أحمد عصيد باحث مغربي يواجه المتطرفين بتطرف من نوع آخر

سجالي حد الصدام، يتحدث في كل المواضيع ويقحم أنفه في جميع القضايا، لديه طاقة كبيرة على لي عنق النصوص، حتى وإن كانت آيات قرآنية، حتى تتلاءم مع معتقداته وأفكاره. معتز بثقافته وانتمائه حد الغرور، غالبا ما ذهبت به نفسه الأمارة بالجدال إلى منحدرات عميقة وأدخلته في منعرجات حادة.

يقدم نفسه ككاتب وباحث وشاعر وناشط حقوقي يشتغل ضمن المجتمع المدني. هدفه إشاعة الفكر الديمقراطي داخل المجتمع لتهيئة المواطن على المشاركة والبناء والتغيير والخروج من التخلف، بهذه الخلفية دخل أحمد عصيد معارك متعددة تشابك فيها مع السلفي والحقوقي والمثقف والشاعر والسياسي، ولم يهدأ إلى حد الساعة في سبيل أن يبقى اسمه عنوانا مشاكسا في المشهد الثقافي والحقوقي والأمازيغي.

لم يتقبل جمهور واسع من الفقهاء والباحثين في الفكر الإسلامي ما قاله عصيد، بأن القرآن نص مفتوح على القراءة وإعادة القراءة حسب مستجدات كل عصر وبأنّ الأحاديث هي مصدر الكثير من المشاكل بل معظمها، لأن الفقهاء القدامى وضعوا الحديث قبل القرآن، مع العلم أن الأحاديث أخبار ظنية مروية عبر قرنين من الزمن بالتقليد الشفوي قبل تدوينها، معتبرين أن ما تفوه به مجرد حقد أعمى لا علاقة له بواقع الأمر.

صراع وتهديدات

نقد علمي لأخطاء الشيخ ياسين، المرشد السابق لجماعة العدل والإحسان

دشن مواجهته مع الإسلاميين عندما ناصبته العدل والإحسان والإصلاح والتجديد العداء، في الوقت الذي كان مدرسا للفلسفة بتارودانت جنوب المغرب في العام 1988، حيث إنه يقول إن تلك التيارات أشاعت عنه أنه ملحد ومعاد للإسلام لمحاصرة عمله الذي قال إنه تنويري داخل الثانوية والمدينة، ثم تطور الصراع مع ظهور خطباء يتحدثون من منابر المساجد عن الجمعيات الأمازيغية بوصفها عميلة للاستعمار وضليعة في مخطط تآمري في العام 1995.

كتابه “الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي” يصفه بأنه نقد علمي لأخطاء الشيخ ياسين، المرشد السابق لجماعة العدل والإحسان، وهو ما لم تقبله الجماعة، فقاطعت القراءة التي نظمت لقراءة الكتاب، ويضيف عصيد ”تلقيت بعد ذلك بعشرة أيام رسالة تهديد مما جاء فيها (لنسلخنك كما تُسلخ الشاة)“، اعتبرها هو نصرا فكريا على الإسلاميين ولحظة حاسمة تيقن فيها من أهمية وضرورة تبني الحركة الأمازيغية للفكرة العلمانية.

صنفه كثيرون بأنه لا يقل تشددا في الجانب العلماني عن المتطرفين في الجانب الإسلامي، إذ كيف يطالب بحلّ “المجلس العلمي الأعلى” معتبرا إياه رمزا لفقه عصور الانحطاط ومعاكسة للتنوير، رغم أن هذا المجلس أصدر فتاوى تساير العصر وتستمد أفقها من ترسانة كبيرة من الاجتهادات اعتبارا للظروف والحالة السياسية والثقافية والاجتماعية للبلاد. حتى عندما أراد إفحام أعضاء العدالة والتنمية ومؤيديهم، خانه حدسه وضل الطريق، وبالتالي أدان نفسه عوض تعرية نفاق الإسلام السياسي، فما معنى أن يتساءل وبسجالية واضحة، قائلا ”إذا كان الله شخصيا بذاته وصفاته مؤيدا لحزب العدالة والتنمية وراعيا لتجربته السياسية، فلماذا لم يحصل الحزب على أكثر من مليون ونصف مليون ناخب؟ هل صحيح أن ذلك كل ما استطاع الله تعالى تحقيقه لحزب إخواني يضم أعضاء مؤمنين ومخلصين قانتين؟“.

ومن هذا الباب يدخل السلفي المعروف محمد الفزازي رئيس الجمعية المغربية للسلام والبلاغ، الذي خاطب عصيد بالقول “إنه أحرق كل أوراقه الخُلقية ولَم يعد صالحا لأيّ نقاش مجتمعي”، مضيفا أنه ”على العلمانيين في بلادنا أن يبحثوا عن محاور غيره، أنا شخصيا سأحترم أيّ رأي كيفما كان ومهما بلغ في المخالفة، بشرط أن يكون المخالف ذا أدب وإنصاف“.

مغالبة الفلسفة

لاحظ أستاذ الفلسفة، وهو ابن السادسة عشرة، الفرق بين الفلسفة التي اعتبرها مادة تربوية وبين التربية الإسلامية التي كانت تحرص على أن تجعل منا مؤمنين دون تفكير، أي فقط عبر حفظ النصوص والتسليم بها دون مناقشة أو بحث أو مساءلة، واختياره دراسة الفلسفة كونها لا تحمل، في زعمه، حقائق قطعية ونهائية ولا أوامر ونواهي زجرية، ولا تهديدا بعقاب أو إغراء بجزاء، وأن أفكار الفلاسفة ليست عقائد ومذاهب مغلقة. وكعادته بإقحام الدين في كل القضايا التي يهتم بها منها الدروس المدرسية الخاصة بمادة التربية الإسلامية، فقد اعتبر هذه الدروس غير منسجمة مع المفهوم الكوني لحقوق الإنسان، وتساهم في جعل التلاميذ مؤمنين بالدين الإسلامي مصدقين بنصوصه وممارسين لشعائره، باستعمال أسلوب “الترهيب والترغيب” وأخبار الغزوات والحروب الأولى ضد “الكفار” و”المشركين”، والتمييز بين المؤمن و”الكافر”، كما يتضمن الدرس أخبار المعجزات والخوارق التي تستوجب الإيمان والتسليم الروحي لا المناقشة والفحص والتحليل أو النقد.

لم يتقبل جمهور واسع من الفقهاء والباحثين في الفكر الإسلامي ما قاله عصيد، بأن القرآن نص مفتوح على القراءة وإعادة القراءة حسب مستجدات كل عصر وبأنّ الأحاديث هي مصدر الكثير من المشاكل بل معظمها

وباعتباره كان رئيسا للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، فهو يدافع عن درس الفلسفة الذي يشجع التلميذ على التفكير وطرح الأسئلة حول وجوده ومحيطه وقضايا مجتمعه وواقعه الإنساني، دون أن يقدّم أي أجوبة جاهزة أو أي وصفة مسبقة، وعندما يقدم مواقف وآراء الفلاسفة فإنما يقدمها في إطار نسبي على أنها مواقف مختلفة حسب الرأي والمذهب والاتجاه الفلسفي، وليست معتقدات نهائية على التلاميذ اعتناقها.

إن الحل ليس في اجتزاء النص القرآني، وانتقاء بعضه وترك بعضه الآخر، تقول ماجدولين النهيبي الخبيرة بكلية علوم التربية في جامعة محمد الخامس بالرباط “بل لا بد من تجاوز القراءة السطحية المباشرة، وهي نفس القراءة التي أدت في عدد من الدول الإسلامية إلى ظهور التشدد الفكري والتطرف، وهي نفس القراءة التي قام بها أحمد عصيد للآيات القرآنية، وهي القراءة ذاتها التي خلقت داعش والنصرة وأخواتها”.

عصيد لا يعترف بخطأ صدر عنه ويقول إن له حق الاجتهاد رغم أن منتقديه يسردون سيلا من الحماقات البعيدة عن الاجتهاد في البحث العلمي الرصين، ويقولون حتى محاكمته على أفكاره غير مجدية وستعطيه فرصة البروز في سوق المظلومية كتيار الإسلام السياسي وتجعل منه ضحية، والأهم بالنسبة لهؤلاء أن مقارعة الحجة بنسيبتها في الفلسفة والفكر والدين هي الأفضل للكل.

الأمازيغية كما يتصورها

المناهج المدرسية الإسلامية يعتبرها عصيد غير منسجمة مع المفهوم الكوني لحقوق الإنسان، تساهم في غسل أدمغة التلاميذ، باستعمال أخبار الغزوات والحروب الأولى ضد “الكفار”

لعصيد مسار طويل داخل الحركة المدنية المغربية عموما، والحركة الأمازيغية بالنسبة إليه، مُسيّسة منذ البداية، ذلك أنها عندما تتحدث عن الحقوق الثقافية واللغوية وعن الهوية تعني في نفس الوقت ضرورة تغيير سياسات الدولة ومنظورها لنفسها وكيفية قراءتها لتاريخها، وهذا عمق السياسة، فروح السياسة هي الثقافة، والسياسة دون ثقافة عمياء تماما لأنها ستكون دون فكر. وتجاهلا لقانون الأحزاب الذي يمنع تأسيس الأحزاب على أساس عرقي، يعتقد عصيد أن شروط إنشاء حزب بالمواصفات التي يتخيلها لا تتوفر للأمازيغ الذين في قيم ثقافتهم يرفضون الزعامة ويفضلون التسيير الجماعي، بينما هذا لا ينفع في الحزب لأن الذي سيجمع الناس هو الزعيم صاحب الكاريزما، ورغم تغير مفهوم الكاريزما اليوم إلا أنه ما زال هو العامل الرئيسي في التحزيب.

بعدما اقتنع بمضامينه انخرط عصيد في دينامية البيان الأمازيغي التي انطلقت في مارس 2000، ضمّ أفكار ومواقف الحركة، وعبّر عن مستوى تطور الخطاب الأمازيغي في تلك الحقبة من التاريخ، نتج عنه تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في العام 2001، الذي عمل به إلى جانب اشتغاله مع الجمعيات الأمازيغية المختلفة مواظبا على نشاطاتها بمعدل ثمانين لقاء ثقافيا في السنة.

ويحذر أكاديميون من سعي قوى خارجية إلى استغلال طمع بعض الناشطين من غلاة العداء للإسلام والعربية ومنهم عصيد، ليكونوا حصان طروادة لاختراق وحدة وتنوع المغرب وتهديد مكوناته اللغوية والعرقية، وباعتماده على نوع من التذاكي السياسي يعول عصيد كثيرا لنجاح مشروعه على ما أسماه اندحار الإسلاميين وسقوطهم سواء في الحروب التي دخلوها باسم “داعش” و”جبهة النصرة” و”القاعدة”، أو باسم الانتخابات والعمل المؤسساتي حيث فشلوا في إيجاد حلول لمشاكل الشعوب التي تعاني من الاستبداد والتفقير والتجهيل.

ذبح العرب

أستاذ الفلسفة لا يعترف بأي خطأ يصدر عنه. يقول إنه يمتلك الحق في الاجتهاد، رغم أن منتقديه يسردون سيلا مما اعتبروه حماقات بعيدة عن الاجتهاد في البحث العلمي الرصين

حتى عندما تحدث عن المرأة أقحم النص الديني، معتبرا أحاديث السنة النبوية سببا في تضرر النساء اللواتي تم استعبادهن باسم البخاري ومسلم، لكن صديقته السابقة الناشطة الأمازيغية مليكة مزان، نسفت هذا المعطى الدفاعي عن المرأة عندما خرجت في العام 2014 للحديث عن علاقتهما. إذ أدانته بكونه هو من تحرش بها زمنا طويلا وخرب بيتها ودمر حياتها بسبب ما قالت إنه عشقه المزعوم لها، وكان من أسباب طلاقها.

يعدّ عصيد حليفا رئيسيا للحركة النسائية المغربية، وعضوا ضمن الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، وقد شارك في تأسيس تنظيمات مدنية كثيرة مثل “منتدى المواطنة” و”بيت الحكمة” و”اليقظة المواطنة” و”حركة ضمير”، وأسس سنة 2009 “المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات” الذي هو اليوم رئيس له، وكلها جمعيات تعنى بالحقوق والحريات.

اعترفت مزان بعد معايشتها اللصيقة والحميمة للناشط الحقوقي عصيد، بأنه كان يتظاهر بالدفاع عن المرأة ويطالب بحمايتها من عنف الفقهاء ومن السلطة الذكورية، ويتعامل معها بشكل عنيف وغير إنساني، وأنه مارس عليها العنف الجسدي والرمزي، وأقدم على صفعها.

وكي يحافظ على سمعته أمام الرأي العام الأمازيغي وغيره، لم يعترف عصيد بزواجه من مزان، لكنها أكدت أنها تملك وثيقة زواج، وتمنت من زوجته وأبنائه بشكل خاص أن يلقوا نظرة على هذا الدليل وهو وثيقة عقد زواج مكتوبة بيد وخط عصيد نفسه وتحمل رقم بطاقته الوطنية وكذلك توقيعه الخاص.

لعصيد مسار طويل داخل الحركة المدنية المغربية عموما، والحركة الأمازيغية بالنسبة إليه، مُسيّسة منذ البداية، ذلك أنها عندما تتحدث عن الحقوق الثقافية واللغوية وعن الهوية تعني في نفس الوقت ضرورة تغيير سياسات الدولة ومنظورها لنفسها وكيفية قراءتها لتاريخها

نفس الشخصية الأمازيغية المتطرفة التي جمعتها بعصيد علاقة فوق الصداقة تشدد على أنها علاقة زواج شرعية وتحت رعاية “الإله ياكوش”، تم الزج بها في السجن قبل ثلاث سنوات، بتهمة التحريض على ارتكاب جنايات وجنح ضد الأشخاص والتحريض على التمييز والكراهية على خلفية تهديدها بـ”ذبح العرب بالمغرب، واحدا واحدا، وطردهم”، إذا لم يسمح للأكراد في العراق، بالانفصال وتأسيس دولتهم.

انضم عصيد إلى المكتب المركزي لـ”اتحاد كتاب المغرب” سنة 1999، وهو عضو مؤسس لـ”بيت الشعر بالمغرب”، واحتكاكه بالشعر بدأ منذ سن الرابعة عشرة، إذ شرع في النظم باللغتين العربية والأمازيغية، وقد كتب الشعر العربي على البحور القديمة، كما نظم الشعر الأمازيغي على أوزانه التقليدية العريقة التي تتجاوز 48 وزنا في الجنوب المغربي وحده، ولكنه يعترف بأنه لم يستطع خوض الحوار الشعري المرتجل الذي يسمى “أنعيبار” إلا في سن الثامنة عشرة.

كان اهتمامه في مجال الأمازيغية منصرفا إلى حقل الأدب وخاصة الشعر الأمازيغي التقليدي، بعدها بدأ يهتم بكتابة المقالة للدفاع عن الحقوق الثقافية الأمازيغية، ومحاولة لفت الانتباه إلى أهمية العناية بالتنوع الثقافي الذي يعتبره ثروة رمزية حقيقية لا تتم الاستفادة منها متهما الطبقة السياسية المغربية بتبني نموذج الدولة الوطنية الفرنسية، المبنية على مبدأ التمركز وخلق التجانس المطلق ومحاصرة عناصر التنوع ومحوها من أجل سيادة الثقافة الرسمية وحدها، بشعار “العروبة والإسلام“ بجانب الثقافات الأجنبية.

يحب عصيد الاستشهاد بالشعر الأمازيغي خصوصا في الخمريات والمجون عند مقارعته التيار المحافظ حتى من الذين ينتمون إلى الثقافة الأمازيغية، لكن خصومه دخلوا معه غمار المزايدة الثقافية، وتحدوه بأن يرجع إلى ما نظمه في العلماء وفضلهم، وفي الدين ودوره في الحياة العامة للأمازيغ، فطاحل الشعراء الأمازيغ أمثال الرايس، وهي كلمة تعني الشاعر عند أمازيغ منطقة سوس، محمد الدمسيري والحاج بلعيد والرايس المهدي بنمبارك وآخرون، ممن استوحوا أشعارهم من نصوص القرآن التي لا يحب عصيد أن ينادي الإسلاميون بتحكيمها في الحياة العامة للناس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: