العنصرية في الجزائر لم تعد تُحتمل… وعطر «القوارص» يقتل المهمشين في تونس
ما تعيشه أمريكا من مظاهرات وأحداث شغب بعد مقتل جورج فلويد، بسبب لون بشرته وعنصرية الشرطة، يلقي بظلاله على الوضع في الجزائر متمثلا في قضية الطالبة المالية «عيشة»، التي يتناقل الإعلام قصة التنمر الذي تعرضت له، كونها «سوداء».
وذلك بعدما نشر موقع «غوته» الألماني حكايتها بقلم ليلى سعادنة، منتجة أفلام وثائقية وفنون بصرية، تناقلتها سائل التواصل الاجتماعي، من زوايا مختلفة. من خلال» قصص عن الهجرة: ما بين الأمل واليأس»، تروي ليلى سعادنة لقاءها بستة أشخاص من مختلف الخلفيات في العاصمة الجزائر.
تحدثت معهم عن تجاربهم الشخصية كمهاجرين في البلاد وأوروبا. ومن بين هذه الشخصيات، عائشة الطالبة المالية، التي غادرت بلدها وفضل والداها إرسالها للجزائر باعتباره بلدا مسلما.
كانت تعتقد أنه بلد منفتح يعيش فيه الناس سواسية. لكن الصدمة بدأت من المطار، وإن لم تكن وقتها تفهم معنى العبارة، التي صرخ بها أحدهم: «أهلا بك في الجزائر يا كحلوشة» والتي لم تكن سوى شتيمة مقيتة.
لكنها تذكر اللفظ جيدا. لفظ «كحلوش» أو «كحلوشة» أو «نيقرو»، عبارات عنصرية ألف الجزائريون إطلاقها على تدرجات ألوان البشرة السوداء، والتي تبدأ من السمرة. وتستعمل من الفئات كافة، وليست فقط من رعونة شباب طائش!
العنصرية في المؤسسات الرسمية تنتشر حتى بين طلائع المثقفين، ناهيك عن الأشكال الأخرى للعنصرية. هكذا عاشت عائشة وطالبات أخريات جحيم الشارع والحي الجامعي. لم تكن تعرف أن مشيتها وحيدة في شارع من شوارع المدينة المحافظة يعتبر ذنبا، يستدعي ملاحقتها ورجمها بالحجارة.
كما أن أحدهم وضع سجارته على ضفائر شعرها، فوق تسريحتها التقليدية، والكل كان مبتهجا لذلك الفعل المشين! فقط امرأة مسنة من ساعدتها على إطفاء اللهب؟ تعلمت أساليب الشتم الجزائرية بواسطة زميلاتها في الحي. أصبحت تقابل العنف بالعنف، لدرجة أنها كانت تمشي ومعها عصي لتدافع بها عن نفسها. «بدأتُ باستخدام العنف المضاد: إن ضربوا ضربتهم وإن لكموني لكمتهم…»!
ما حدث لعائشة فيلم رعب، معاناة صباح مساء. «وحتى في الجامعة فالإدارة لم تكن تبذل مجهودا في توعية الطلاب. وكل ما تقوم به هو تقسيمنا في مجموعات عمل بحيث لا نختلط مع الجزائريين. يريدوننا أن نندمج في المجتمع، ولكنهم في الواقع لا يريدون للاندماج الاجتماعي أن يتحقق. «عنصرية في كامل المحيط، حتى من طرف الأساتذة. كما حدث لإحدى الطالبات، التي سألتها الأستاذة إذا كانت بنتا أم رجلا، مضيفة أنها لا تستطيع التمييز بين الجنسين إذا تعلق الأمر بالسود.
تضيف عائشة قائلة إن المجتمع الجزائري منغلق وعنصري. ولا يدرسون تاريخ افريقيا. والصورة التي لديه عن افريقيا هي المرض والمجاعات.
عادت إلى بلدها بعدما حلقت شعرها مثل مغنيات الروك، وعندما رأتها والدتها في المطار على تلك الحالة كادت أن تصاب بسكتة قلبية، سألت ابنتها أين كنت؟ ردت عائشة: في الجزائر. ولكن ماذا حدث لشعرك؟ ترد البنت الجزائريون المسلمون الصالحون أحبابك أحرقوا شعري!
هناك من صدق القصة واعتبرها حقيقية جدا وعاشها وهو في الجامعة مع الطلبة من بلدان الساحل الافريقي، كما سردت الأستاذة مريم قنديل على صفحتها في الفيسبوك، وتؤكد على عنصرية الجزائري، مستدلة على ذلك، بما وقع لزميلها المالي أيضا، كان معها في جامعة «باب الزوار» للعلوم والتكنولوجيا.
كان مسلما يتحدث العربية، التي تعلمها في زاوية من زوايا الطريقة التيجانية المنتشرة في غرب افريقيا، بالإضافة إلى حفظه القرآن. فالحوار بين موسى وبعض زميلاته أزعج الكثير من الزملاء، خاصة الذكور. تقول: حجم العنصرية الذي رأيته يومها جرعة طفيفة من اللاحق.
أما الإعلامي لحسن حرمة، فكتب على صفحته في الفيسبوك: «رغم جرعة الدراما الزائدة حول التنمر وقد لا يكون كل شيء ولا يجوز تعميمها، هناك الكثير من القيم الجميلة لدينا، وقدمت الجزائر الكثير للافارقة على جميع المستويات، لكن أيضا يوجد جزء مخز من صورتنا نرسمه أو يرسم عنا ينمو في المجتمع، الذي لا نراه، ودائما نتغنى بنرجسية «نحن»، ونحاول تغطية وتبرير الزيف الزائف. أشعر بوجع الحزن.»
وهناك تعليق آخر للأستاذ المختص في التاريخ والآثار، حسين بوبيدي. حيث وجد قصة عائشة أشبه بالفيلم الخيالي. ومع اعترافه بوجود الظاهرة القميئة، لكن العجب أن لا أحد سأل عن صدقية القصة ومؤلفها. يواصل قائلا: أساتذة، محامون، صحافيون، كتاب صفحات، ذات متابعة كبيرة، كلهم نقلوا القصة ليقولوا: نحن أيضا عنصريون مثلكم يا أمريكان. فهو لا ينكر وجود العنصرية، بل ينكر التسرع في تبني قصة تشوه الجزائري، في سياقات العنصرية الأمريكية الحالية.
ويذكر زميله في الدراسة عبد الغني من النيجر كيف كان محبوبا من الجميع. فالأستاذ يرى أن التعميم لا يصح في كلتا الحالتين: لا توجد عنصرية مطلقة ضد السود ولا تسامح واحترام مطلق معهم. فلماذا الإمعان في جلد الذات، ولماذا المسارعة في نشر هذه الأخبار الزائفة؟
وآخر ملاحظة الأستاذ بوبيدي، كانت حول لغة الطالبة عائشة، حيث قال: «القصة مكتوبة بلغة عربية رائعة، وأنا أضمن لكم أن لا أحد من المالنكي أو السوننك أو البمبارة أو الفلان، يمكنه كتابة ذلك النص، الذي كتبه فايسبوكي قارئ جيد للقصص القصيرة والروايات الحزينة.
ملاحظة الأستاذ قد تكون صحيحة، لكن فعلا النص هو ترجمة قام بها شادي الحسيني، وأن الحوار كان بالفرنسية.
العنصرية ممارسة موجودة بيننا والتنمر على ذوي البشرة السوداء ما زال يأخذ أبعادا لا يمكن للقوانين الحد منها، بل تضخم أنا «اللون» الفاتح، و»اللغة والعرق الصافيين» وازداد انتشارا على منصات التواصل الاجتماعي.
وحده وعي الإنسان واحترامه لأخيه الإنسان. وحده الاختلاط بالمصاهرات ما يكسر «شوكة» النظام التقليدي، الذي يكرس لذلك الفصل. ويرجع الإنسان عن تكبره على إنسان مثله تماما. والكل سواسية في الخلق من تراب. وفي المصير النهائي.
«القوارص»: ومن العطر ما قتل!
أخذت حادثة عطر «القوارص» حصة الأسد من البرامج التلفزيونية التونسية، فتسارعت البرامج المعروفة في مختلف القنوات، التي تحظى بمشاهدات كبيرة إلى الوقوف على الحدث المأساوي، الذي عاشته منطقة الشوايفية في سيدي بوزيد. حيث قام برنامج «بلا قناع»، الذي يعرض على قناة «آم تونيزيانا» بتغطيتين عن الموضوع، الأولى بعنوان: «القوارص عطر الرحيل». والثانية: الشوايفية، سيدي بوزيد بعد القوارص. شباب واع لكن التقصير من الدولة.
كذلك تعرض برنامج «الحقائق الأربع» على قناة «الحوار» التونسي للحادثة المؤلمة، تخت عنوان «الزمبريطو القاتل».
الكل اقترب من أحد والدي الضحايا الثلاث. نعم أخوة ثلاثة لقوا حتفهم بسبب احتسائهم لقارورات عطر القوارص. أكبرهم يبلغ من العمر 40 سنة.
الكل أجمع أن ظروف عزلة المكان، وسوء المعيشة والأحوال والبطالة والفقر والجوع والعري، دفع بهؤلاء لشرب هذا العطر الرخيص الممزوج بكحول الميثانول!
المصاب جلل ووقع كالصدمة على والدي الشباب، لكنهم تقووا بقدوم القنوات، التي غطت الحادثة في غياب المسؤولين وغياب المساعدات الحقيقية لهؤلاء المعدمين من أبسط ضرورات الحياة.
أب مقعد وأم تقتات من ربطة «حلفاء» لا تملك بقرة ولا نعجة ولا حتى دجاجة، منهارة لكنها مرغمة على النهوض لاستقبال المعزين، وتحاول الصبر والوقوف من أجل ابنها الوحيد، الذي تبقى لها ومن أجل بناتها.
بينما الوالد بصوت مبحوح. بدون دموع، عبر عما حدث لأبنائه قائلا، إن من عمره 40 سنة بدون زوجة ولا بيت ولا متاع، أكيد يلجأ لاستهلاك القوارص. ثم يضيف: «عايشين مرهوبين، خايفين» تاعبين وسط الجبل. الأولاد عرايا، لا خدمة لا قدمة. الكل يشرب من مر الحياة.
إمرأة أخرى تصرخ: أولادنا ساترهم ربي. فقط الغاز الذي لم يستهلكوه. هناك من يسرق دينارا لوالدته، يشتري به قارورة قوارص. تلك القارورة التي أوصلته للموت. شبابنا ماتوا. ماتوا. امنعوا من ما زالوا من الموت. تبكي بحرقة. لم تعد لدينا حياة. منطقة معزولة زادتها طبيعتها والإرهاب مخاوف وظلمة، جعلت المسؤولين يتفادونها. منطقة خارج التنمية والتغطية والحياة الكريمة.
أراد شبابها أن يصنعوا جو سهرة خمرية بمشروب يقطع الأمعاء ويقتل. القوارص. ماء كولونيا يصنع من الحمضيات وخاصة اليوسفي والبرتقال والليمون في منطقة تتميز بتلك الأشجار. العيد لم يكن سعيدا مثله مثل بقية الأيام الأخرى لشباب منطقة سيدي بوزيد، خمس وفيات وعشرات المتسممين، الذين ما زالوا في المستشفيات. الكل ينتظر دوره.
هذه تونس بلا اقنعة. تونس خارج شارع بورقيبة العتيد الزاخر دوما بالمظاهرات من أجل الحريات. الحريات، التي أوجدت لتونس مكانتها بين الأمم. الباد التي تظاهرت بالأمس فقط تضامنا مع ناشرة «سورة كورونا» وفي حقها في التعبير، الذي لا تنازل عنه.
هذه «التونس»، التي لم تكلف خاطرها أن تتظاهر من أجل شباب يعيش أوضاعا مزرية دون كرامة. شباب لا يسكر وينتشي، بل تتشنج عضلاته وينتحر. ما زالت أخبار من يحتسون قارورات العطر المميت تأتي بالأسوأ.
هاهو شاب في 45 من عمره يتوفى في سيدي بوسعيد، جراء تناوله العطر، حسب ما أعلنه المدير الجهوي للصحة في سيدي بوزيد، وما نقله موقع «جوهرة أف أم».
موت بالجملة ولا أحد يتظاهر أو يهتز في الشوارع الآمنة الدافئة الجميلة.