المغرب ومصر: من يربح الرهان الدبلوماسي لحل القضية الليبية؟
لا يمكن فهم الحراك الدبلوماسي المغاربي حول الملف الليبي الذي برز مؤخرا إلا في ضوء العمليات العسكرية الجارية على الأرض، فالقاهرة التي كانت ضالعة في تفجير اتفاق الصخيرات من الداخل من خلال محور إقليمي تتزعمه الإمارات وتدعمه فرنسا، وجدت نفسها مضطرة لإنتاج مبادرة آخر ساعة من أجل احتواء التقدم العسكري الذي أحرزته حكومة الوفاق، وبعد فقدان الجنرال حفتر للأرض والقبائل المتحالفة.
الكثيرون التفتوا إلى ما تضمنه إعلان القاهرة، من دعوة لاحترام كافة الجهود الأممية لحل الأزمة الليبية، ووقف إطلاق النار في عموم الأراضي الليبية، وتفكيك الميليشيات، وتسليم أسلحتها إلى الجيش الوطني الليبي، وطرد المرتزقة الأجانب إلى خارج البلاد، وغير ذلك.
والحقيقة أن هذه المقتضيات، لا تقول شيئا في واقع السياسة، وإنما لها مدلول في واقع الحرب، فالسياسة هي استئناف للحرب بوسائل أخرى، وأحيانا تصبح هي الآليات التي يلجأ إليها عندما تسير الحرب عكس الأهداف المرسومة، فالقاهرة لم تحرك ساكنا حينما كان السراج يطوف العواصم طلبا للدعم الدولي لاحترام مرجعية اتفاق الصخيرات، وكانت تقدم شتى أنواع الدعم السياسي والدبلوماسي واللوجستي للجنرال حفتر.
ولذلك، فالدبلوماسية في المغرب العربي تفهم أن مبادرة القاهرة ليست سوى رهان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إن لم يكن رسالة من مصر أنها لن تسمح بتقدم العمليات العسكرية إلى الشرق، لأن ذلك لا يمس بمنظومة الأمن القومي المصري فسحب، بل يخلق شروط انهيار هذا نظام السيسي بالكامل.
ثمة ملاحظة مهمة ينبغي الإشارة إليها، فالقاهرة جمعت الجنرال حفتر وعقيلة صالح في الوقت الذي لم توجه الدعوة لحكومة الوفاق.
وإذا كان استبعادها لحكومة الوفاق أمرا مفهوما، إلا أنه يعكس فشل المبادرة قبل الإعلان عنها، لأن ذلك يخفي عدم وجود ثقة في الوسيط المفترض.
مصر تريد أن تبعث برسالة أنها تمسك بالورقتين معا (الجنرال حفتر وعقيلة صالح)، وأنها مستعدة لتلبية جزء من مع حكومة الوفاق في مفاوضتها، بالتخلي عن الجنرال حفتر، وأنه ليس شرطا في سيناريو الغد.
رسالة فهمتها حكومة الوفاق، وقدمت جوابها السريع برفض المبادرة ورفض التدخل المصري في الشأن الليبي، ثم التأكيد ألا مكان لحفتر في أي مفاوضات قادمة.
والواقع أنه لا جديد سواء بالنسبة للمبادرة المصرية ولا الرد الليبي، فالجواب العملي كان هو الاستمرار في العمليات العسكريةـ
الجديد في الأمر هو الحراك الدبلوماسي المغاربي، والذي اتفق على توجيه لكمة دبلوماسية هادئة إلى المبادرة المصرية، سواء من جهة تونس التي اعتبرت أن الحل لن يكون إلا ليبيا، أو الجزائر التي تستعد لإعلان مبادرة ترى نفسها أحق بها، منافسة بذلك المغرب الذي سبقها إلى احتضان اتفاق الصخيرات، ومراهنة على ورقة اعتماد أخرى، كونها دولة حدودية، وكونها وسيطا غير منحاز، وكونها تحترم وحدة التراب الليبي، وتدعم حلا سياسيا ليبيا لا تدخل أجنبي فيه.
لا يمكن فهم الحراك الدبلوماسي المغاربي حول الملف الليبي الذي برز مؤخرا إلا في ضوء العمليات العسكرية، فالقاهرة التي كانت ضالعة في تفجير اتفاق الصخيرات من الداخل من خلال محور إقليمي تتزعمه الإمارات وتدعمه فرنسا
لكن، اللكمة الكبيرة التي تعرضت لها مصر جاءت من المغرب، والذي بقي مصرا على موقفه، في التأكيد على أن المخرج لن يكون إلا باعتماد مرجعية الصخيرات، وأنه سبق للرباط أن تبنت تقييما عقب استبعادها في مؤتمر برلين، اعتبرت فيه، أن التدخل الأجنبي كان ثمرة للتحلل من اتفاق الصخيرات وضلوع قوى إقليمية في ذلك، وأن المغرب يرفض أي تدخل أجنبي في الشأن الليبي من أي جهة كانت، في إشارة منه إلى من بدأ التدخل الأجنبي قبل أن تضطر حكومة الوفاق إلى إبرام اتفاق عسكري مع تركيا.
البعض لم ير في إعادة التأكيد المغربي على مرجعية الصخيرات أكثر من لغة خشبية، ونوستالجيا وردية واستئناسا بمرحلة حالمة قادها المغرب بنجاح، لكن تجاوزها الزمن بفعل الديناميات الدولية التي أفرزت اتفاقات دولية جديدة بشأن الملف الليبي. والحقيقة أن الموقف المغربي، لا يمكن فهمه إلا في ضوء استحضار السبب الذي جعل الدول المغاربية تدخل في حراك دبلوماسي سريع عقب المبادرة المصرية، فهذا السياق يوحي بوجود ضغوط دولية على المنطقة المغاربية للتحرك من أجل إيقاف العمليات العسكرية المتقدمة في ليبيا، وأن هناك تخوفا من أن تؤدي هذه العمليات إلى قلب المعادلة بشكل كامل لصالح حكومة الوفاق ومكوناتها، وأنه لا بديل عن تحرك دبلوماسي لدول المنطقة لاحتواء هذه العمليات أو على الأقل منع امتدادها لمنطقة الشرق الليبي.
نفهم من الموقف التونسي والمغربي والجزائري شيئا واحدا، أن هناك تقديرا سياديا مختلفا يريد أن يتحرر من الضغوط الدولية، وكل دولة تحاول أن تجد مبررها للتحلل من هذه الضغوط. المغرب الذي شعر بالإهانة لحظة استبعاده من مؤتمر برلين، ووجدها فرصة لإبداء الحجة القوية التي تحرره من الضغط الدولي وفي الوقت ذاته التأكيد على صوابية تقديره في أنه لا بديل عن اعتماد مرجعية الصخيرات، وتونس بقيت على عهدها السابق، في رفض الدخول في أي اصطفاف إقليمي، واعتبار أن الحل السياسي ينبغي أن يكون ليبيا، أما الجزائر، فتتطلع هي الأخرى إلى تحقيق هدفين، الأول هو النجاح في لعب دور ما في حل المشكلة الليبية، بعد أن تأكد أن التدخل الأجنبي زاد الوضع تعقيدا، ومنافسة المغرب عدوها التقليدي، وإخراجه نهائيا من إدارة هذا الملف.
والحقيقة أنه رغم هذه التباينات، فإن ما يجمع الموقف المغاربي هو مقاومة الضغوط الدولية، وتوجيه لكمة دبلوماسية هادئة للمبادرة المصرية، والتأكيد على أن تغييب الدور المغاربي لن يزيد الوضع الليبي إلا تعقيدا، كما أن إحضاره بواقع الضغوط الدولية، لن يسهم هو الآخر سوى في إرباك الوضع ومنع تشكل أي مبادرة حقيقية لحل الملف الليبي.
ثمة ملاحظة أخرى ينبغي التنويه دلالتها السياسية والدبلوماسية، وهي الإعلان من جهة الرباط أن اول وجهة لوزير خارجيتها بعد بدء عملية التخفيف من الحجر الصحي ستكون هي تونس، وتوجيه رسالة من الملك محمد السادس إلى الرئيس التونسي. هي رسالة أكبر من التوافق حول تقدير الموقف اتجاه الملف الليبي، تستحث تنسيق الموقف، وطلب إسناد مغاربي لتأكيد صوابية التقدير المغربي في أن التحلل من اتفاق الصخيرات ستكون حالة ليبيا سيئة لا محالة لآن آثارها ستكون كارثية على منظومة الأمن للاتحاد الأوروبي.