لماذا تقاوم الجزائر حتى الآن إغراءات صندوق النقد الدولي
سلط المتابعون للشأن الاقتصادي في أفريقيا الضوء على إصرار الجزائر على التمسك بموقف عدم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي حتى في أشد أزماتها، بينما تتخلى معظم بلدان القارة عن رفضها لأي تمويل من هذه المؤسسة المالية، التي تشكل في نظر البعض المتحكم في سيادة الدول المتضررة ماليا.
لفتت مكابرة الحكومة الجزائرية ورفضها اللجوء إلى صندوق النقد الدولي انتباه المحللين رغم تسارع انحدار أوضاعها المالية وبدا فيه الاقتصاد عاجزا عن مواجهة صدمة تفشي فايروس كورونا وتبعاته المدمرة على عائدات الطاقة.
ومع تخلّي الدول في جميع أنحاء أفريقيا عن رفضها لطلب مساعدة الصندوق، لا تزال الجزائر، البلد العضو في منظمة أوبك، تتمسك بموقفها، لكنها قد تحتاج إلى عملية انتعاش سريعة في أسعار النفط أو الدعم الصيني تبقيها واقفة على قدميها.
وفي قارة حيث كانت التجارب المتقلبة مع الصندوق، أو كراهية التدخل الأجنبي، تعني خوفًا من المقرض، فإن الخراب الاقتصادي الذي أحدثه كورونا يثير بعض التحولات المفاجئة.
وعلى سبيل المثال، تقبل الدول الأكثر اكتظاظا بالسكان في قارة أفريقيا، وهي مصر ونيجيريا وإثيوبيا، الآن مساعدة صندوق النقد.
وحتى دولة جنوب أفريقيا، حيث بشر المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم بتحقيق الاكتفاء الذاتي منذ سقوط نظام التمييز العنصري، تتفاوض الآن مع الصندوق على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار.
وتقول وكالة بلومبرغ الأميركية للأنباء الاقتصادية إنه في خضم لجوء معظم دول القارة إلى الصندوق لطلب المساعدة المالية تبدو الجزائر، الدولة الغنية بالنفط والغاز التي عانت من تعاملها مع هذا الكيان خلال العشرية السوداء في تسعينات القرن الماضي، أحد أهم معاقل مقاومة هذا الكيان.
واستبعد الرئيس عبدالمجيد تبون، الذي انتخب في ديسمبر الماضي بعد تفجر احتجاجات ضد نظام عبدالعزيز بوتفليقة، الاستعانة بالصندوق، قائلا إن “ذلك سيعرض سيادة البلاد للخطر”.
ونسبت بلومبرغ إلى دالية غانم، الباحثة الجزائرية بمركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، قولها إن “صندوق النقد هو رمز أزمة ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وهو ذكرى مؤلمة للعديد من الجزائريين”.
لكنها استدركت بالإشارة إلى أنه في حين أن احتياطيات الجزائر النقدية تكفي لتغطية عامين مقبلين، إلا أنه بعد ذلك سيتفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي إلى الأسوأ ومن المحتمل “حدوث انفجار”.
ولا شك في أن الخطوات الجريئة مطلوبة، ومع انهيار النفط والاضطراب المرتبط بالوباء، قد تواجه الجزائر البالغ تعداد سكانها 44 مليون نسمة عاصفة اقتصادية.
ويتوقع بنك الجزائر المركزي أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.6 في المئة بنهاية العام الجاري قبل أن يتعافى مرة أخرى.
ورسم صندوق النقد في أبريل الماضي آفاقًا متشائمة للاقتصاد الجزائري، متوقعًا عجزًا في الميزانية بنسبة 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع حدوث عجز في الحساب الجاري أسوأ مما هو عليه في لبنان.
ومن المؤكد أن الجزائر لا تقف الآن في وضع صعب للغاية كما كانت في أواخر ثمانينات القرن الماضي، عندما دفعتها أزمة ديون إلى طلب مساعدة صندوق النقد وكافحت الحكومة لخفض الإنفاق والوظائف أثناء غرقها في صراع مدمر.
ورغم أن الاحتياطيات الأجنبية تحقق الآن أدنى مستوياتها منذ أكثر من 14 عامًا، لا يزال هناك الكثير في البنك المركزي، كما أن الدولة ليست غارقة في الديون الخارجية.
ويقر تبون، وهو مطّلع على دواليب الدولة النفطية منذ فترة طويلة، أن بلاده تمر بأزمة “مؤقتة”، لكنه قال خلال تصريحات صحافية في أبريل الماضي، إنها “ليست كارثية”، متوقعا انتعاش أسعار النفط من جديد.
ووفق صندوق النقد، تحتاج الجزائر إلى سعر 167 دولارا لبرميل الخام حتى تصل إلى نقطة التعادل في ميزانيتها.
ومنذ بداية أزمة الوباء في فبراير الماضي، طلبت أكثر من 35 دولة من أصل 54 دولة أفريقية مساعدة طارئة من الصندوق. ووافق صندوق النقد حتى الآن على تحويل أكثر من 13 مليار دولار من أموال الطوارئ للدول الأفريقية.
وفي شمال أفريقيا، اتفقت مصر وتونس مع الصندوق على الحصول على مبالغ كبيرة، بينما تتلقى 28 دولة جنوب الصحراء تمويلًا إجماليا يبلغ عشرة مليارات دولار، أي نحو 10 أضعاف المتوسط في السنة العادية.
وقامت بعثة صندوق النقد بزيارة الجزائر آخر مرة في 2018، رغم أن البلاد تحتفظ بعلاقة منتظمة مع مؤسسات الإقراض.
ومن المحتمل أن يقدم الصندوق دعما لميزان المدفوعات الخاص بالجزائر، إذا حدثت هناك صدمة كبيرة ضربت توازنه الخارجي، أو إذا لم يتعاف الاقتصاد بالسرعة الكافية.
وعلى الأرجح سيأتي ذلك بشروط، ولكن لم يتضح بعد ما إذا كانت السلطات الجزائرية ستوافق عليها. ورفض صندوق النقد التعليق على أي محادثات للمساعدة.
ويقول تشارلز روبرتسون، كبير الاقتصاديين العالميين في مؤسسة رينيسانس كابيتال، إن توصيات صندوق النقد النموذجية لخفض الدعم أو السماح بمرونة أكبر في سعر صرف الدينار لن يتم تبنيها بسهولة في الجزائر.
لكن فايروس كورونا أجبر الصندوق على أن يتبنى سياسة أكثر مرونة في شروطه.وهناك خيارات أخرى يمكن أن تقتصد المليارات من العملات الصعبة، حيث خفضت الحكومة النفقات التشغيلية لمشاريع الطاقة الحكومية إلى النصف، وأعلنت إقرار إصلاحات ضريبية وتشديد الضوابط على تدفقات العملات الأجنبية.
كما ساعدت الحكومة الأجانب، الذين يمتلكون أكثر من 49 في المئة من الشركات المحلية في بعض الصناعات المختارة، وهي خطوة لتشجيع الاستثمار الدولي في تطوير سوق على حافة القارة الأوروبية.
ولطالما تسمك تبون بموقفه المنفتح على الاقتراض من الدول “الصديقة” في شكل مساعدات أو لتمويل مشاريع مشتركة في قطاعات مثل التعدين وتطوير البنية التحتية والزراعة.
وأدى ذلك إلى تخمين الكثيرين بأن المساعدة يمكن أن تأتي من الصين، وهي أكبر مصدر للواردات الجزائرية، ولديها بالفعل استثمارات كبيرة في الطاقة، فقد حث رئيس الوزراء، عبدالعزيز جراد، مؤخراً المواطنين على تعلم اللغة الصينية لإعداد أنفسهم للمستقبل.
وبالنسبة إلى دولة تحكمها نخبة متحفظة وانتشار المخاوف بشأن السيادة، فإن المساعدة من ثاني أكبر اقتصاد في العالم ستكون لها مزايا واضحة، وفق ريكاردو فابياني، مدير شمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، ومقرها بروكسل.
وقال فابياني إن “الصين لم تحتل الجزائر وستأتي الأموال الصينية بشروط أقل ولن يناقشوا كيفية تعامل السلطات مع الاحتجاجات أو مدى سرعة تنفيذ الإصلاحات. الأمر هنا أكثر وضوحا”.