الخريطة المغاربية والحمية الوطنية
عكس المفترض وبدلا من أن تنعش الأمل بتحقيق الحلم المغاربي المشترك، فإن أي نسخة تفصيلية للخريطة المغاربية صارت كفيلة بفعل الضد، وتقوية النزعات القطرية وجعلها تشتد. والأصل أن المغاربيين ليسوا في نزاع أو اختلاف أبدي على موطئ قدم، لكن تباين المواقف السياسية بين دولهم، جعلهم أبعد ما يكونون عن الاتفاق، ولو على تبعية بعض التراب لهذه الجهة أو لتلك. ففيهم المعترض وفيهم المتحفظ وفيهم من لا يرغب بالتورط في موقف قد يحسب لطرف دون طرف.
وهؤلاء جميعا يجعلون الوصول لإجماع، أمرا غير متيسر في ظل تعمق الانقسام المغربي الجزائري، حول أعقد الأشياء وأبسطها معا. ومع أنه سبق لجغرافي مغربي هو الإدريسي، أن أبهر في الماضي معاصريه، حين رسم أولى خرائط العالم، إلا أن الأجيال المغاربية الحديثة، ظلت تثير دهشة معاصريها لعجزها، لدواع غير جغرافية، عن الاتفاق على اعتماد خريطة وفاقية ونهائية لموطنها في الإقليم الشمالي من القارة السمراء.
فكرة المغرب الكبير لم تنضج بعد في أذهان الكثيرين، والذي كبر وتوسع النزعات القطرية أو الوطنية ذات النبرة الشوفينية الصاخبة والعالية
لكن من أين يبدأ المغرب الكبير وإلى أين يمتد؟ وهل أن مكوناته وعناصره الداخلية، قبل مجاله الجغرافي الخارجي معلومة ومضبوطة؟ أم أنها على العكس من ذلك مطاطة وقابلة للتغيير؟ قد يبدو الجواب الآن للبعض بديهيا ومفروغا منه، وربما قد يكون بنظرهم بلا موجب ولا طائل. فما يعرفونه، أن ذلك الهيكل الخماسي القائم فقط على الورق، ينفتح شمالا على البحر المتوسط، وجنوبا على أكثر من دولة عربية وافريقية، ويمتد شرقا إلى تخوم مصر وتشاد ويصل غربا إلى نواحي مالي والسنغال. ولكن إن كان الشيطان يكمن دوما في التفاصيل، كما يقال، فهل إنه يتخفى كذلك في جزئيات الخريطة المغاربية وتفريعاتها وتفاصيلها الداخلية الدقيقة؟ لعل كثيرين ممن قرأوا مقالي الأربعاء الماضي حول المغرب المعطوب، وجدوا أن لا صلة أبدا بينه وبين الصورة التي أرفقت معه، لكن القصة وما فيها أن ما كتب كان مقال رأي، وإن من وضع الصورة لم يكن قطعا من كتب النص، وإنه حالما تفطنت هيئة التحرير للخطأ العفوي وغير المقصود، بادرت في اليوم نفسه للتصحيح باستبدال الخريطة بصورة أقرب ما تكون لفكرة المقال، وبذلك كفى الله الكاتب والصحيفة شر الاتهامات، وكفى القراء المغاربيين، أو من اكتفوا بتأمل الصورة الخلافية شر التقاتل والتنازع في الموضوع.
وقد تكون الحسنة التي سببها ذلك الجدل، أنه اعطى دليلا لمن لم يملك الدليل بعد، على أن فكرة المغرب الكبير مازالت لم تنضج بعد في أذهان الكثيرين، بالقدر الذي قد يتخيله معظم المتفائلين، وأن الذي كبر وتوسع بالمقابل هو تلك النزعات القطرية أو الوطنية ذات النبرة الشوفينية الصاخبة والعالية. ولا شك بأن الوحدة المغاربية لن تختصر في تغيير سطحي للخرائط لا يلبي الهدف والمقصد النبيل للفكرة. فقد جرب المشارقة، وحتى العقيد الليبي الراحل القذافي نفسه مثل تلك العمليات، وانتهوا إلى الإقرار بضيق أفقها ووصولها إلى طريق مسدودة. وكانت للمغاربيين بدورهم بعض المحاولات، التي لم يكتب لها البقاء أحيانا أكثر من أربع وعشرين ساعة، مثلما حصل مع الجمهورية العربية الإسلامية التي أعلنها بورقيبة والقذافي في جلسة في جزيرة جربة في السبعينيات. لقد كان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وهو من وصفه البعض بالمهندس الفعلي، أواخر الثمانينيات لمعاهدة مراكش، حريصا على أن يضمّن في نص المعاهدة التي صادق عليها القادة المغاربيون الخمسة، فصلا ينص على أن تتعهد الدول الأعضاء «بأن لا تسمح بأي نشاط أو تحرك انطلاقا من أراضيها يمكن أن يعرّض للخطر أمن أو سلامة أراضي أي دولة عضو أو نظامها السياسي». وما كان يعنيه ذلك بشكل فعلي ومباشر أنه لن يكون أي بلد مغاربي قاعدة خلفية للبوليزاريو. أما بشكل ضمني، فإنه لن يكون ممكنا أن يفتح باب الاتحاد أمام عضو سادس، ولن تنضاف مستقبلا دولة مغاربية اخرى إلى الدول الخمس. ولكن المفارقة هي أن الجزائريين الذين ساندوا البوليزاريو، ومازالوا يرفضون السيادة المغربية على الصحراء، لم يعترضوا على تلك النقطة، ولا أثاروا ضرورة توسيع الاتحاد، أو تركه مفتوحا أمام جمهورية صحراوية مفترضة. وكان الطرفان المغربي والجزائري يعلمان جيدا حينها، أن أي إثارة للمشكل الصحراوي كانت ستعجل بإجهاض المشروع المغاربي ونسفه. ولكنهما قبلا بالأمر وحاولا الالتفاف على المشكل بدلا من حله.
والمنطق الذي قادهما إلى ذلك قد لا يختلف عن المنطق الذي دفع بالباقين ليقبلوا باتحاد مغاربي، قد يعني كل شيء عدا وحدة أقطاره، ويمنح دوله مطلق الحرية، لأن تحارب كل ما قد تراه مسا أو انتهاكا لما قد تعتبره سيادة وطنية. والمصيبة أن لا أحد يعلم بالضبط ما الذي تعنيه تلك السيادة، وهل أنها تنسجم وتتلاءم مع الفكرة المغاربية الجماعية؟ أم أنها تتناقض وتتعارض معها. لقد تربى المغاربة والجزائريون والتونسيون، وهم الذين شكلت أقطارهم النواة الأولى للخريطة المغاربية، على أن هناك أمما مغربية وجزائرية وتونسية. ورغم كل ما قيل عن حداثة تلك الشعوب ووعيها وانفتاحها، فإنها لا تبدو مستعدة للقبول بالتفريط في ما تراه جزءا من أرضها، ولو كان ذلك في سبيل قيام كيان مغاربي أكبر وأقوى. وربما سيكون أصعب اختبار أمامها الان، هو أن تعلم اطفالها لا رسم الخرائط الوطنية فحسب، بل كذلك رسم خريطة مغاربية يبقى الاتفاق النهائي حول تفصيلاتها عالقا ومؤجلا إلى وقت غير معلوم.