها تحمل الجماهير المبتهجة بريتي عاليا فوق محفة ذهبية، وتسعى للحصول على البركت منها.

وتجري استعدادات كثيرة لمثل هذه الاحتفالات، حيث ترتدي بريتي ثيابا حمراء وتضع مساحيق التجميل، ويتم رسم عين كبيرة ثالثة على جبينها بالأسود والذهبي والأبيض، تدلّ على مكانتها الإلهية.

وتقول الأسطورة إنه يمكنها أن ترى عن بعد عدة أميال، وأيضا أن تستشرف ملامح المستقبل.

الحيض نهاية القداسة
ذكريات بعد النزول من العرش
بمجرد وصولها سن البلوغ، يتغير كل شيء في حياة “كوماري”، ويخصص لها احتفال “غوفو” الذي يدوم 12 يوما للإعلان عن تقاعدها، وتعود بعدها إلى الحياة العادية التي لم تعرفها أبدا. وتتم خلال الاحتفال ممارسة بعض الطقوس إذ تؤخذ “كوماري” إلى أقرب نهر فيغسل شعرها وتزال العين الثالثة التي رسمت على جبينها.

حفل “غوفو” هو مناسبة كبيرة تمثل بداية الحياة الطبيعية للطفلة ودخولها إلى المدرسة والعودة إلى أسرتها والعيش في الأماكن العامة، بعد سنوات من الغياب.

وظل ناشطو حقوق الطفل ينتقدون تقليد كوماري، ويؤكدون أنه ينتهك حق الفتيات في الاستمتاع بطفولتهن وحقهن في التعلم.

يقول جاوري برادهان، المفوض السابق بالمفوضية الوطنية لحقوق الإنسان، “في النهاية، الآلهة الحية هي طفلة، ومن ثم لا تتعين معاملتها بطرق ربما تكون لها تأثيرات سلبية على نفسيتها”.

وتم رفع طلب إلى المحكمة العليا في النيبال عام 2005 لوضع نهاية لهذا التقليد. وفي نهاية المطاف، رفضت المحكمة الطلب إلا أنها أمرت الحكومة باتخاذ إصلاحات.

وفي عام 2008، صدر حكم من المحكمة العليا بالنيبال يلزم الحكومة بحماية حقوق الإنسان، بعد شكاوى من انتهاكات حقوقية ضد الأطفال الذين اختيروا لهذه المهمة.

وقال تشوندا باجراتشاريا، أستاذ الثقافة بجامعة تريبوفان في كاتماندو، إن التقليد قد تغير بشكل كبير على مرّ السنين.

وأضاف، “هذا ليس انتهاكا لحقوق الفتيات. فالفتاة يكون مسموحا لها بالألعاب الداخلية. وهذا إنما يظهر أن ثقافتنا تقدّر طفولتها وتمنحها سلطة إلهية. ثم إن الأمر يتعلق بمجرد سنوات قليلة تكون بعدها حرة”.

صدمة الواقع
عائلة شاكيا تعتني بالآلهة
أثيرت قضايا جدلية في الآونة الأخيرة عن عدد قليل من النساء اللواتي كن آلهة كوماري حيث تحدثن عن بعض الصعوبات التي واجهنها عندما انتهى دورهن كآلهة، وبعدما تم إبعادهن عن أسرهم، وجدت العديد من الفتيات صعوبات في التكيف مع الحياة الطبيعية وإعادة التواصل في العلاقات مع العائلة والمجتمع.

مع دخول الفتاة إلى المدرسة وعودتها إلى حياتها الاجتماعية، غالبا ما تواجه صعوبة في المشي على قدميها بسبب اضطرارها للجلوس بلا حركة لسنوات طويلة.

ومضى الزمن ولم تعد بريتي حاليا آلهة، وعندما تتذكر أحداث الماضي تفتقد هذه الفترة على الرغم ممّا بها من غرائب.

وتتذكر قائلة “في البداية لم أكن أعلم ما الذي أفعله، ولكني عندما بلغت السادسة أو السابعة من عمري أدركت أنني بإمكاني أن أمنح البركة للناس، وكان هذا شيئا رائعا”، وتضيف إنها مع ذلك لم تشعر أبدا بالطاقة الإيجابية التي تعطيها هي للناس.

وأثناء بقائها مع العائلة التي ترعاها بالمعبد كانت تتمتع بوضع مميز، حيث كانت تحصل على الطعام قبل الآخرين، كما لم تتعرض مطلقا للعقاب مثل الأطفال الآخرين.

وكانت نساء العائلة التي ترعاها تعتني باستحمامها كل يوم وبملابسها وزينتها، قبل أن يجلسنها على العرش في معظم الأيام، ويأتي العابدون ويركعون أمامها جالبين معهم أقمشة جميلة وقطع الشوكولاته والفاكهة والنقود ولعب الأطفال.

وفجأة تغير كل شيء بالنسبة إليها مرة أخرى عندما بلغت 11 عاما من العمر. فقد تمت إعادتها إلى أسرتها الطبيعية، التي كانت تزورها مرة كل أسبوع خلال الأعوام الثمانية السابقة.

وتقول بريتي “لم أفهم لماذا كان عليّ أن أغادر المعبد، وشعرت بحزن شديد”.

هذا ليس انتهاكا لحقوق الفتاة ويكون مسموحا لها بالألعاب في المعبد وهذا يظهر أن ثقافة النيبال تقدّر طفولتها وتمنحها سلطة إلهية
ولم تكن تعلم وقتذاك أن فترة البقاء كآلهة تنتهي وفقا للتقاليد قبل أن تأتيها الدورة الشهرية. وتعد الدورة الشهرية مصدرا للدنس في نيبال، وبالتالي لا تتماشى مع كون الطفلة آلهة.

والآن وقد بلغت بريتي من العمر 22 عاما أصبحت ترتدي الجينز، وتدرس حاليا الاقتصاد، وتقول إن التحول إلى الحياة العادية كان صعبا بالنسبة إليها، وشعرت بالغربة حين انضمت إلى أسرتها في البداية.

وعندما ذهبت إلى المدرسة الابتدائية المحلية خطت على أرض تعد قذرة للغاية بالنسبة لوضعها السابق كآلهة، وتتذكر عندما رأت الطرق قائلة “إنني خشيت من أن تصدمني عربة” وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها سيارات، وكانت أمها تصطحبها إلى المدرسة في البداية.

ولا تزال بريتي تزور معبد كوماري من آن إلى آخر، وشعرت بالغيرة في البداية عندما رأت الناس يعبدون طفلة أخرى، وتقول “لكنني الآن أشعر بأنني بخير وبأنني أتمتع بحريتي”.

وهي ترى أن هناك شيئا واحدا لا تحبه، وهو أن البعض يقولون إنه يجب على الفتيات اللاتي كن إلهات سابقات أن يبقين بلا زواج، لأنه مقدر على أزواجهن أن يموتوا مبكرا.

وقبل بضعة أجيال كان المعتقد أن الزواج من الآلهة السابقة يجلب سوء الحظ للرجل وأنه سيموت إثر سعال الدم، و لكن في السنوات الأخيرة تلاشى هذا الاعتقاد إلى حد ما وتمكنت الكثير من آلهة كوماري من الزواج والإنجاب .

وتؤكد بريتي أن “هذا القول لا يمت للحقيقة بصلة، حيث أن بعض آلهة كوماري تزوجن ولا يزال أزواجهن على قيد الحياة”.

وهي لم تلتق بالزوج المناسب بعدُ، ولكنها تأمل في أن تلقاه قريبا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: