الاعتراف باختلالات التنمية في الجزائر لا يحجب إدانة السلطات
طفا على سطح الخطاب الرسمي لدى السلطة الجزائرية الجديدة مصطلح “نقاط الظل”، كاعتراف غير مسبوق منها بتفريط المخططات والحكومات المتعاقبة، في قطاع عريض من البلاد، بعدما ترك لمصيره المجهول، أين يمارس حياته على الهامش في أحزمة الصفيح والضواحي الشعبية والقرى المعزولة، فتكاثرت حواضن الغضب الاجتماعي والاستغلال السياسي والتطرف الديني كالفطر في مفاصل المجتمع.
اعترفت الحكومة الجزائرية بإحصاء مصالحها لـ15 ألف نقطة ظل في ربوع البلاد، يعيش فيها قرابة تسعة ملايين جزائري، وهو مؤشر يعكس حجم الاختلالات التنموية والاجتماعية التي حتمت على قطاع عريض من الجزائريين أن يعيشوا على الهامش، دون أي اكتراث من المؤسسات الرسمية المختصة لتداعيات تلك الممارسات على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد.
وانطلقت من تلك الضواحي المهمشة قوافل الهجرة السرية عبر حوض المتوسط، وهناك تشكلت خلايا التطرف الديني والإرهاب، وأحبطت أحلام وآمال الكثير من الجزائريين، بسبب تلاعبات الأحزاب السياسية، التي ما انفكت تستثمر في معاناة هؤلاء وتطلق وعودها الزائفة، مما زاد في عزلة هؤلاء في أزقة تلك الأحزمة.
وهو ما أماط اللثام عن واحد من أوجه الأزمة المعقدة في الجزائر، وكشف أن تلاعب السلطة بأرقام الضواحي المهمشة لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، بعد تقلص حظوظ السلطة في شراء السلم الاجتماعي والذمم، الأمر الذي دفع الرئيس عبدالمجيد تبون إلى الاعتراف خلال حملته الانتخابية بوقوع ثلث الجزائريين داخل دائرة الفقر.
وإذ كشفت إحصائيات وزارة الداخلية عن وقوع قرابة ربع الجزائريين بين كماشات نقاط الظل، وحديث تبون على ثلاثين في المئة من الفقراء، فإن إحصائيات نقابات ومنظمات حقوقية رفعت السقف إلى أرقام أعلى لامست النصف، الأمر الذي كان صادما للبعض في أجهزة السلطة، لكنه لم يكن مفاجئا لمتابعي أطوار الأزمة المعقدة في البلاد.
ولم يسجل الالتفات لما بات يعرف في البلاد بـ”الجزائر العميقة” إلا في محطات قليلة على مر العقود الماضية، رغم أجراس الإنذار التي أطلقها المختصون في علم الاجتماع والسياسة، خاصة بعدما تحولت نقاط الظل إلى برميل بارود يهدد بالانفجار في أي لحظة، وإلى حواضن خصبة لتفريخ بؤر التوتر والأزمات الاجتماعية والسياسية.
لكن بوادر التوظيف السياسي للملف ما انفكت تلوح في خطاب المسؤولين الحكوميين، الذين حولوا المسألة إلى مجرد كلام للاجترار بدأ مع الدموع التي ذرفها رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد خلال عرض الفيلم الوثائقي بمناسبة أول لقاء جمع رئيس الجمهورية بولاة الجمهورية (المحافظين)، واستمر مع استنزاف المسؤولين للوقت انتظارا لكاميرات التلفزيون، بغية اختطاف صور خلال توزيع المساعدات الاجتماعية وحتى كمامات الحماية من وباء كورونا.
وفي خطوة لاستعطاف ذلك الوعاء المهمش، في ظل الشرعية المهزوزة التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية المنتظمة في شهر ديسمبر الماضي، تعمل السلطة الجديدة بقيادة الرئيس تبون على النهوض بشروط الحياة الكريمة في تلك الأحزمة وإدماج أصحابها في المجتمع على أمل أن يكون الوعاء السياسي للسلطة في المستقبل.
وذكر سعيد عميري ، قضى معظم حياته في حي جسر قسنطينة القصديري بالعاصمة، “إذا أراد جراد أو تبون النهوض حقيقة بنقاط الظل عليهما بترجمة الدموع التي ذرفها الأول، والوعود التي أطلقها الثاني، إلى أفعال وإلى واقع.. صحيح التركة ثقيلة لكن نقاط الظل تريد أشياء ملموسة”.
وفي حي الكروش على التخوم الشرقية للعاصمة، نبت أكبر حي للصفيح بسبب النزوح الذي عاشته البلاد خلال حقبة العشرية الدموية، وهناك ولدت وكبرت أجيال من الشباب الذين تفرقت سبلهم بين مسالك الهجرة السرية والإرهاب والجريمة، وهناك صنعت ملامح الفوارق الاجتماعية والثقافية بين سكان الكروش وبين باقي سكان مدينة رغاية.
ورغم أن العمارات نمت هناك بعد مسح الحي وترحيل سكانه إلى أحياء أخرى، إلا أن تراكمات البيئة التي تكونت في ضاحية الكروش والعشرات من الضواحي حملت مع أغراضهم إلى هناك ولم يتغير أي شيء، في ظل اهتمام السلطات بتشييد أحياء سكنية من صنف مراقد، حيث لا تتوفر على مؤسسات ومرافق الإدماج، ليبقى الفراغ مصير هؤلاء.
ويبدو أن معاناة الملايين من الجزائريين في حياتهم اليومية مع تدني الخدمات والبطالة ومساكن الصفيح، باتت مصدرا خصبا للمتاجرة السياسية من طرف مسؤولي السلطة الجديدة، بعدما كانت فضاء للوعود الزائفة من طرف الأحزاب السياسية بغية الفوز بأصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية.
ورغم تسخير السلطات السابقة إمكانيات ضخمة للقضاء على الأحياء المهمشة ورفع ولاية العاصمة لشعار “عاصمة دون صفيح”، حيث تم رصد الآلاف من السكنات الاجتماعية المجانية لقاطني تلك الأحياء، إلا أن تراكم سياسات التهميش والإقصاء والاختلالات التنموية والخدماتية بين ربوع البلاد، خلق أزمة اجتماعية واقتصادية معقدة، وبدل الذهاب إلى الاعتراف بتقصير السلطة في حق قطاع عريض من الجزائريين، يجري إعطاء الانطباع باكتشاف الأمر لأول مرة.
ولا يقتصر الأمر على المناطق المهمشة في المحافظات الداخلية والأرياف، فحتى العاصمة والمدن الكبرى تئن بداخلها أنفاس جزائريين داخل الأقبية والسطوح وحتى مغارات المدارج، حيث وقفت ” أخبارنا الجالية ” على مفارقة تحمل تناقضات صارخة؛ ففي العمارة التي يوجد بها مكتب ثاني الأحزاب السياسية في البلاد (التجمع الوطني الديمقراطي)، تقيم عائلة في قبو لا تدخله شمس ولا هواء، وفي مدخل واحد تتقاطع المعاناة مع رموز الحزب والمسؤولين المنضوين تحت رايته.
وحسب توقعات المختصين خلال العام الجاري، يبدو أن الجزائر التي أضاعت على نفسها فرصة الإقلاع مع الوفرة المالية التي تراكمت لديها خلال العشريتين الماضيتين (1200 مليار دولار)، سيكون وقعها ثقيلا على نقاط الظل، لأن الإرادة السياسية وحدها لا تكفي لرفع الغبن عن هؤلاء، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها وتقلص مداخيلها إلى أقل من 20 مليار دولار.
ورغم إفلات موازنة المناطق المذكورة من إجراءات التقشف المطبقة في البلاد، بسبب العجز المسجل في الموازنة وتقلص المداخيل، إلا أن حظوظ وآمال هؤلاء ضئيلة في استعادة شروط الحياة الكريمة، إذا لم يكن الأمر برمته مجرد مناورة سياسية، لاستدراك تداعيات الخيبة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، خاصة وأن طيف التغيير الذي راود الشارع الجزائري بمختلف مكوناته منذ بداية الحراك الشعبي في فبراير 2019، قد تلاشى في أفق تجديد السلطة لنفسها وممارساتها.