محنة الدستور الجزائري
الحديث السياسي في الجزائر يجب أن يبدأ من النهاية، أي حديث النهايات وليس البدايات، لأن كل الدساتير التي عرفتها الجزائر طوال عهدها بالاستقلال، انتهت إلى كوارث، ولم تؤسس إطلاقا لدولة وفق ما يقتضيه تاريخ الجزائر في العصر الحديث والمعاصر. فعندما نبدأ التفكير من آخر ما انتهت إليه تجربة وضع الدساتير، نخلص فورا إلى حالة من انفصام صارخ بين الوعي العام والنظام السياسي، بحيث أن الواحد يطرد الآخر، ولا يريد إطلاقا أن يسايره. وبتعبير آخر يوضح المعنى أن نظام الحكم لا يعبأ بوثيقة قانونية تحكمه، في مقابل وعي جمعي عام يصرّ بما يمتلكه من رؤية لما ينبغي أن تكون عليه السلطة حتى يصدق عليها وصف الدولة.
عندما يلتفت أحدنا، أوبالأحرى كلنا، إلى تاريخ الجزائر مع الدساتير، يقف على حقيقة مروعة ومفزعة، أن جُلّها يؤسس لكوارث لاحقة، ولا يجترح أبدا وضعا جديدا، يمكن أن نتجاوز به إلى ما هو أفضل وأحسن. فشعار من أجل حياة أفضل، الذي رافق سنوات حكم الشاذلي بن جديد، من خلال دستوره عام 1989، أفضى إلى حرب أهلية، غطت تماما على واقعة الحرب التحريرية. وباستعراض كل الوقائع التي رتبتها الدساتير، نلحظ السجل التاريخي التالي: دستور بن بلة لعام 1963 قاد إلى انقلاب عسكري، أطاح بالرئيس، وحل محلّه قائد الأركان هوّاري بومدين. كما أن هذا الأخير رغم إخلاصه الشخصي في تسيير الشأن الجزائري العام في الداخل والخارج، إلا أن الثغرة التي فضحت النظام، تسلل منها الجيش، ممثلة خاصة في مديرية الأمن العسكري، ووضعت مرشحها الأقل حظا ونصيبا من السياسية.
وطوال فترة حكم الرئيس الشاذلي، لم ينقطع الجيش عن مواصلة التمكن من مفاصل ودواليب السلطة، وفصل قيادته عن المجتمع والنأي بنفسه عن مفهوم المرفق العام والخدمة العمومية، إلى الهيمنة والسيطرة المطلقة على السلطة، والتحكم في نواتها وتحريكها، من خلال خليتها الأولى، قيادة الأركان، أو ما يعرف بالقيادة العليا للبلد، التي تتولى تعيين الممثل المدني في مؤسسة الدولة. وفور المصادقة على دستور 1989، ضاعت الجزائر في أتون حرب أهلية، ضيّع فيها الجيش كل المصداقية، وأفرغ الدولة من محتواها، وحرّم على المعارضة أن تصل إلى الحكم مهما كان الحال. وكان لسنوات التسعينيات وقائع من النار والدمار، أبرزها اغتيال القائد التاريخي للثورة الجزائري، محمد بوضياف، في مشهد مروع ينم عن نزعة فاشية وجنون مطبق على نظام الحكم. وبقيت الجزائر تعاني مع دساتيرها، التي ترتب لها الكوارث وتؤسس لها سوابق مبهمة، لا تعرف لا في أصول السياسة العربية ولا في الممارسات الدولية. ففي سياق ما بعد الاغتيال الكبير رتبت القيادة العليا نظاما جماعيا، دائما تعود فيه الحلقة الأضعف إلى الرئيس المعين. بعدها جاء الجنرال ليامين زروال بدستور 1996، الذي لم يكن إلا وثيقة شكلية، أشبه بعقد صوري بينه وبين القيادة العليا للجيش، انتهى بالرئيس الجديد إلى رمي المئزر، وقَفَل عائدًا إلى منزله، في مشهد يؤكد قطيعة تامة بين القيادة العليا للجيش، مع المجتمع والشعب، بل القيادة في ما بينها، لأن الرئيس جنرال، ورجله الثاني جنرال أيضا.
محنة الجزائر مع دساتير توضع لها من خارج حيزها الوجودي، بعد ما تم الفصل بين القيادة العليا للجيش والمجتمع ومساره الحيوي
أما دستور، أو دساتير بوتفليقة، فلم تؤسس فقط لدولة العصابة، كما صار شائعا، ويعترف به النظام القائم ذاته، بل رتب لسابقة لا يمكن أن تغتفر بحال من الأحوال، وهي الوصول بالجزائر، في ظل حكم القيادة العليا للجيش، أن يعهد إلى إدارة الدولة الجزائرية الى قوى غير دستورية، استنكرها العالم كله، وامتعضت منها شعوب الدنيا، وألحقت بالجزائر «بهدلة» لا يمكن أن توصف، في الحوليات والتاريخ قديمه وحديثه، نالت من مصداقية الدولة ومن قيمة الشعب نفسه: كيف لجثة تحكم البلد من قبر مفتوح. ولعلنا، لا نتوقف عن سرد مأساة الجزائر مع وثيقة الدستور، من دون الإشارة إلى أن هذه الوثيقة، لم تعد تحتاج إلى فكر سياسي يتجاوب مع حياة المجتمع والأمة وتحولاتها وتطوراتها، بقدر ما يحتاج إلى «سمسار قانوني» يحمل معه حقيبة مشبوهة، ساعيا إلى البحث عن صفقات «قانونية» على أعلى طراز من القرصنة والسمسرة والسطو على إرادة الشعب.
محنة الجزائر إذن هي مع دساتير توضع لها من خارج حيزها الوجودي، بعد ما تم الفصل بين القيادة العليا للجيش والمجتمع ومساره الحيوي. وقد أدى هذا الوضع غير السَّوي إلى تجريد الدولة من شخصيتها المعنوية والاعتبارية، وحوّلها إلى مجرد هيكل بلا قيمة قانونية ولا معنى سياسي وبلا فكر حيوي يشَرِّع للوطن ويتجاوب مع الوضع الدولي في آخر علاقاته ومنظوماته. وعليه، فعندما نقرأ تاريخ استقلال الجزائري من خلال الدساتير، نجد أن الوضع العام كله تقريباً خَضَع لأحكام حالة الطوارئ، ما يعني، من جملة ما يعني، أن الدستور كان دائما غائبا لا يُعمل به، ناهيك من تضييق نصوصه عبر مراسلات دورية تحد من الحريات ومن الحقوق ومن الشرعية، مثل إطلاق اليد للاعتقالات والمداهمات بدون إذن، وتحريم وصول المعارضة إلى السلطة، كذلك الإبقاء على تعارض القوانين واللوائح كتقنية يلتمسها النظام مخرجا له، على ما فعل القايد صالح، وهو دائما قائد الأركان، عندما انفرد لوحده يجول ويصول بين المؤسسات العسكرية، مؤكدا على حكم العسكر صراحة، وفارضا التأويلات التي يريدها هو، من نصوص الدستور، وأحكم سيطرته بالكامل، إلى أن عين صراحة الشخص الذي يريد ثم رحل إلى الأبد.
إن اعتماد المقاربة التاريخية، بأن اللاحق يفسر السابق، يوقفنا على حقيقة دساتير القيادة العليا في الجزائر، طوال تاريخ الاستقلال، حيث توقفنا على سجل خائب أتى على رصيد الحركة الوطنية والثورة التحريرية، ورَمَى الدولة بكاملها إلى مصيرها المنكوب، الذي لم تَتَعَافَ منه إلى اليوم.
وهكذا، وفي معرض اختتام هذه المقالة، نلح وبإصرار على أن الحديث عن الدستور، ليس كتدشين لمرحلة مقبلة، بقدر ما يجب أن ينظر إليه من آخر الوضعية التي تسبب فيها آخر دستور، وما سيسببه الدستور المقترح من كوارث تحل بالجزائر، ولا تُقَيّد المسؤولية فيها إلى الجهة الحقيقية التي أوعزت وعاندت في ذلك، لأن الدستور يعفيها من كل تبعة ورزء المسؤولية، على ما تصرح به كل دساتير العالم. عندما نقرأ المسودة المقترحة ليس على الشعب، بقدر ما هي مطروحة بشيء من التكتم والتستر على الأطراف المعنية والمؤيدة للنظام القائم، فإننا ندرك الجريمة التي اقترفها كل أولئك الذين زكوا الدساتير السابقة، وصوّتوا لها، خاصة في حكم دستور دولة العصابة المتهالكة.